صفحات مختارةميشيل كيلو

في أول الطريق

ميشيل كيلو
تحت بند “استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي” يطالب “المشروع النهضوي العربي”، الذي أصدره “مركز دراسات الوحدة العربية” في شهر فبراير/ شباط الماضي، بتحقيق الأهداف الخمسة التالية:
تحرير الأرض من الاحتلال .
مواجهة المشروع الصهيوني .
تصفية القواعد العسكرية الأجنبية .
مقاومة الهيمنة الأجنبية .
بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية .
يقر المشروع، بعد إيراد البنود الخمسة، أن الأمة العربية تعيش في الطور السابق لتحقيق أي واحد منها، فلا الأرض تحررت، مع أنها أعيدت ظاهرياً إلى أصحابها الأصليين . لتحريرها، ينصح المشروع باعتماد خيار المقاومة، وهي “معركة إثر معركة ومرحلة بعد مرحلة” . وقد “بدأت تتحول إلى عامل حاسم في صيانة الأمن القومي وإلحاق الهزيمة بمشاريع الأعداء”، فلا بد من “انكباب عربي شامل، رسمي وشعبي، على دعمها واحتضان فصائلها ومناضليها” (المشروع، الصفحة 108) . بالأمس القريب، كان العقل القومي يطالب الأمة بالمقاومة، ويعتقد أنه لا مقاومة إذا كانت الأمة لا تقاوم، فالأمة وحدها رافعة المقاومة، وأن باستطاعتها ممارسة المقاومة كفعل يصدر عنها مباشرة، مثلما حدث بالفعل، ذات يوم، في الجزائر والمغرب واليمن الجنوبي وفلسطين ومصر والأردن وسوريا . . الخ . أما اليوم، فالمشروع يقصد بالمقاومة حركاتها، لذلك يطالب الأمة بدور رديف يتلخص في “دعمها واحتضان فصائلها ومناضليها”، بينما يطالب حركاتها ب”تطوير أدائها وخطابها، وتعميق علاقاتها الوطنية والقومية والدولية، بما يعزز الوحدة على مستوى الأقطار وعلى مستوى الأمة، ويحول دون استدراجها إلى حالات انقسامية أو ممارسات فئوية تبعدها عن هدفها الرئيسي” . هذا الفهم للمقاومة يقوم على تركيب ثنائي المكونات والأدوار: يتكون من الأمة، التي لا تقاوم مباشرة وبما يتوفر لها من خبرة وقوة متنوعة الأوجه، وإنما يقتصر دورها على دعم حركات وتنظيمات المقاومة، التي يحذرها المشروع  في موقف غريب حقاً   من مخاطر استدراجها إلى الانقسام والفئوية (وهو تحذير جاء متأخراً، يشير باستحياء وغموض إلى واقع بعض هذه التنظيمات) . بالمناسبة، يتحدث المشروع عن واقع العرب المرعب بلغة لا تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، لذلك نراه يحجم عن تمييز مستويات المقاومة، ويقصر المقاومة على المنظمات المسلحة، ويتجاهل أن المقاومة السياسية كانت خلال حرب السويس أعلى وأجدى أشكال المقاومة، وأن هناك حركات مسلحة وجيوشاً لا تقاوم غير شعبها، وحركات اقتصر دورها “التاريخي” على المزايدة وممارسة الأنشطة الانقسامية، لأن مهمتها لم تكن مقاتلة العدو بل اختراق وتقييد المقاومة الشعبية والوطنية والتنظيمية الفلسطينية، وإرهاقها وإلحاقها بهذا النظام العربي أو ذاك . . الخ . في مشروع نهضوي عربي، المقاومة التي يجب البحث في سبل حفزها وتعزيزها لا بد أن تكون مقاومة الأمة، التي لا يجوز تقليصها إلى تنظيم هنا ونصف تنظيم هناك، حركة مذهبية على هذا الجانب، ونصف طائفية على الجانب الآخر .
تحت حيثية “مواجهة المشروع الصهيوني”، يقول المشروع: “بات يتعين على الأمة العربية ونخبها وقواها الحية أن تستعيد إدراكها لخطورة المشروع الصهيوني على مستقبل الوطن العربي ومصيره” . هذا كلام واضح وخطير: لقد أضاعت “الأمة ونخبها وقواها الحية” إدراكها لخطورة المشروع الصهيوني، فجاء المشروع يذكرها بما لم تعد تدركه: خطورة المشروع الصهيوني . بكلام آخر، يقول المشروع بطريقته: ليس هناك اليوم مواجهة للمشروع الصهيوني، على مستوى الأمة ونخبها وقواها الحية . هذا الاستنتاج الصحيح والملموس تماماً، والذي يصدقه ويتشاطره عامة العرب، يقوض ما توصلت إليه الفقرة السابقة حول واجب الأمة في احتضان فصائل ومناضلي حركات المقاومة . هل تحتضن الأمة وتدعم حركات مقاومة فقدت، مثلما فقدت هي نفسها، إدراكها لخطورة المشروع الصهيوني؟ ما نفع هذا الاحتضان، إن كان ممكناً ومطلوباً أصلاً في أمة فقدت هي ونخبها وقواها الحية إدراكها للخطر الصهيوني؟
ازداد عدد وانتشار القواعد الأجنبية في الوطن العربي، بعد “تحرره” من الاستعمار، بدل أن يتناقص . وتزايدت التسهيلات الممنوحة لقوات عسكرية أجنبية، مثلما تعاظم اعتماد النظم العربية على الحماية الخارجية، بينما تكاثرت الامتيازات والخدمات الممنوحة لقوات الدول الكبرى عموماً وأمريكا خصوصاً، حتى غطت البلدان العربية شبكة مترابطة من القواعد والمعسكرات ومناطق الانتشار العسكري، المرتبطة باستراتيجيات وخطط أمريكا ودول حلف الأطلسي الأوروبية، التي تشمل وطننا العربي وتتجاوزه إلى أعماق آسيا وإفريقيا . هذا ما يؤكد عليه المشروع النهضوي العربي .
يقر المشروع أن “الهيمنة الأجنبية بأشكالها المختلفة زادت بعد الحرب الباردة وانهيار التوازن الدولي وانفراد القطب الواحد الأمريكي بإدارة شؤون العالم، ثم بانهمار وقائع العولمة وما في جوفها من تحولات باعدت الفجوة بين الأقوياء والمستضعفين في العالم” . ويضيف “إن دفع تحديات الهيمنة يتطلب ترتيب البيت العربي من خلال إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، للتكيف مع عالم ينهض فيه العلم والتقانة والمعلومات بدور حاسم في تشكيل معايير القوة ومحدداتها ومؤشراتها” . ويلاحظ أن نهوض الوطن العربي “بأمر مواجهة تلك التحديات قد يتجاوز قدرته وإمكاناته الذاتية وحده، فلا بد من انخراطه في علاقات تعاون مع القوى والأمم والدول المتضررة من قوى الهيمنة العالمية كافة” .
أخيراً، تتطلب حماية استقلال الوطن العربي وأمنه ومكتسباته حيازة “قدرة استراتيجية ذاتية: دفاعية وتنموية وعلمية وتقانية”، يفتقر إليها اليوم، لذلك يعتبر بناؤها مشروعاً مستقبلياً لا يضمن أحد تحققه، وإن كان من الضروري التذكير بأهميته والمطالبة بإنجازه وتحديد سبل تحقيقه .
بعد أكثر من نصف قرن على بدء محاولة النهضة العربية الثانية، التي بلغت ذروتها مع ثورة مصر عام ،1952 يبدو أننا عدنا إلى نقطة قريبة جداً من الصفر، تقول الصورة التي يرسمها المشروع النهضوي لها إننا نفتقر اليوم من جديد إلى استقلال وطني، لأن أراضينا محتلة: إما بصورة مباشرة من قبل العدو “الإسرائيلي” أو بصورة غير مباشرة على يد أصحاب القواعد العسكرية المنتشرة في كل مكان من وطننا العربي، بينما غابت عن إدراك “أمتنا ونخبها وقواها الحية” خطورة المشروع الصهيوني، وتزايد عجزنا عن مقاومة الهيمنة الأجنبية بأشكالها المتنوعة، في وضع أهم سماته افتقارنا إلى قدرة استراتيجية ذاتية .
هذه جردة الحساب التي يخلص إليها مشروع مكرس للنهوض العربي، قدمه مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، الذي يجمع سائر المهتمين بالعرب على أنه حرس بأمانة فكرة وحدة العرب ورفع رايتها بلا تعب، وبقي موالياً للوحدة رغم ما أصاب الأمة من انتكاس وتراجع، لم يقلع عن تذكير الأمة بأولويتها وتعميق الوعي بها، وعن مطالبة الأنظمة بالعمل من أجلها . إنها جردة محزنة، تتحدث عن النهوض وضرورته بلغة سلبية: باعتباره واجباً وملزماً وملحاً، مع أن أسسه ومستلزماته ليست موجودة بعد، أو لم تعد موجودة في واقع العرب الراهن، الذي يكثر من أقاموه الحديث عن إنجازاتهم فيه، مع أنه واقع مأساوي كان قبل وصولهم إلى السلطة والحكم أفضل مما هو عليه اليوم، ومما سيكون عليه غداً، إن تواصلت سياساتهم وخياراتهم الحالية .
حدد المشروع عيوب الواقع العربي الراهن، وقدم رؤية عينت مفاصل ضرورية لاستنهاض الأمة، وهذا منجز حقيقي للعقل القومي/ الوحدوي، الذي أنجزه . لكن المشروع سكت تماماً عن الجهات التي تتحمل المسؤولية عن تراجع عربي شامل، تقر كل صفحة من صفحاته بوجوده . وهو لا يعرج على مسألة حاسمة الأهمية هي التالية: هل يمكن حدوث النهوض في ظل هذه الجهات، التي تمسك بالوضع العربي وتمارس عليه سياسات أدت إلى تراجعه وانهياره هنا وهناك وهنالك؟ هل يمكن إحداث نهوض عربي في ظل ميزان القوى السائد؟ وهل يحدث النهوض، على فرض أنه حدث، بموافقتها أم ضد إرادتها: باقتناعها أم بالضغط عليها، وتالياً بتحول حملته إلى وعاظ سلاطين أم إلى طلائع نضالية من المحتم أن تبدأ عملها بتعبئة قوى مجتمعية وسياسية قادرة على مواجهة ما في الواقع العربي، المفتت والمجزأ، من قمع رهيب، لا شك في أنه سيوجه ضدها أيضاً؟ أية مسارات سيجتاز المشروع في ظل هاتين الحالتين المتناقضتين، وما القوى التي ستحمل كلا منهما، وهي قوى القمة، المنظمة والمسلحة حتى الأنياب في الحالة الأولى، وقوى القاع المجتمعي والسياسي، المنزوعة السلاح والمبعثرة، في الحالة الثانية؟
هذه بعض التساؤلات التي يطرحها “المشروع النهضوي العربي”، وهو خطوة مهمة إلى الأمام بالمقارنة مع عقلنا العملي السائد، الذي كثيراً ما وصف حالنا، لكنه أحجم دوماً عن تبيان سبل وشروط الخروج منه، فجاء المشروع يسد هذه الثغرة، ليس من أجل أن يقفل الحوار والنقاش حولها، بل كي يبدأه من نقطة عملية، تفتح مناقشتها أبواب فكرنا على أسئلة واقعنا، علّنا نستعيد بمناقشتها قدرتنا على وعي شروط تغييره، وننطلق، أخيراً، نحو البديل المطلوب .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى