دولـة أم دول قطريـة؟
ميشيل كيلو
-1-
في النظرة التعميمية، تتساوى الدول العربية القائمة في صفة رئيسة هي القطرية. إنها صفة يظن أصحاب هذه النظرة أنها تعرفها وتستنفذ خصائصها وتجب صفاتها الأخرى جميعها، وتجعلها كتلة واحدة لا فروق بينها، فهي في منطق هؤلاء «صفة جامعة مانعة».
أما في الواقع، فتختلف الدول العربية بعضها عن بعض: في أبنيتها وسياساتها وأيديولوجياتها ووظائفها. لذلك، تبدو القطرية صفة برانية لا تحيط معرفيا، وحتى وصفيا، بالسمات والأدوار الحقيقية للدولة العربية الراهنة، ولا تعيننا على فهم الظواهر والكيانات السياسة في عالم العرب، بل تحجب بالأحرى حقائقها، حتى ليصح اعتبارها مصطلحا سطحيا وتضليليا ضرره أكبر من نفعه، أسهم خلال حقبة طويلة من تاريخنا الحديث في دفع فكرنا القومي بعيدا عن الواقع ومشكلاته، وأخذه إلى فسحة مفعمة بالتهييج الشعوري والعاطفي، آمن بضرورتها لتنفير المواطن العربي من دولته «القطرية» وترغيبه في دولة العرب الواحدة: التي زعم أنها ستكون حتما نقيض الدول القائمة، التي يتظاهر في كثرتها المدى الذي بلغه انحراف «الأمة» السياسي عن حالتها الطبيعية، ومجافاة هويتها ودورها ووجودها لفطرة العربي القومية الأصيلة، التي تسوقه سوقا نحو الوحدة، بينما تبعده القطرية عنها، بقوة دولها القائمة، فلا طريق إلى استعادة حالة الطبيعة وغير ذلك الذي يمر على جثة الدولة القطرية، ولا وحدة عربية مع توزع الأمة على دول مختلفة، تعيدها إلى زمن ما قبل أموي/ ما قبل قومي، يمكن لأعدائها منها.
ومع أن ممثلي الفكرة القومية دأبوا على توزيع الدول العربية إلى رجعية وتقدمية: دول قومية النزعة والسياسة وأخرى معادية للأمة، فإنهم ظلوا مخلصين لمنهجهم التعميمي، حتى أنهم ميزوا في كثير من الأحيان بين طابع بعض الدول القائمة، التقدمي والقومي، وبين بنيتها كدول تجزئة قطرية، الأمر الذي أربكهم وجعلهم يؤيدون طابعها ويعارضون بنيتها.
لم يأبه الفكر القومي للمعاني الكامنة في هذه المفارقة، ولمدلولاتها السياسية وما تضمره من إشارات إلى ممكنات تستند الى التمييز بين الدول، التي لو كانت قطريتها هي التي تعين سلوكها وخياراتها، لكانت ألزمتها بسياسات واحدة ومواقف متماثلة، في جميع الظروف والبلدان. استمر هذا الفكر في الحديث عن القطرية كسمة مصطنعة وضد تاريخية، ما إن أحدثها الاستعمار الأوروبي حتى تناقضت الدولة العربية فطرة الأمة الوحدوية، ووطدت تجزئتها وأدامت تبعيتها الخارجية. والنتيجة: لن يخرج العرب من هذا المأزق الوجودي إذا لم يقوضوا الدولة العربية القائمة ويؤسسوا دولة واحدة تقوم على أنقاضها، هي نقيضها المطلق بقدر ما هي الوحدة نقيض القطرية المطلق، وبقدر ما يستحيل أن تتصالح القومية مع القطرية أو أن تتعايش معها، ويستحيل كذلك وجود أشكال وسيطة بينهما أو حالات انتقال من التجزئة إلى الوحدة، تسبق قيام الدولة الموحدة، على غرار ما حدث في تاريخ العالم.
[[[[[[
وكان عقل سياسي سائد قد اعتقد أن الانفصال عن الدولة العثمانية سيأخذ العرب إلى دولة عربية واحدة هي دولة الوحدة العربية. هذا الاعتقاد سيطر على الأجواء السياسية والفكرية إلى درجة أن أحدا لم يشكك فيه أو يناقش بدائله. في هذا السياق، رأت النخب السياسية في اتفاقية سايكس/ بيكو، التي فرقت العرب على دول متعددة رسمت حدودها بالمسطرة، خطوة تحاول تعطيل الوحدة، ومرحلة تقطع، بصورة مؤقتة حتما، سير الأمور الطبيعي والحتمي نحوها. وآمنت بأن تحقيق الوحدة سيكون بعد ذلك رهنا بإخراج الاستعمار من الدول الجديدة، التي ستواصل طريقها، الذي انقطع، إلى وحدة الأمة، بعد استقلالها، فلا ضير في قبولها، ما دامت ستمارس دور دولة وطنية ستركز جهدها على طرد الأجنبي، على أن تستأنف سيرها نحو وحدة العرب، التي ستلغي الدولة بقوة التلازم بين الوحدة كحقيقة للوجود العربية وبين طابع الدول العربية المؤقت والعرضي، ولأن الوحدة تلبي رغبة عربية سيحققها على خير وجه نظام حكم تمثيلي سيعبر عنها هو أقرب النظم الحديثة إلى النظام الشعبي، فليس من المقبول رفض الدولة الوطنية، ما دام رفضها يعني إطالة فترة الحكم الانتدابي، الاستعماري، وحرمان الشعب من الحاضنة السياسية الضرورية لاستمرار العمل من أجل الدولة العربية الواحدة: بإرادته الحرة واختياره المباشر.
عندما خرج الاستعمار، تبين أن قيام الوحدة العربية ليس بالسهولة التي افترضها «الفكر القومي» خلال الحقبة السابقة للحرب العالمية الأولى، ذلك أن الدولة بدأت تنخرط في متاهات داخلها وتناقضاته، وتتعرض لأخطار خارجية كالخطر الصهيوني في فلسطين، وتعمل على تغليب طبقات وفئات اجتماعية على طبقات وفئات أخرى. وحين بدا وكأن طابعها الوطني غدا موضع شك جدي بسبب فشلها في فلسطين، وافتقارها إلى استراتيجيات تنموية وسياسات عادلة ونظم ديموقراطية، بدا وكأنها تتطابق مع ما كان يقوله عنها نقادها القوميون من المدرسة التي نشأت بين الحربين العالميتين: فهي دولة قطرية تديم تجزئة الأمة، تخدم طبقة برجوازية/ إقطاعية عميلة للاستعمار، أقامت «نظام التخت والمزرعة»، على حد قول ميشيل عفلق وصلاح البيطار في واحدة من نشراتهما ضد حكومة الاستقلال في سوريا. هذه الحقبة هي التي شهدت تبلور منظور قومي تعميمي حول القطرية، حمل من التناقضات ما جعل أستاذنا ياسين الحافظ يعتبره «منظورا بدويا» فشل في التقاط ما في الواقع من تنوع، وافتقر إلى طابع وعمق تاريخيين، فهو تبسيطي/ تهييجي يخلو من رؤية عقلانية لمشكلات الأمة، وخاصة منها مشكلات الوحدة والتجزئة، لذلك فاته تقديم شيء مفيد في المسألة القومية، وكان إخفاقه محتما.
-2-
ثمة أمران تقولهما لنا تجربة السنوات المئة الماضية حول المسألة القومية، هما :
ـ ليست الدول العربية جميعها من طبيعة واحدة، وليس صحيحا أنها متماثلة لمجرد أنها «قطرية». هناك أنماط ثلاثة، قائمة أو ممكنة، من الدولة العربية:
1ـ نمط شعبي وطني، نظامه السياسي تمثيلي برلماني هو أكثر النظم أهلية للتفاعل الوحدوي مع محيطه العربي، فهو نظام قومي بدون مزدوجات ،يقوم بوظائف وحدوية في المجالين الوطني خاصة والقومي عامة يعوض فيها بعض الشيء عن غياب دولة العرب الواحدة، التي يرجح أن لا تقوم في مدى منظور. هذا النمط من الدولة القطرية يحمل طابعا قوميا مع أنه دولة تجزئة، بالمصطلح القومي التقليدي. وللعلم، فإن الفهم المطلق والمجرد للدولة القطرية، الذي سبق نقده، لا يفسح المجال لقيام نمط كهذا، ولا يدعو لإقامته، بل يحشر الدول جميعها في نمط واحد يسميه «دولة قطرية»، يفرض عليها وظائف متماثلة تجعل لها دورا وحيدا هو معاداة الأمة. هذا النمط الشعبي/ الوطني هو شكل انتقالي يوفق بين التجزئة القائمة والوحدة المنشودة، يحد من الأولى ويعزز الثانية بصورة مطردة، دون أن يتخلى عن سيادته، التي تكتسب بعدا أضافيا يتجلى في تحقيق مشتركات قومية وإقامة مؤسسات تتخطى قطره، من شأنها تأسيس ساحة عربية تتزايد فيها أشكال التعاون والتنسيق والمصالح المشتركة والمتبادلة، التي يعزز تطويرها النزعة التوحيدية السياسية وميادينها العملية في حياة الدول، وإن بقيت مستقلة وسيدة ولم تتنازل عن كيانها السياسي وإقليمها الوطني. وهو يقيد صراعات الدول العربية، القريبة والبعيدة، ويعمل لتنمية مشتركات عامة، تاركا لنفسه ولغيره حرية التصرف في ما لا اتفاق وتوافق عليه، على أن تقرب المشتركات فسح التلاقي والتقارب، وتقلل فسح الخلاف والتباعد والاختلاف، وتجعل كل نظام عربي يرى قطره ونفسه بدلالة الوظائف والأدوار والمصالح التي تعزز وحدة العرب، ويلتزم بالمعادلتين التاليتين :
ـ تقوية طابع الدولة الشعبي وتاليا الوطني لتقوية ما ينجم عنه بالضرورة من تعزيز في طابعها القومي والوحدوي.
ـ ضرورة تركيز الجهود، في حال العرب الراهن، على إقامة دولة من هذا النمط ، ليس فقط لأنها هدف يمكن بلوغه، بل لأنها كذلك الرد الوحيد الممكن والمجدي، في واقعنا القائم، على ضعف العرب البنيوي، وعلى غربة مجتمعاتهم عن دولهم، ومواطنيهم عن سلطاتهم، وأداة الحد من التشوهات الهيكلية اللصيقة بحياتهم السياسية ونظم حكمهم.
2ـ نمط وطني غير شعبي نظامه أقرب إلى القطرية بمعناها القومي القديم، يقيم تعارضا بين الوطنية والديموقراطية وحقوق الإنسان، الأمر الذي يقيد كثيرا دوره في الساحتين الداخلية والعربية، ويحوله إلى نظام يرى وحدة العرب بدلالة قطره، ويبحث عن روافع قومية تزيد من حصته في الساحة العربية، التي يعتبرها ساحة برانية/ خارجية، تنطبق عليها أسس وحسابات سياسته الخارجية، وهذا يفقد علاقاته مع الدول العربية بعدها القومي، ويجعلها مشابهة لعلاقاته مع الدول غير العربية، إن لم تكن أقل منها في حالات كثيرة. لا يرى هذا النمط في الساحة القومية بعدها الداخلي، وفي داخله الفسحة القومية، مثلما يفعل النمط الأول، ولا يربط داخله بحساباتها ويربطها بحساباته، إلا في ما يتعلق بأمن السلطة، لذلك تراه متمركزا على ذاته، منطلقا منها في كل شأن مهما كان تافها، همه الرئيس انعكاس علاقاته العربية على أوضاعه الذاتية، فإن وجد أنه غير ملائم قلصها، وإن أفاده وسعها، ضاربا عرض الحائط بعائدها القومي، فهو يعيرها بحيث لا تؤثر على نظامه أو تقيد قدرته على الفعل. ستحرر الديموقراطية الشعب من القيود التي تفرضها سلطة هذا النموذج على دوره الوطني/ القومي، وستطور طابع نمطه ووظيفته في اتجاه يقربه من النمط الأول: الشعبي/ الوطني.
2ـ نمط غير وطني وغير شعبي، هو النمط الاستبدادي السائد، الذي يمارس سياسة مركزها سلطته، تعطي «قطره» الأولية على الأمة، بحجة أنها متحققة واقعيا فيه، ووهمية أو غير ملموسة خارجه، فهو حاملها وممثلها والجهة الوحيدة في عالم العرب التي تتطابق معها، ومن حقه رؤية المسألة القومية بدلالته الذاتية، خاصة أن قطره لم يعد جزءا من منظومة التجزئة العربية، بل هو الأمة وقد تجسدت وتحققت عمليا فيه، وهو المركز والمحور ونقطة الثقل منها، أما ما عداه من أقطار كبيرة وصغيرة، فهو مجرد محيط له، كما أنه ينفرد وحده بمعرفة ما تريده أو ترفضه الأمة، ولديه وحده خطط وأدوات إخراجها من واقعها القطري. نحن هنا أمام مفهوم جديد للقطرية يلغيها من أساسها، يقول بإمكانية أن تتحقق الأمة السياسية في واحد من أقطارها، فلا يعود قطريا، بل يغدو أمويا وإن لم يتحد مع غيره، أو لم يعمل لوحدة العرب، وأعطى نفسه حق خوض معارك «قومية» ضدهم باسم الأمة، حتى إن أدت إلى المزيد من تجزئتها وشحنت علاقات مكوناتها بأزمات متفجرة تقوض وجودها ذاته. هذا النموذج هو أكثر أشكال النظم العربية مقاومة للوحدة وعملا ضدها، تتجسد مقاومته لها في تهميش شعبه وإخراجه من المجال الوطني، وتطبيق سياسات صراع وتنابذ في المجال القومي، مما يحول المجال الأول إلى مقبرة سياسية، والثاني إلى ساحة تمزق يستنزف قدرات مجتمعات ودول العرب، يواجه هؤلاء فيها بعضهم بعضا، ويستنجدون بأعدائهم ضد بعضهم البعض.
بدلا من أن تتطور الدول القطرية نحو النمط الأول، تراجعت خلال نصف القرن الماضي نحو النمط الثالث، الذي فرض وجوده في معظم دول العرب، فكان صعوده دليلا قاطعا على ما بلغته أحوالهم من بؤس، وما سيطر عليهم من تناقضات وصراعات جديدة الطابع، جعلتهم يعاملون بعضهم كأعداء لا سبيل إلى التوفيق بينهم، يديرون خلافاتهم بأساليب تستخدم عادة ضد الأعداء، حتى صار الناظر إلى الساحة العربية يعتقد أنه أمام أمم متعادية وليس أمام أمة واحدة أوشكت أن تحقق بعض وحدتها البارحة، حين أقامتها بين دولتين عربيتين رئيستين هما مصر وسوريا.
عندما تفشل الأمم في تحقيق وحدتها، فإنها لا ترتد إلى الوضع الذي سبق محاولات توحيدها، بل تنتكس إلى وضع أشد سوءا بكثير، يجعل حتى تجديد المحاولة ضربا من المحال. هذا ما حدث بعد انهيار وحدة مصر وسوريا، الذي بدلا من أن يدفع السياسات العربية إلى قراءة تجربتها بأعين صاحية تفيد من أخطائها، دفعها إلى نمط الدولة غير الشعبية وغير الوطنية، دولة الاستبداد، التي تقتل في المهد أية محاولة لإعادة إطلاق فعل وحدوي، بحجة أنها هي دولة الوحدة، وأنه لا يجوز إرباكها بالنضال من أجل تحقيق ما هو متحقق فيها بالفعل !.
فصل العقل القومي التقليدي بين المسألة القومية والديموقراطية، فكانت النتيجة فشل أي مشروع توحيدي عربي، من أي مستوى كان، وتلاشي المسألتين القومية والديموقراطية، وبروز نظم استبداد معادية لهما، تقاتل ضدهما بحجة أنها تحققهما المطلق. إلى أن تتصل المسألتان وتترابطان، وترى قطاعات شعبية واسعة في الديموقراطية رافعة المسألة القومية والنهوض الوحدوي، وفي المسألة لقومية والنهوض الوحدوي رافعة الديموقراطية، سيبقى العرب غائبين عن تاريخهم، وعن الوعي، وعن أنفسهم، وسيكونون موضوعا يتلاعب الآخرون به كما يريدون !.
السفير