ما الذي يعنيه أن تخرج في مظاهرة
مازن كم الماز
إنه يعني أن تقول بصوتك أنت ما تشعر به أنت , أنك ترفع صوتك عاليا , عن الظلم الذي تتعرض له أو يتعرض له بشر آخرون , يعني أنك انتزعت , لأول مرة على الأغلب في حياتك , حقك في الكلام , أو حريتك في الكلام , ليس فقط أن تتحدث , بل إنك تحتج على الظلم الواقع عليك أو على بشر آخرين , و أنت لا تفعل هذا سرا كما يحصل عادة بل جهارا , أمام كل الناس , أمام من تعتقد أنه ظلمك ومن تعتقد أنه سيتعاطف مع قضيتك , إنك تكسر الإجماع الوهمي القائم على الصمت , صمتك أنت و صمت الآخرين , إنك تحطم وهم الخضوع للظلم القائم أيضا على الصمت , إنك و بصوت مرتفع تخلق حقيقة أخرى , واقعا آخر , غير ذلك الذي يتحدث عنه الإعلام الرسمي لنظام مدينتك أو بلدك أو شارعك أو للنظام العالمي الرسمي , إنك تعيد خلط الأوراق , فها هم الضحايا يحتجون , بصوت مرتفع فيعود الظلم ظلما و يتوقف الصمت عن أن يبقى حجابا يخفي الحقيقة أو حاميا للطغاة . هناك على الدوام العديد من الأسباب الوجيهة للإحساس بالغضب , لكن هناك أيضا دوما أسباب وجيهة أخرى لكظم هذا الغضب . إذا كنت تعيش في أي من الدول العربية فإن أولها هو قانون الصمت السائد , الذي يعاقب بقسوة على الهمس ناهيك عن الكلام بصوت مرتفع , في مجتمعاتنا التي تدار حقيقة بالحديد و النار فإن البوح بصوت مرتفع يعاقب عليه بقسوة , إن التظاهر في دولنا ليس نزهة , بل دعني أنصحك بأنك إذا امتلكت ما يكفي من مال لتذهب في نزهة أن تفعل , إن قوى الصمت شريرة و هي لا ترحم , تذكر أن القضية هنا تدور عن حريتك أنت في الكلام , و الإشارة إلى الظلم على أنه ظلم , و هذا تحد سافر للنظام القائم على الصمت و ممارسة الظلم على أنه من طبيعة الأشياء , إذا كنت تريد حريتك فاستعد لتدفع ثمنها , فهي للأسف باهظة الثمن , جدا أحيانا , و هي لذلك حتى اليوم مخصصة للأغنياء , بل إني أزعم أنها أغلى ما يمكن أن يملكه الإنسان . أما إذا كنت في أي مكان يمكن فيه للإنسان أن يتظاهر و يذهب بعد ذلك لشرب الشاي , فإنك تواجه إذن “الحكمة” التي تقول : و ما الفائدة ؟ لقد صممت الديمقراطية هناك بدقة شديدة بحيث أن الكلام يبقى كلاما و يبقى عاجزا عن تغيير أي شيء , ذات يوم ضرب بوش و بلير عرض الحائط بالملايين التي خرجت إلى الشوارع و أمرا بشن الحرب على العراق , كان درسا عن حقيقة الوجهة التي تتخذها ما يسمى بالديمقراطية و التي تستخدم أكثر فأكثر الوسائل و الخطابات الفاشية التي تقوم على خلق كراهية الآخر و فوبيا الخوف من التعدد و الإصرار على الفكر الأحادي و على الهوية الأحادية و ربط هذا كله بمفاهيم مثل الخير و الشر وصولا إلى تبرير قتل الآخر و استئصاله , يصبح هناك شكل واحد للحقيقة و يصبح الاختلاف إما جنونا أو هرطقة أو سذاجة , و الاعتراض على استئصال الآخر خيانة . أنت بالفعل لا تغير شيئا عندما تصرخ بما تريد , لكن تذكر أن نظام السادة يحتفظ بالحق في الكلام أو حرية الكلام للسادة أصلا و لمفكري النظام السائد , و أنه يصر على أن ممارسة الكلام أو التعبير خارج هذا المركز هي من باب العادة و التقليد لكنها يجب أن تبقى ممارسة معزولة و مراقبة حتى ما دامت لا تخضع لمشيئة القوى السائدة بل و ربما تتحدى سطوتها . إنك لا تمارس حريتك في الكلام فقط في وجه النظام السائد بل أيضا في وجه الناس السلبيين الذين هم أيضا يتعرضون لما تتعرض له . طالما كان الناس يعرفون دوما أنهم عرضة للتهميش و النهب و الاستغلال و التغييب و لا حاجة لأي دعاية أو تحريض هنا فالحقائق عند كل زاوية و وراء كل ركن , لكنهم إما لا يجدون جدوى في الاحتجاج أو لا يعرفون كيف يحتجون على ما يتعرضون له أو ليسوا مستعدين بعد لدفع الثمن الذي سيطالبهم به من يستغلهم و يهمشهم إذا رفعوا صوتهم في وجهه . في لحظات ما , يبدو لهؤلاء , أغلبهم أو أكثرهم , أن الكيل قد طفح , و الحقيقة أنه يكون قد طفح منذ زمن بعيد , لكن ثقافة قديمة عريقة في الخوف و التردد و الاستسلام تجعل حتى هذا الكثير يبدو مقبولا إلى يوم الانفجار , تذكر أن الجماعة قوة و أن المظلومين يكونون أقوى ما يمكن إذا كانوا معا ضد من يستغلهم . تذكر أنك تنتزع اليوم فقط حريتك في الكلام , أو غالبا في الصراخ فعندما ينكسر الصمت و تتحرك الحناجر التي أدمنت الصمت لا تكتفي بالهمس فقط , إنك لم تحصل بعد على حريتك كاملة و لا حتى منقوصة , إنك بالكاد بدأت تبحث عنها , لكن تذكر جيدا أن أول الغيث قطر ثم ينهمر……..
خاص – صفحات سورية –