صفحات ثقافية

سي كاي وليامز يتأمل هاوي الوحدة وشفيع الستينات الصاخبة

null
“في شأن وايتمان” بحث بالإنكليزية عن معلّم باوند واليوت وآخرين
ربما يكون غوته هو القائل بنبرة تهكّمية ان اللغة أُعطيت الى الإنسان بغية مساعدته على حجب تفكيره. تباغتنا خلاصة مماثلة، بل تدفعنا لنبتسم لحظة نسترجع قصيدة والت وايتمان الآتية بألاعيب لغوية لا تحصى. تسلب شاعرية وايتمان صورا من الحياة اليومية لتمسي في كنفها غير عادية، وتستحوذ على الاكثر جرأة طمعاً بأن تجعله في نطاق الحميمي. نتذكّر شاعر “أوراق العشب”، لمناسبة إصدار سي كاي وليامز، الحائز جائزة “بوليتزر” للشعر ومُواطن الشاعر الأميركي في الحرفة والانتماء، كتاب “في شأن وايتمان” لدى “برنستون يونيفرستي برس”. يسبغ اسلوب وليامز الشعري جسارة تجمع بين ملاحظات المعيش وابيات شعرية مديدة الى حد تحدّيها المتفق عليه في التيار الغنائي. والحال ان قصائده دفعت بالنقاد الى مقارنته بوايتمان، وهذا ما يحثه ربما على ان ينجز من موقعه الشعري كتاب تعبد وتسليم بموهبة شاعر آخر، مهلّلا لطاقة سلفه وإرثه وفنيّته، بدفق من الحذاقة والوفر.
لماذا الكتابة مجددا عن وايتمان بعدما تناوله كثيرون؟ يكمن الردّ على الارجح في ان مجلدات الأعمال في شأنه توقفت عند الدراسة النقدية المجرّدة، فيما يقترح وليامز تأمّلا احتفائيا في صفحات مقتضبة. اطلقت “برنستون يونيفرستي برس” سلسلة “كتّاب يتناولون كتّابا” حيث يوجّه مؤلفون أميركيون تحيات الى مواطنيهم من المؤلفين، لتوكل الى سي كاي وليامز أحد الموضوعات، تاركةً له حرية الانتقاء. تردّد الشاعر في اختيار اسم دون سواه، بعدما راوده اثنان يحتلان الأهمية نفسها عنده، الى ان تقدّم وايتمان الصوت اللاواعي والداهم في القصيدة الأميركية المدينة له بالكثير.
اشتغل وليامز على المشروع لموسم صيف كامل بيد انه لم يلبث ان احسّ بوايتمان يسحقه، بل يدمره. تريّث في المتابعة ظنّا انه سيصل الى طريق غير نافذ. استراح من عبء وايتمان ليُكمل في الآونة عينها مجموعته الشعرية “انتظر” وليعود الى المحاولة مجددا بعدذاك، ويكبّ على ما شرع فيه براحة وغبطة. لم يستطع وليامز بسهولة على ما يظهر، التنصّل من حضور وايتمان الفذّ والمذهل، ومن اسطورة لا تزال تزاول السحر عينه وتجعله يرتعد احيانا. لا يفوّت الشاعر سي كاي وليامز في كتابه عن وايتمان فرصة التنقيب في خلفيّات تلك السطوة الورعة. يضع رزمة السير والأعمال النقدية الأدبية التي تراكمت حول منجز والت وايتمان، محاولا العودة الى “أوراق العشب” في صيغته الأولى وينجح في اعادة تقويم شخصيّ لشاعر تراءى معلّم الآخرين.
اعتمد وليامز الإصدار الثنائي لينشر مجموعته “انتظر” بالتزامن مع “في شأن وايتمان”. فيما تحيي احدى قصائده الرغبة في مترو باريس، ترافق اخرى استدعاء هيربرت وهوبكينز وهما يجادلان كولريدج ودوستويفسكي. غير ان كتابه عن وايتمان استبقى الجزء الاكبر من اهتمامه المنوط لجهة توفيره توطئة او اعادة تقديم، مذهلة وغير مألوفة، لشاعر مرجعي. من خلال فصول موجزة مطعّمة باقتباسات غزيرة من “أوراق العشب”، يفتش وليامز في الابتكارات والفرادة والعبقرية المبتهجة لشعر يكاد يكون تعليميا. يتملّى موسيقى شعر وايتمان ومقاربته السمعيّة وعاطفته الانسانية المهولة، فضلاً عن ثلة من الندر المؤثرة تتمحور عليه. يطرح ايضا موقفه المتحرّر من العلاقات الجنسية من دون اغفال افكاره غير التقليدية في شأن الموت. يشير وليامز الى شخصية يبتكرها وايتمان (1819-1892) في قصيدته تحمل هويته وانما تختلف عنه. في حين يلبّي متطلّبات عمل وايتمان وخصوصياته، يبيّن ايضا ان مساره انجدل مع مسارات شعراء متميّزين من زمنه من مثل بودلير ويلفت الى تأثيره الكاسح في شعراء لاحقين من قبيل إليوت وباوند.
يتحدّث وليامز عن وايتمان كمصدر للعجب المبهج، المعطوف على شغف بالتنقيب في التفاصيل وذلك قبيل الدهشة، بالنسبة الى القارىء الفتيّ. يسأل الشاعر المحقق كيف امكن بزوغ قصائد كقصائد وايتمان حيث يصاحب انبعاث الموسيقى الشعرية المذهلة تناسق باطني للصوت يفاجئ دوما. يرصد تخمينات وايتمان الجريئة والميتافيزيقية العزيزة على قلبه، وانما المجسّدة والغائصة في نسيجه الشعري الى حد تصير من قماشة النصوص الروحية.
اختار وليامز ان يقسّم انشودة مديح وايتمان فصولاً موجزة تمحورت على ثيمات مألوفة احيانا، من قبيل النقد الشعري والسيرة وامرسون واميركا والجسد والجنس والنساء والمثليّة والطبيعة والنبوءة والخيال، وعلى ثيمات اخرى تمدّ الكتاب بعناصر تجعله يجاري العصر. هناك على سبيل المثال فصل كامل يتناول بودلير، وآخر اليوت وباوند، ناهيك بنصف فصل يستدعي هوغو، الى فصل إضافي بعنوان “لوركا وغينسبرغ والمخنثون”، وثان بعنوان “الآخرون” اي نيرودا وبيسوا وأدونيس وماياكوفسكي. يميل وليامز من موقعه كشاعر حديث من سلالة وايتمان، صوب المقارنات بينه وبين الشعراء الحديثين، غير انه في هذا السياق وفي الفصول المخصصة لبودلير، وخصوصا عندما يُقيم موازاة بين الصوتين، يبلغ بالتكثيف حدود التشويش.
غير انه يتكلّم على نحو حرّ ويملأ صفحات عدّة بمقتطفاته المفضّلة من خزانة وايتمان الشعرية ومعظمها من “أوراق العشب” من العام 1855، معرّجا على حركته الفريدة في مزج اللغة والأغنية. يزقزق سرده وينسكب بتراخٍ ويغرف من مسائل متشعّبة على نسق الطبيعة واميركا والنداء الإجتماعي. بيد ان تحليله الأبرز يضيء على الطبيعة المركّبة او المتطرّفة لاستخدام وايتمان لضمير المخاطب “انت” في قصيدته، كأسلوب لتناول جنبات الذات والروح.
يتوقف “في شأن وايتمان” عند الغموض الذي لفّ مقاربة وايتمان لأميركا وتحدّدت وفق الحقبات التاريخية التي مرّت بها البلاد. يتحدّث الكتاب ايضا عن مسار تبلور القصيدة وعن موسيقى خاصة طوّرها وايتمان لا تزال مصدرا للتكهنات الى اليوم. والحال، ان مجلّدات لا تحصى صدرت في هذا الخصوص، غير ان السرّ لا يزال مطبقا ودفينا. افاد وايتمان وفق وليامز، مما يشبه المعجزة الصغيرة، ذلك انه اختبر حالة كـ “تجربة ردّة” على ما يعاينها في الكتاب. انه في هذا السياق الفرصة السانحة لاكتشاف مواهب وايتمان الشعرية وتفسيرها. يناشده شاعر التبشير وليس شاعر التفسير.
ليس الكتاب تحية شخصيّة الى سلف وليامز فحسب، انما اعادة دراسة لأنماط “الشاعر المسنّ الطيب”، الذي أطلق لغة شعراء الأجيال التالية وهويتهم. انجز وليامز كتابا يجيء في توقيت ليس مبكرا ويتخذ مقتربا اكثر تجديدا مما يتراءى، ويتمسّك بالتركيز على القصائد. يرغب في تحييد التنظير المثقل وطبقات السيرة الذاتية التي تكوّمت حول الشاعر. يهدف الى انقاذ لاامتثالية وسحر فاتن، قابلهما في السادسة عشرة كقارئ عندما وقعت يداه على اول انطولوجيا شعرية من توقيع وايتمان.
يسأل وليامز “كيف امكن حدوث هذا؟”، في استفهام حول بناء قصيدة غير مألوفة. والحال انه يسعى على مرّ الكتاب الى تقديم جواب مقنع. ينظر المؤلّف الصغير والاستثنائي الى اعظم شاعر انبتته الولايات المتحدة الى اليوم. يصير وليامز دليلا مُرحّبا به بالنسبة الى اولئك المطلّين على موهبة وايتمان عرضا من خلال قصيدة او اثنتين، فيما يمنح القراء النهمين فرصة لإعادة تجديد عجبهم ازاء قصيدته. يدرك وليامز بلا ريب عجزه عن تفسير مسار بلوغ الشاعر مرتبته الابتكارية على نسق كاتبي سيرته المتناسلين في الماضي. غير انه قادر على وصف الخصيصة التي جعلت شعره عظيما ومقروءا الى هذا الحدّ. في كنف دراسته الوجيزة حول شعر عفريد، يساعد وليامز القراء على رؤية عبقرية وايتمان، وخصوصا قبضته الحدسية على متطلبات ثقافة ديموقراطية الى حد الراديكالية، وعلى متطلبات وجودية وميتافيزيقية ايضا.
يدرك ان مؤازرة الايقاع للصوت واللغة والصور، تعدّ متن عمل وايتمان. هذا ما يحدو به الى توجيه تحية الى ما يعاينه دفق الأبيات وبعثها لدى وايتمان، ويسرّ ايضا بتمسك ذلك الصوت النافذ بسرد التفاصيل. غير ان البعد التعليمي يتفوق على الجمالية في منطق وليامز، فنؤخذ الى مستلزمات الشعر الاخلاقية “الاكثر عظمة مما نقوم عليه”. غير ان هذا الوصف لا يسعه بأي شكل من الاشكال ان يحدد مرمى الشعر الوحيد وهيكله او شريعته. تتجلى المفاهيم الاخلاقية كالمشاهد الطبيعية او الحكاية او التاريخ او علم النفس كجزء من المواد الخام في بعض الشعر، ولكن ليس في الشعر كله. على نسق المواد الاخرى، لا مفر من ان تلعب تلك الابعاد الاخلاقية دورا دونيّا ضروريا احيانا.
عند عتبة خاتمة “في شأن وايتمان” يرفع وليامز سرده الى مصاف خطابي. يكتب: “تستعمرنا جميع القصائد العظيمة وتسألنا من طريق التضخيم والتشديد على موسيقى اصواتنا الداخلية ووعينا وضميرنا ان نصير اعظم مما نحن عليه. في حال قرأناها مثلما يجب، في وسعها ان تدلنا الى اول خطوة في سبيل تحقيق هذا الطموح”. نجد في هذا التقويم شعورا داهما بـ”التواصل” واللوذ بـ”الجماعة”، في حين ثمة تعتيم على واقع ان الشعراء، اولئك العظماء في الاقل، لا يكتبون لجمهور معيّن وانما لأنفسهم او لمثال متطلّب. المتلقي الافتراضي هو كاميرادو، احدى الشخصيات الاربع التي يتوجّه اليها وايتمان مباشرة، او “نايتشور” اي الطبيعة في مجموعة من قصائد ووردسويرث. من طريق دهاء طافق، يسحب وايتمان جمهوره التخييلي الى وسط قصائده. يرمي صنارة الدعوات الى القارئ ويحثه على مشاركته الاسرار. يكتب في هذا السياق: “لن اخبر كل الناس على الارجح، بيد اني سأخبركَ”. هذه تقنية تستخدم الغواية الفاضحة وتجعل القصيدة تحيا في ذهن القارئ في محاكاة للحوار. يعتبر الشاعر ييتس ان القصائد الجيّدة تنبثق من تأمل واضعها في الشجارات الذاتية مع النفس، والحال ان ثمة قصائد عدة من هذا الطراز في منجز وايتمان. هذا من حسن طالع الأدب، ذلك انه عندما يشرع الشاعر يكتب وعينه على الجمهور وفق ييتس، يصير كاتب “بلاغة” وليس كاتب شعر.
يتمتع سرد وليامز في كتابه، بحماسة لافتة، وهي صفة جاذبة في المبدأ، غير انها تسقط احيانا في شرك ضيق البصيرة، فيغدو النص مغامرا في شيء من الإفراط. يجعل الشاعر ملهمه وايتمان سلف فلسفة اللذة السائدة في الستينات من القرن المنصرم، مشيرا الى دوره الفكري في الدفع صوب معارضة “تيارات القمع العنيفة”. يكتب وليامز: “كان وايتمان احد اجداد الثورة الحقيقيين الى جانب وارثيه جيل “الهيبي” و”البيت” ومنظمي المهرجانات الساعين الى تشريع الإنصهار والتقبّل في منطق الشاعر، ناهيك بمفهومه المغتبط للجماعة”. بيد ان تلك المقاربة تتراءى ملتوية وذاتية، ذلك انها تلخص حقبة شهدت فقد اذهان جميلة من جراء المخدرات والليالي المبعثرة في دخان التيه. فضلاً عن ذلك، كان وايتمان رجلا متقللا وهاويا للوحدة ولم يحسن الانتماء الى الجماعة واقام خلال حياته الراشدة وحيدا او في بيوت النزلاء، ومن الصعب تاليا تصوره يجد نفسه في تعريف يجعله شفيع الستينات الصاخبة. فيما ينعت وليامز وايتمان “انيسا بالفطرة”، ليس من السهل تصور الشاعر وهو ينصّ قصائده الهائلة في ضوضاء الودّ الاجتماعي. الحري بنا ان نتخيّله يتنازل عن مرافقة الخلاّن ليجلس الى منضدته ينصت الى ضجيجه الذهني ثم يقرأ ويكتب وينقّح. كان وايتمان صاحب شخصية انسيابية من دون شك، جعلته يصهر اللامرئي مع وجوه المحيطين به والحوادث الجارية ليوصله هذا التلاقح الى صور رائعة وشطحات وصفية. غير ان عدائيته المفترضة حيّدت احيانا، لتترك المكان لإنسان اهتمّ بالجنود المصابين في مستشفيات واشنطن، حيث جلب لهم الفواكه والصحف والسكاكر وحفنة تعاطف مع بؤسهم.
في شتى الأحوال يدفع “في شأن وايتمان” بوليامز الى مجادلة نفسه على الورق، في حين أن ذاته الشعرية ترغم ذاته الفكرية والنقديّة على الخضوع للتقويم. ينعش الكتاب قدرتنا على رؤية وايتمان في ابهى تجليّاته رجلا حكيما يستحوذ على انتباهنا، انسان التعبد الانساني الخالص ينجح في ان “يبني بمستوى افضل مما أدرك”، إذا اردنا استدانة وصف ايميرسون لبنّاء آخر بإسم مايكل انجلو.
مقتطف: الــمـــوســـيــقـــى
ها هنا الفصل الأول من كتاب “في شأن وايتمان” لسي كاي وليامز، عنوانه “الموسيقى”، ننقله من الانكليزية الى العربية:
نعي انه درج على ان يجوب الشوارع تماما مثلما اندفع ليستقلّ الحافلات الصغيرة ويستوي في مقعده ليتابع محاضرة او يشاهد عرضا في دار الأوبرا او يخربش حفنة كلمات في دفتر الملاحظات وعلى قصاصات ورق حشا بها جيوبه. نعي انه اعاد نسخها بعدذاك ورتّبها ونقّحها ليعبّد على هذا النحو الطريق امام باكورة اعمال ستشكل منجزه الأدبي البارز الذي رأيناه مجسدا على الورق. نحن نعي امورا اخرى جمة ايضا.
يروقنا ان نقتنع انه “كان خلال هذا المسار في صدد تعلّم حرفته”. يصاحب مفهوم الحرفة دوماً مفهوم آخر وهو التزام التطوّر والتحسين. يتراءى ان كلمة حرفة عينها تنطوي على مبدأ يفيد بأنه كلما مارست فنّك تمحّصت به فحسنت تاليا حرفتك واستطعت التأثير في شعر تكتبه او في اي شيء سواه. غير ان فعل الايمان هذا في وسعه ان يصير مدمرا. تعرّفت الى شعراء كثيرين صرفوا حيواتهم بغية التدرّب على فنهم وعلى الاعداد لكتابة القصائد، غير انهم خططوا لذلك من دون ان يتجاسروا على المضي الى المرحلة العملية. على النحو عينه، يمكن النقّاد احيانا انجاز سيرة مطولة تتمحور على شعراء تبدو موهبتهم المبكرة نكرانا للتطور الطبيعي لتلك القدرة على المعرفة. يبدو من غير المنطقي ان نصدّق ان شاعرين من قبيل كيتس او رامبو، احجما عن القيام بأي خطوة عمليّة من اجل استيعاب مجموعة من العناصر والحيثيات انبغى لهما ان يكتسباها في مسار التحضير لنصوصهما الشعرية.
اطلعت على مقال تمحور على الشاعر الفرنسي رامبو ورمى الى تقديم القرائن على ان معرفته (غير المؤكدة) لموضوعات كثيرة في مضمار تاريخ الشعر والتاريخ في المطلق جاءت بنتيجة مكوثه ساعات طويلة في المكتبة الوطنية. تشبه خطوة مماثلة التحايل على حياة رامبو البوهيمية حيث كان تبذير الوقت البوصلة التي حددت وجهة القسط الأكبر من يوميات فتى كان في السابعة عشرة يوم أتمّ اعظم قصائده. كانت حرفة وايتمان وموهبته في ابهى حللهما خلال لحظة الانبثاق الاول، اي ابّان انجازه نسخة العام 1855 من “أوراق العشب” وخلال عمله على زيادة بعض النصوص عليها في سنوات لاحقة اتّسمت بالإلهام. امتهن وايتمان الصحافة ونشر مقالات كثيرة على مرّ السنوات، غير اننا لا نجد اي حكاية تفصيلية في وسعها ان تدلّل على مسار غير مألوف جعله يتمكّن خلال وقت وجيز من مراكمة مجموعة من الأساليب الاستثنائية الى اقصى حد، ناهيك بخصائص مختلفة سمحت له بالتعبير عن موهبته. لم يكن ثمة مكان متخصص تسنى له فيه ان “يتعلّم” حرفته من دون شك، ذلك انها تطورت في موازاة تطور هويته وتبلور شخصيته الذاتية الأكثر عمقا.
تطور نمط الكتابة الشعرية الحديث لدى وايتمان على الارجح من تلقاء نفسه دفعة واحدة. أتصوره حلّ مثل تجربة الردّة. غير ان ثمة اشارات قليلة جدا قبل العام 1855 تشير الى ان هذا الامر العظيم كان في صدد ان يصير واقعا. يبدو كأن دماغ وايتمان مرّ بتجربة تحوّل غير معقولة، وإذا اندفعنا صوب تصورات التخييل العلمي، ففي وسعنا ان نقول ان الأمر كان يشبه اصطحاب كائنات فضائية للشاعر الى مركبتها المتطورة حيث مدّته بدماغ مختلف وادوات شعرية جديدة. يتراءى الانعطاف المباغت على هذا القدر من الجنون. غير ان الاهم اننا لا ندرك تماما مصدر موسيقى وايتمان الشعرية، على الرغم من اننا نجد سطورا معزولة في دفاتر ملاحظاته من شأنها ان تقدم بعض المفاتيح للفهم. بيد اننا لن نعلم على وجه التحديد متى حدس وايتمان ببزوغ صوت اللغة هذا، وسمع به وادركه، وهو صوت الابيات الشعرية والنبض والامتياز والاتساع التي ستصير وسائطه. لنحاول ان نتخيله يصوغها على نحو واع ويؤطرها. كان من المدهش بالنسبة اليه حتما ان يكتشف وجودها.
من الضروري الا ننسى ان الموسيقى تحلّ في ميدان الشعر في المقام الاول وتتقدّم على سواها، على اي شيء سواها. تظلّ القصيدة مجموعة من الكلام والمعلومات الى حين اكتشاف موسيقاها.
على الرغم من ظهور المعنى والرؤيا وخصوصا الكلمات في اعقاب استتباب الموسيقى، غير انها جزء منها وإن بدا الأمر شديد الغموض والغرابة. يندثر كل شيء إذا فقدت الموسيقى، لا يبقى عندئذ سوى الافكار فحسب. ووفق تعبير كولريدج، لا يعود هناك تخييل وانما نيّة وامل وتوق وهذا ليس شعرا: “انتظري يا ايتها الملهمة! اسمحي لي بأن اغنّيها لك، انتظري!”.
هذا ما يدفع بالشعراء ربما الى اليأس او الى ما هو اسوأ، اي الانتظار والتحرق والشعور بالايقاع وانما من دون ان يتمكّنوا من السيطرة على تلك الاهواء. انها على الأرجح المسؤولة عن وقوع الشعراء في براثن الهوس الاكتئابي. عندما تحلّ الموسيقى في المحصلة لا يبدو مزيج الارتياح والنشوة الذي يصاحبها من هذا العالم لأنه يذهب ابعد من الذات ومن الأنا ومن الوعي والضمير في آن واحد. تبدو الموسيقى في معظم الاحيان ملائمة للكلمات والثيمة، غير ان هذا لا يحدث في جميع الحالات.
تحدّث مانديلستام عن موسيقى تنبعث من القصيدة وعن قدرته على ان يشعر بها قبل ان تؤتمن على اي كلمات حتى. اما بافيسي فيقول “منحت قصائدي الايقاع من طريق التمتمة”. ان الشعر هو الاغنية واللغة في آن واحد. يقول علماء الاعصاب راهنا ان ثمة مناطق منفصلة في مخ كل شخص هي كناية عن “وحدات” فردية. يكمن الألق الشعري وسحره بلا ريب في قدرته على جمع المجالات النفسانية المنفصلة ضمن فعل خطابي وفكري واحد وهو عقلاني وعاطفي معا. يجعل الايطالي دانتي الشعراء يغادرون مطارحهم من اجل التمكّن من الحديث عن امور لا ينبغي لها ان تكشف للآخرين حتى لو انتموا الى كوميديا التجلّي خاصته. ما عساها تكون تلك الاشياء خلا اكثر اسرار الشعراء عمقا وفضحا وهؤلاء الناس وحدهم قادرون على انجاب موسيقى اللغة المدهشة وغير المرتقبة.
في “اغنية نفسي” ينشد والت وايتمان بصوت مرتفع لكأنه يحدث نفسه: “يلحق صوتي بمكان حيث عيناي لا يمكنهما ان تبلغاه. ادوّر لساني فأعانق العوالم وضخامة تلك العوالم. ان الكلام هو توأم رؤياي، من المجحف ان يدفع به الى عملية قياس
لنفسه”.
رلى راشد
ترجمة ر. ر.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى