صفحات مختارة

اللادولة في العالم العربي.. جدل الطائفية والعشائرية

د. ريتا فرج
في الوقت الذي يُثار الجدل حول أفول الدولة في الغرب، فشل العالم العربي من المحيط الى الخليج في بناء دولة تحاكي الأنساق الحداثوية لأنظمة الحكم الديمقراطي؛ ولعل سطوة مفاهيم الطائفية والعشائرية في ديار العرب المترامية، تمثل احد أبرز معوقات هذا الهدف المنشود، وهنا، يأتي استحضار العلاّمة ابن خلدون، الذي استفاض في مقدمته بشرح طبائع العرب، وعدم انقيادهم للحكم، ليمثل حلقة الوصل التاريخية الممتدة على مدار قرون طويلة من التيه، بحثاً عن العقل السياسي أي الدولة الحديثة القادر على تدبير أمور الجماعة وفق آليات المواطنَة والمساءلة والعقد الاجتماعي؛ والحال لماذا أُجهــــضت تجربـــة الدولة الحديــــثة في مجتمعاتنا؟ وما معنى استفحال الارث الطائفي والقـــبلي في بيئة أخذت من الغرب أنماطه الاستهلاكية ولم تنجــــح في ملاقاته على مستوى العلم والحداثة السياسية؟ وهل الاستشهاد بابن خلدون في الأزمنة المعاصرة يقدم جواباً شافياً على طرحنا الإشكالي؟
تبدو معضلات انتاج الدولة الحديثة مزيجا لعوامل مختلفة، ورغم ثقل الموروث الاجتماعي، والمنظومة البطريركية، والاتجاه المفرط نحو الماضي، الذي يعيق في جزء منه مقومات الصرح المؤسساتي الذي هو الدولة، فإن أنماط القبلية والطائفية والتمذهب، تمارس الدور الأشد تأثيراً، وعليه كيف يمكن الحديث عن الجمع بين الخاص والعام، أي الثقافية المحلية للقوميات والاثنيات والأديان، التي تبدي ممانعة للتحاور مع الآخر وبين المواطنية؟
في هذا السياق تقدم الحالة اللبنانية أجوبة شديدة التشابك؛ فالمحلي/ المذهبي، الذي اتخذ لنفسه مواقع حغرافية، أو فيدراليات جاهزة للتعبئة، يرفض الانخراط في الدولة، وهو غير قادر على العبور من ذهنية النبذ والتناحر مع الذات والآخر الى عقلية الجمع على قاعدة تشييد نظام سياسي حديث، بمعنى أن الطوائف المنتشرة في لبنان، تتنابذ في ما بينها، وتمارس عنفها بشكل ضمني ومعلن تجاه بعضها البعض، ومرد ذلك عائد بالدرجة الأولى الى تغييب الممارسة العقلانية في ادارة شؤون هذه الطوائف الرافضة للمواطنية، التي آثرت البقاء في انغلاقاتها على وقع تجاذبها بين رجال الدين والساسة، الخائفين على سلطانهم من عقل الدولة، في حال اتخذ قرار ببنائها عبر الحوار مع المتعدد وإشراكه في الحكم، بمنهجية ترفض الانصياع لصيغة المناصفة. وطبعاً المعضلة اللبنانية تتخطى مؤاشرت الاستعصاء المشار اليها، فقد دخلت في أزمتها أقله من التأسيس لدولة لبنان الكبير عام 1920؛ وحجم الممانعة بين المحلي والوطني، كرسه الدستور، بدءاً من عام 1860 وصولاً الى اتفاق الطائف، الذي نص على إلغاء الطائفية السياسية، وطالب باللامركزية الادارية، بينما الثقافة السائدة بين الطوائف تحكمها ثلاثية، اثبات الذات، والخوف من الآخر، وعدم الالتزام بالقانون؛ وعلى هذا الأساس نلحظ أن فوضى الطوائف في لبنان وما ينتج عنها من عنف سياسي، يتخذ اطاراً دموياً في مراحل كثيرة، تشكل الجبهة الأولى ضد الدولة ومؤسساتها.
على ضفة العالم العربي، الذي سبق أن مر بتجارب الهم النهضوي بنكهة اشتراكية في اواسط خمسينيات القرن الماضي، والتي تراجعت لأسباب يتداخل فيها الخارجي مع الداخلي، لم تنجح أنظمة الحكم التي ورثت الارث السلطاني، على جبهتي الحكم الجمهوري والوراثي، في الاعداد لمقومات الدولة الحديثة، فالعشائرية أو القبلية فعلت فعلها، وتركت مؤثرات خطيرة داخل مؤسسات الحكم والادارات العامة، وباستثناء النظام السعودي المأزوم، الذي لم يمر بتجارب الديمقراطية، تحولت هذه الأنظمة مع الوقت الى نمط من البداوة الجديدة، فالتقاليد مارست حضورها وانتصرت على الملامح الأولية للاتجاهات النهضوية التي احتل سؤال الدولة الحديثة غالبية ادبياتها؛ وبصرف النظر عن جدلية العلاقة بين النخبة أو الانتلجنسيا والجمهور، لا مشاحة، أن المجتمعات العربية الآخذة في محاكاة الغرب على مستوى الحداثة المادية، تعيش ازدواجية او انفصاماً بين ارثها القبلي وصدامها مع عالم الشمال.
سياسياً، عجزت الأنظمة منذ مراحل الاستقلال عن استلهام أو توليد دعائم الحكم الحداثوي، فالمعارضة محاربة على جبهات متعددة، والحكام يمارسون أشد أنواع القمع، إما للابقاء على سلطتهم وثرواتهم المتراكمة، وإما لتوريث سلطانهم العابر للقرابة الدموية أو النهج السياسي، حتى عند الذين يكرس دستورهم النظام الجمهوري أو الرئاسي.
غلبة الطائفية والعشائرية، توازيها سيطرة الشعبوية، أو الجمهور المستلب عن واقعه، الذي تتقاذفه منهجية التوهيم بالدين حيناً، وبالحيلة السياسية حيناً آخر؛ وهو بهذا المعنى يمارس عنفاً طوعياً أو ذاتياً على نفسه، لدرجة أنه غير قادر على المطالبة بالحد الأدنى لحقوقه؛ وفي هذا المجال نتساءل، لماذا المواطن الغربي يتحرك في الشارع ويبدي معارضته لأي قرار يرى فيه إهداراً لحقوقه، في حين أن العربي يستكين للاذعان والهزيمة تحت شعار لعن الحاكم بصمت؟ ألا يؤشر ذلك الى عدم تدرجه نحو المواطنية ومفاهيم المساواة والفردية التي من شأنها أن تفسح المجال أمام المساءلة وحتى إسقاط الحكومات إن أخطأت؟
المشهد العربي يبدو مظلماً، فالديمقراطية التي يكثر الحديث عنها بين العامة والنخبة وأولي الأمر، لم تأخذ مسارها بعد، وأسباب هذا العجز متعددة، أولها، التوريث السياسي في الانظمة الملكية والجمهورية؛ ثانيها، إقصاء الجمهور عن صناعة القرار؛ ثالثها، العلاقات الملتبسة بين الطبقة الحاكمة والناس؛ رابعها، تجديد نمط الحكم السلطاني؛ هذه المسببات لا تجيب وحدها عن معضلة قيام الدولة الحديثة في العالم العربي المترامي الأطراف، الذي يملك ثروات لم يستطع حتى اللحظة توظيفها في التنمية البشرية والادارية والعلمية، فهل نحن ماضون في تثبيت الموت السياسي لهذا الشرق؟ ولماذا ضمُرت حركات المعارضة المنظمة عندنا مقارنة بمراحلها الذهبية اوائل الخمسينات والستينات؟ وأين هي النخبة من الأسئلة التي يرفضها الواقع المأزوم؟ ولماذا يدخل العرب في دائرة مغلقة من التخلف والاستبداد والقمع؟ أسئلة كثيرة، تقدم بعض الاجابات، وما يمكن التأكيد عليه، أن الدولة الحديثة لم تسلك مسارها التراكمي بعد؛ فالسلطة الحاكمة لا تعنيها هموم رعاياها، والانتلجنسيا العربية، وهي الفئة الأهم لجهة احداث التغيير، ما عادت تؤدي دورها أو أنها ذابت في أروقة الحكم، والجمهور غارق في فوضاه على إيقاع تشرذمه بين الوهم الديني والظلم السياسي.

‘ كاتبة وباحثة لبنانية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى