الجاليات العربية في أوروبا ومدى اندماجها في المشهد المدني والسياسي
سلام الكواكبي
في مرحلة كثرت فيها النقاشات الهادئة من جهة والجدالات المحتدمة من جهة أخرى بالتوازي مع استقطابات سياسية ودينية متعلقة بالتواجد العربي في الغرب عموماً وفي الدول الأوروبية خصوصاً، يبدو أنه من المهم محاولة التعرف على طبيعة هذه الجاليات من حيث توزعها العمري والوظيفي والجغرافي، إضافة إلى مدى انخراطها في العمل العام إن كان على مستوى دول الإقامة أو في بلدان المنشأ.
إن الجاليات العربية في أوروبا هي مكون غير متجانس لا من حيث الانتماء الجغرافي ولا من حيث التكوين المهني والعلمي ولا من حيث التركيبة العمرية وعلاقتها بسن الهجرة والاغتراب. فالاغتراب العربي في البلدان الأوروبية يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر بأعداد قليلة للغاية ازدادت مع ازدياد النفوذ الاستعماري لبعض القوى الأوروبية في بعض من المناطق العربية كما فرنسا في المغرب العربي وإيطاليا في ليبيا وإنكلترا في العراق. وقد جرى في مرحلة الحرب العالمية الثانية خصوصاً تطويع بعض العرب أو القادمين من دول عربية في الجيوش الأوروبية التي شكلت قوى الحلفاء في مواجهة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية. ولقد تميّز عمل البعض منهم وسُجّلت لهم مواقف بطولية لم تنفها حتى أعتى النفوس المعادية للعرب في قراءة التاريخ الأوروبي الحديث. وتلى انتصار الحلفاء وبدء عملية إعادة بناء القوة الصناعية الأوروبية الحاجة إلى أيدٍ عاملة هائلة العدد مما أتاح الفرصة لمئات الآلاف من قاطني شمال إفريقيا بالتحديد للتوجه فرادا، أي من دون عائلاتهم، إلى بلدان مثل فرنسا وإيطاليا، ومن ثم امتد تواجدهم من دون روابط استعمارية أو لغوية إلى ألمانيا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية الخارجة من حرب مدمرة والباحثة عن الأيدي العاملة الرخيصة. ولم يستمر التواجد الذكوري مسيطراً، إذ عرفت حقبة الستينات والسبعينات من القرن المنصرم تطبيق سياسة الالتحاق العائلي، بحيث اكتملت الأسر العربية بانضمام الزوجة والأولاد وحصولهم على الحق بالتواجد إلى جانب الزوج العامل وتكوين جماعات أسرية والالتحاق بالمدارس والجامعات والتمتع بحقوق اقتصادية وصحية معينة. وتجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبته الجالية الجزائرية في فرنسا إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر في دعم المقاومة الجزائرية سياسياً ومالياً وتنظيمياً. فلقد استفادت هذه الجالية، وعلى الرغم من انتماءها إلى بلد محتل من قبل الدولة التي تقيم وتعمل فيها، من هامش مهم نسبيا من حرية الحراك السياسي وتضافر قوى اليسار الفرنسي مع نضالها “السلمي” ومع سعيها إلى رفع الاحتلال عن بلدها الأم. وشهدت باريس مثلاً تظاهرات ضخمة، لم تكن دائما سلمية المصير، ضمت أبناء الجالية إلى جانب مناصريهم من الفرنسيين. وقد لعب هذا النشاط دوراً هاماً ومؤثراً في إيصال صنّاع القرار الفرنسيين إلى الانصياع أمام إرادة الشعب الجزائري بالحرية وبالاستقلال.
وكذا، شهدت الستينات والسبعينات من القرن المنصرم نشاطاً ملفتاً للجاليات العربية أو القادمة من بلدان عربية، فيما يتعلق بلمف الصراع العربي الإسرائيلي، ولقد استفاد هذا الحراك أيضاً من هامش حرية التنظيم والاجتماع الموجود في بلدان الغرب الأوروبي على الرغم من الضغوط الهائلة التي تعرض لها من قبل العناصر المؤثرة الناشطة في السياسة وفي الإعلام والمناصرة لإسرائيل إما لانتماء ديني أو لقناعة إيديولوجية أو لمصالح آنية.
ولكن الحالة اختلفت في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي مع اشتداد الأزمات داخل المنطقة العربية وتغير نوعية انعكاساتها على الجاليات العربية في أوروبا. وتبين بوضوح أن هذه الجاليات على مختلف مشاربها، لم تقم بتنظيم نشاطاتها ومأسسته ولم تندمج في الحراك المجتمعي والسياسي لبلد الإقامة ولو أنها في غالبيتها قد حصلت على جنسيته. وظهرت تأثيرات الخلافات السياسية ما بين العربية على طبيعة العلاقات فيما بين الانتماءات القطرية، وتعمق ذلك أكثر من خلال الخلافات المحلية لدى أبناء البلد الواحد بناءً على انتماءات مذهبية ودينية وقبلية رافقتهم في حلّهم وفي ترحالهم. وقد أثّر ذلك بوضوح شديد وصارخ على نوعية التأثير الذي يمكن لهذه الجاليات أن تلعبه على الساحة الأوروبية فيما يتعلق بطبيعة ما يجري من أحداث داخل المنطقة العربية، بل وحتى فيما يخص حقوق بعض أفرادها التي تتعرض في بعض الأحيان للغبن اقتصاديا وقانونياً. ولكن هذه النقطة الأخيرة لا تنفي البتة تمتع أفاردها المقيمين بصفة شرعية بكافة الحقوق والتي تتجاوز بسنوات ضوئية ما يمكن لبعضهم التحصل عليه في بلدانهم الأصلية.
ولقد لعبت، وللأسف، البعثات الدبلوماسية لبلدان المنشأ أدوراً سلبية في غالب الأوقات من خلال محاولة السيطرة على العمل التعبيري أو المطالبي لأي تجمع اغترابي واستقطابه لصالح الأنظمة التي تمثلها وليس لصالح قضايا يمكن للعرب أن يجتمعوا عليها من محيطهم إلى خليجهم، وما أكثرها. وكذلك، لعبت الانتماءات الدينية والإثنية دوراً سلبياً في شق صفوف الجاليات العربية وإبعادها عن العمل المشترك في مختلف المجالات. فمن الناحية الدينية، أضحى الانتماء والالتزام الديني أكثر أهمية من الانتماء القومي أو الوطني، ويؤثّر ذلك في طبيعة تمثيل الجاليات في المشهد السياسي العام لبلدان الاستقبال. وكذا، لعبت الانتماءات الإثنية لبعض القادمين من دول عربية دوراً في تمييز مطالبهم عن أشقاءهم، كما الأكراد القادمين من سوريا ومن العراق، والأمازيغ القادمين من المغرب والجزائر. فسياسات التغييب القطرية داخل بعض الدول العربية لمكونات مجتمعاتها غير العربية، انعكست أيضاً على تواجد ممثلي تلك الأقليات أو الأكثريات المهمشة على الساحة الاغترابية. وما دام الشعور الديني أو القومي مسيطران على هذه الجاليات، يبدو أن الأمل في قيامها بالتأثير وبالتفاعل سياسياً واجتماعياً في بلدان الاستضافة أو الانتماء الجديد يبقى ضئيلا للغاية. يضاف إلى هذه النقطة، محاولة بعض الجهات الأوروبية اللعب على هذه التنقاضات من حيث تحفيز القيام بتجمعات “تمييزية” تستند إلى إثنية أو إلى دين، وبالتالي، تعزيز الانشقاق وإضعاف الفاعلية لأي عمل مشترك متعلق بالوضع المعيشي أو المتعلق بما يحصل في المنطقة العربية.
ويحضر هنا موضوع الأجيال المتعاقبة، فكما تبدّى لنا من الاستعراض التاريخي، فنحن أمام بروز الجيل الثالث وحتى الرابع من المهاجرين العرب من جهة، ومن حدوث هجرات حديثة جلبت شباناً في السنوات القليلة الماضية يحملون خبراتهم العلمية أو خيباتهم الاقتصادية أو همومهم السياسية التي سببت لهم الإقصاء في مجتمعاتهم الأصلية. وفيما يتعلق بأجيال المهاجرين التي تعاقبت من دون انقطاع، يمكن القول أن الاندماج، على الرغم من الصعوبات البنيوية ومن الصورة القاتمة التي تروج لها بعض وسائل الإعلام، قد نجح ولو نسبياً. ولكن هذا النجاح لا يحمل في طياته نجاحاً موازياً على مستوى الانتماء إلى القضايا العربية الكبرى إلا من خلال العامل الديني. ونجد مثلاً أن انخراط أبناء المهاجرين في المظاهرات التي خرجت في أوروبا والتي ارتبطت بأحداث العراق أو لبنان أو غزة، كان الدافع الإنساني/الوطني محدوداً خلالها أمام “طغيان” الدافع الديني، مما أثّر سلباً على التحاق المواطنين الأوروبيين بالحراك في بعض الأحيان لما وجدوا فيه من إقصاءٍ للمفاهيم الإنسانية الكونية وتركيزاً على الانتماء الديني الذي يتعرض لهجوم من أتباع أديان أخرى. فكما تحدث الخطاب اليميني الأوروبي المحافظ عن غزوٍ إسلامي، قابله خطابٌ “يمينيٌ محافظ” هو أيضاً من الجانب العربي يركّز على العداء “للصليبية واليهودية”. وقد شكّل هذا بمجمله خبزاً مباركاً لمن يريد للعمل العربي الاغترابي أن يكون محدود التأثير وبل ذو تأثير سلبي.
إذاً، تفتقد الجاليات العربية أو القادمة من البلدان العربية لمنهجية عمل مشتركة، أو على الأقل متقاطعة، كما هي حال بعض الجاليات الدينية أو القومية أو الوطنية الأخرى. ويضاف إلى ذلك وجود شعور قوي لدى جزء من أبناء الجيل الثالث بأزمة هوية تعزّز من عملية إقصاءهم المجتمعي والمهني، وخصوصاً في أوساط ضعيفي التعلّم منهم. فلا هم أبناء بلدان آباءهم وأجدادهم، ولا هم منتمون إلى بلد إقامتهم على الرغم من حصول أغلبيتهم على جنسيته وتمتعهم بحقوق المواطنة الكاملة. فتبرز مشاكل اجتماعية وأمنية في بعض الأحيان يكونون في صميمها وتستغلها القوى اليمينية في وضع فئة المهاجرين في بوتقة واحدة وإبراز صعوبة اندماجهم المتخيّلة. وبالمقابل، قليلة هي الجهود التي تقوم بها المنظمات أو التجمعات التي تحاول أن تعبّر عن هذه الجاليات، بل إنها ونظراً للتجاذبات السياسية والدينية، تسيء إلى هذا الهدف أكثر مما تفيد في أحيان عدة. ويلعب التفسير الضيق والمنحرف للدين الإسلامي وتعاليمه دوراً سلبياً في إضفاء صفة المشروعية على الاتهامات اليمينية. ويمكن الاعتقاد بمحدودية التصرفات المرتبطة بهذا التفسير المغلوط أو بتأثير بعض المدارس المتطرفة على عقيدة أبناء الجالية، ولكن الأمثلة تقفز إلى مقدمة المشهد الأوروبي كما فعل أحد سائقي الحافلات في مدينة بريطانية، حيث توقف للصلاة مغلقاً الباب على الركاب، وكما يقوم البعض من الأهالي بتعنيف بناتهن وحتى قتلهن بدافع ما يسمونه الشرف، وكما يدعو إليه عدد من أئمة المساجد في مدن بريطانيا وهولندا وفرنسا وغيرها أتباعهم إلى عدم الانصياع إلى قرارات وأنظمة البلاد المضيفة كونها “بلاد حرب” وهم فيها يجاهدون في سبيل تحويلها إلى الصراط المستقيم. وعلى محدودية هذه الظواهر، يبقى أثرها الإعلامي والتعبوي كبيراً ومسيئاً للغاية.
أما فيما يتعلق بالتأثير السياسي ومحاولة التواصل مع قضايا المنطقة العربية، فيبدو أن هناك حرص من الأغلبية الصامتة من الجاليات العربية أو القادمة من بلدان عربية على أن تبقى سلبية المشاركة والانهماك في الشأن العام. وربما ينبع ذلك من ضع الثقافة السياسية الوارد معها من دولها الأصلية حيث تفتقد عديد من المجتمعات العربية إلى الممارسة الديمقراطية الصحيحة للشأن العام وتفتقد أجيال بمجملها لثقافة المشاركة في الحياة المدنية. ويبدو أن عامل الخوف من السياسة يلعب دوره في إحجام البعض ويرتبط ذلك بالدفاع عن مكتسبات اقتصادية ووظيفية، يعتقدون مخطئين، باحتمال تأثرها وهم بذلك يحملون إرثهم السياسي القائم على ثقافة الخوف التي حملوها في حقائب سفرهم وهم قادمون. وكما سبق ذكره، يبرز فقط العامل الديني كعنصر جامع ومحفّز للبعض من الظهور على المشهد العام، مما يسيء عن قصد أو لا قصد إلى القضايا الإنسانية الأساسية التي يجب على البشر على مختلف انتماءاتهم، الدفاع عنها. فأن تبرز فئة، ولو محدودة، في مظاهرات دعم صمود غزة وأفرادها يلبسون الثياب الأفغاني ويصرخون بالدعوة إلى الجهاد ضد الصليبيين واليهود ويقيمون الصلاة في الشوارع الرئيسية للعواصم الأوروبية إبّان خروج الملايين من “الكفرة” الأوروبيين لدعم قضية غزة التي تخصّ الإنسانية جمعاء، لهو أمر يحبط الغالبية من أبناء الجاليات العربية وكذلك الفئات الأوروبية المتضامنة ويبعدها عن المشاركة في هذا النشاط. وفي فترة قريبة، ومع اقتراب الانتخابات في عديد من الدول الأوروبية، استغلت القوى اليمينية قضايا مثل المآذن والبرقع لحشد التحسّب من تواجد متزايد، ولو نسبياً، للقادمين من الدول العربية والإسلامية. ومقابل هذا التحرك الذي نجح في إشغال الرأي العام عن قضايا أكثر أهمية، برز الانغلاق التام من قبل الجانب المعني، فلا أثر لأي تحرك توعوي أو إعلامي للمثلي الجاليات المعنية وبل فقد آثروا الصمت في بلدان حرية الكلمة فيها راسخة. وقد أِشار المفكر الإسلامي السويسري من أصل مصري، طارق رمضان، خلال تعليقه على الاستفتاء السويسري على قضية المآذن، إلى غياب كامل للنشاط السياسي والمجتمعي العربي والمسلم في المرحلة التي حفلت فيها سويسرا بالنقاش، وبل حتى، لقد لاحظ رمضان أن هناك استنكاف كامل عن التصويت لدى من يتمتع منهم بجنسية البلد. ففي هذا الإطار، لم يلجئ أحدهم إلى ممثله النيابي أو إلى صحيفته المحلية ليعبر عن موقفه. التزموا الصمت والسلبية وصرخوا بعد ظهور نتائج الاستفتاء عالياً. وكذلك الأمر فيما يتعلق بأمور عديدة تستغلها بعض الفئات السياسية اليمينية ويقابلها استنكاف من أبناء الجاليات عن التحزّب في القوى المقابلة. فنجد عدداً شبه معدوم في حركة الخضر التي تعرف صعوداً بارزاً في الساحات السياسية الأوروبية، وكذلك في الأحزاب الاشتراكية واليسارية، وربما يعود ذلك إلى موقف ديني يدفع بأصحابه بالاقتراب أكثر عقائدياً من أحزاب اليمين المحافظ منها إلى أحزاب اليسار. على الرغم من ذلك، برزت بعض الحالات الاستثنائية التي يمكن لها أن تفتح فجوة في جدار الصمت والاستنكاف والسلبية، فنحن نجد مثلاً، انضمام إحدى المحجبات من شمال إفريقيا إلى القائمة الانتخابية لحزب يساري فرنسي، وبروز رئيس بلدية مغربي الأصل في مدينة روتردام الهولندية، ووجود لبرلماني دانمركي سوري الأصل وسبقه منذ سنوات سوري أخر كعضو في برلمان محلي ألماني، ولكنها تظل حالات استثنائية لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وأبرزت الدراسات المتعلقة بالمشاركة الانتخابية عزوف العدد الأكبر من أبناء الجاليات العربية عن التصويت، وبالتالي، انعدام أخذ أصواتهم في الحسبان من قبل القوى السياسية الأساسية وفقدان إمكانية تأثيرهم في الساحة السياسية والبلدية. وفي مقابل بروز بعض الشخصيات ذات الأصل العربي في المشهد العام سياسيا أو اجتماعياً في بعض الدول الأوروبية ولعبها لدور إيجابي نسبياً، لجئ نيكولا ساركوزي بعد وصوله إلى سدة الرئاسة في فرنسا إلى ضم بعض الأسماء ذات الأصول العربية إلى حكومته سعياً إلى إضفاء صفة التعددية والانفتاح ولكن هذا النشاط اعتمد على بعض الرموز التي بحثت عن بروزها الشخصي مهمشة انتماءاتها ومنخرطة في سياسة محاباة ومزايدة بحثاً عن المنفعة الذاتية.
وفي المحصلة، يبدو المشهد الأوروبي خالياً من أي تأثير لأبناء الجاليات العربية أو القادمين من دول عربية إلا في حالات استثنائية، وكذا يبدو ارتباطهم بقضايا وهموم ونضالات بلدانهم الأصلية على مختلف الأصعدة.
وأضحى من السهل إلقاء اللوم على نفوذ بعض قوى الضغط غير العربية على ماركز صنع القرار الأوروبي في حين أن الجاليات العربية غير قادرة على التنظّم في جمعيات على المستوى الوطني حتى لا يتعد بنا التفاؤل بانتظار تضامن وتكافل إقليمي. وحتى داخل أبناء البلد الواحد، كما تبين لنا سابقاً، فالانتماءات الطائفية والمذهبية والمناطقية تبرز بوضوح أمام أي انتماء جامع آخر. واللوبيات الأخرى، وخصوصاً اليهودي منها، لا تجد نفسها بحاجة إلى بذل المجهود الكبير للإساءة لصورة الجاليات العربية إن هي أرادت، فالمعطيات الذاتية متعددة ولا تحتاج إلى إضافات. ويجب على المراقبين أن يقتنعوا بداية بأن اللوبيات الأخرى وخاصة اليهودية منها، تسعى إلى إعلاء مصالح المنتمين إليها قبل كل شيء وإن كان هذا السعي مفتقداً لدى قسم كبير من المنتمين إلى المنطقة العربية، فاللوم لا يقع دائماً على الآخرين. ويكفي أن نلاحظ جهود وتنظيم اللوبيات التركية والأرمنية وغيرها حتى نتنبه إلى الخلل البنيوي في عمل الجاليات العربية. يضاف إلى ذلك، الأثر السلبي الذي تلعبه الممثليات الدبلوماسية العربية في المجمل بحيث محاولتها تمثيل الأنظمة وليس الأوطان، مما يقودها إلى التمييز بين أفراد الجالية الملتحقة بها والسعي أحياناً كثيرة إلى بث الفرقة بين أعضاءها. وتسعى أيضاً إلى التأسيس وتدعيم استقطابات سياسية بعيدة عن مبدأ المواطنة بحيث أنها تحاول أن تخلق نوعاً من الميل السياسي للأنظمة التي تمثلها بعيداً عن الانتماء المدني والوطني. أضف إلى ذلك، طغيان العامل الديني الذي يؤجج المشاعر ويساهم سلباً في عملية الاندماج الاجتماعي وفي فعالية التأثير المحلي داخل بلاد التواجد الأوروبية.
من خلال هذا المنطق، من الحتمي أن تبتعد الممثليات الدبلوماسية عن محاولة تعزيز الاستقطابات السياسية لفائدة أنظمة بعينها وأن يتعزز أكثر نشاط المجتمعات المدنية للجاليات العربية أو القادمة من دول عربية، بحيث تأخذ مكانها الذي تستحق على الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية حيث هي. ويتم ذلك بالتأكيد بالتعاون مع المجتمعات المدنية الأوروبية حيث أنها تنطلق من قناعة مفادها أنها تشكل جزءاً منها وتستفيد من تجاربها ومن شبكات تواصلها. وفي هذا الإطار، يجب أن يبقى العامل الديني حيادياً ومرتبطاً بالشق الروحي والشخصي لمن ينتمي إلى مختلف الديانات وأن لا يشكّل عاملاً أساسياً للنشاط وللتواصل والتأثير في مجال عمل الجاليات. ويمكن له في أحسن الأحوال أن يعبّر عن بعد ثقافي له خصوصية معينة تساعد على تعزيز التأثير والفعل وليس العكس كما هو الحال عليه الآن في أغلب الحالات.
من الصعب إنهاء هذا المقال بالتركيز على الجانب السلبي أو على الأقل غير المشرق في الحالة التي وصلت إليها الجاليات العربية أو القادمة من دول عربية في أوروبا، ولكن الحقيقة المؤلمة تحفّز على الاتيان بخطوات مثمرة فيما يتعلق بالوعي الكامل بالواقع المعاش واستقصاء أسباب العلّة ومحاولة إيجاد المخارج المناسبة والطموحة من دون مبالغة للخروج من عنق الزجاجة.
على المجتمعات العربية أو المتحدرة من أصول ومن بلدان عربية وتقيم في أوروبا أن تعي بشكل كامل ونهائي بأنها تشكّل لبنة أساسية في بناء المجتمعات الأوروبية إن هي أحسنت استغلال المناخ الديمقراطي وعززت من مشاركتها في الحيّز العام وابتعدت عن السلبية عموماً والحيادية في أحسن الأحوال. وللوصول إلى ذلك، من الهام جداً تحييد العامل الديني من دون أن يجري نفي تأثيره الثقافي والروحي على الأبعاد الشخصية للأفراد. إضافة إلى ضرورة أن تقتنع الممثليات الدبلوماسية العربية بالعمل لمجموع المواطنين، أو على الأقل، أن تتيح الإستقلالية المطلوبة والمفقودة للمبادرات الاغترابية. وهنا يبرز دور المجتمع المدني الذي يمكن أن يكون الإطار الأمثل للتنظيم وللتنشيط في أوساط هذه الجاليات وبعيداً عن الانتماءات الضيقة بالاستناد إلى تجارب الدول الأوروبية وبالتفاعل معها لما فيه الخير العام والفائدة الشاملة. ويبقى البعد الثقافي الذي يمكن تعزيزه بحيث يؤثّر في الاندماج وليس في التباعد لما تعرفه المجتمعات الأوروبية، وعلى الرغم من حساسية عنصرية جزئية لمكونات منها، من تعددية راسخة ومن قابلية دائمة للتفاعل مع الثقافات الأخرى.
إن حالة الجاليات العربية أو القادمة من بلدان عربية تعكس حالة المجتمعات العربية ذاتها، فإن كان هناك تطوّر سياسي ودمقرطة ونمو اقتصادي وثقافي في الداخل العربي، سينعكس ذلك بالتأكيد على تفاعل الجاليات في الاغتراب معه ومع قضايا المنطقة والإنسانية بشكل عام.
عن مجلة شؤون عربية العدد 141 ـ ربيع 2010