العراق: عاصفة الأوراق التي مضت
شاكر الأنباري
تتحدث رواية عاصفة الأوراق، عن أول رواية كتبها غارسيا ماركيز، عن ماكوندو، عن المدينة الصغيرة في بدايات القرن العشرين بعد أن رحلت عنها عاصفة الأوراق وتركتها مدينة مهملة، بائسة، مدمرة نفسيا وروحيا. أبناؤها يستبطنهم الحقد والكراهية والدسائس الصغيرة والمؤامرات والتشوهات الخلقية. رحلت العاصفة وتركت المدينة متهالكة الشوارع، خربة، متهدمة البيوت، مشبعة بحكايات زمن بعيد، زمن عاصفة الأوراق التي جاءت ذات يوم بشركات الموز، والسكك الحديد، والمضاربات، والعاهرات، والسمسرة، وشذاذ الآفاق من كل بلد وقارة. رصد ماركيز مدينة ماكوندو بعد رحيل العاصفة، حيث لم تعد سوى هياكل فارغة. قرأت رواية عاصفة الأوراق تلك في درجة اثنين وخمسين مئوية، وذلك في منتصف شهر تموز اللاهب ببغداد، وأوحى لي العنوان بعاصفة الصحراء، التي كانت المقدمة الأولى لغزو ماكوندو المعاصرة، بغداد، أو العراق… لا فرق. ماكوندو غارسيا ماركيز عاشت العاصفة في عشرينيات القرن المنصرم، يفصلنا عنها ما يقرب من القرن. أما نحن فعشنا العاصفة في مفتتح القرن الحادي والعشرين، وانبلاج الألفية الثالثة، وينبغي أن نكون محظوظين كوننا وجدنا أرواحنا في لب التطور التكنولوجي، وغزو الفضاء ومجراته، وفي بركات شرائع حقوق الإنسان، والوفرة، والحريات التي كفلتها دساتير العالم الحديث.
قدم ماركيز خلاصة تلك الحقبة روحيا عبر شخصية الدكتور الذي وفد مع العاصفة ولا احد يعرف من أين جاء، وكل ما كان يملكه كي يصبح مقيما شرعيا في ماكوندو هو توصية من الجنرال بوينديا، جنرال حروب التحرير التي ضربت أصقاع أميركا اللاتينية في تلك الحقبة. كان الدكتور خلاصة لعاصفة الأوراق تلك، جثة متحركة فقدت كرامتها البشرية. ماكوندو العراقية صار ربع قاطنيها يعانون من اختلالات نفسية وروحية، فقد تخرجت أجيال من مختبر الحروب الذي دامت ثلاثين سنة، تفككت أسر، وتشوهت أرواح، وقست نفوس بعد أن عاشت الثلاثين سنة تلك في بحر من العنف، والموت، والقمع، والاحتلال، والكذب، وسايكولوجيا الهروب من واقع مر وبائس. وها هو الزمن يمر منذ أن دخلت عاصفة الأوراق الجديدة إلى البلد، وهي كما في ماكوندو تمتطي طريقها نحو التلاشي، تاركة خلفها، كما حدث في ماكوندو الأميركية الجنوبية، مدينة مشابهة. زمن هبوب العاصفة استغرق سبع سنوات تقريبا، وكنا شهودا على ما جاءت به، وشهوداً على ما تركته خلفها. جاءت بمئات آلاف الجنود، مع دباباتهم، وطائراتهم، وأسلحتهم الشخصية، وأجهزتهم المتطورة تكنولوجيا وهي ترصد ذبذبات التي أن تي، والصواريخ الموجهة، والسي فور، وترصد السيارات المفخخة، والبشر المسلحين، مثلما ترصد حركة الأموال، والسجلات، والدوائر الرسمية وغير الرسمية، وأسهم البورصة، وسعر برميل النفط، ومؤشر ناسداك، والعقول وكيف تفكر وما هي رؤيتها حول العاصفة. شهد زمن العاصفة مواجهات دموية وإبادات لمدن وحرق لأوابد تاريخية واغتيالات لشخصيات فكر وكفاءات عسكرية وعلمية.
شهدنا أيضا دسائس سياسيين وأحزاب وتواطؤات، ميليشيات تقوم، وتتسلح، وتتدرب، وتذبح بتوجيهات سرية على الهوية الطائفية، والدينية، والقومية، وأحيانا تذبح للتسلية، وإشاعة الرعب تحت تأثير الكبسلة وأنواع المخدرات، وكان أشدها الحقد الطائفي والهوس المذهبي. أزيلت غابات، وتصحرت حقول، وجفت أنهار، دون أن يسأل أحد عن ذلك. مداميك العاصفة لا تسأل إنما تأخذ فقط. تصدر قناعات لكنها لا تناقش. وراح الغبار، كما في ماكوندو ماركيز، يتصاعد بين فترة وأخرى إلى عنان السماء، يتغلغل في البيوت، والشوارع، والشجر، والعيون، والآذان، والصدور، يتغلغل إلى بطون الحوامل ليلدن أطفالا مشوهين. غبار يحمل الجراثيم، والسموم، والفايروسات، والأشعة المتأينة، والفوسفور المشع، ليصبح كل ذلك هواء لرئات ملايين القاطنين في ماكوندو الجديدة، بغداد، أو العراق… لا فرق. وفدت مع العاصفة شركات أمنية كانت تستقل سيارات رباعية الدفع، تسير في الشوارع بسرعة فائقة. تضرب دون رحمة كل من يعترض طريقها، وكان المارة، في أعينهم، أشبه بكلاب سائبة لا غضاضة في إبادتها. يستقل تلك السيارات رجال عجيبو الهيئة، خلاسيون من البرازيل، شقر من جنوب أفريقيا، ملونون من الهند، عتاة الوجوه ذوو صبغة انغلوساكسونية من ولايات أميركا. أفارقة، وأوربيون، وآسيويون، واستراليون، وأميركيون، ذوو مهمات غامضة، يحملون أجهزة لاقطة، وعلى سياراتهم هوائيات تبث إلى لا مكان. يحرسون شخصيات غامضة، ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، لا أحد يعرف لماذا جاءوا، وما هي رواتبهم، ومن يدفع لهم، ولماذا. هم فوق قوانين السير، وفوق المساءلة.
قتلوا، روّعوا، نظراتهم باردة، لكنها تختزن غضبا غير مبرر على الجميع. يكرهون الشجر، والبيوت، والسيارات، والمارة، والنساء، والفضاءات، والنخيل، والأنهار، فمن كل ذلك يمكن أن يأتي موتهم، وهم لا يريدون ان يموتوا، فعقودهم لسنة واحدة يجمعون خلالها ثروة لبقية العمر. قراصنة آخر زمان، مرتزقة الألفية الثالثة، الذين يتلقون الفضاء الكوزموبولتي لهذه الألفية بروح ذرائعية تبيح عمل كل شيء، بما في ذلك القتل. بزنز إز بزنز. عاصفة الأوراق جلبت صحافيين مغمورين استلموا رئاسات تحرير صحف ومراكز إعلامية وإذاعات وفضائيات. جلبت كتابا تخصصوا بجمع الخطب الدينية، والبلاغات القديمة، وأوصاف المراقد والمزارات، تخصصوا بفوائد الصلاة والأدعية والفتاوى وأنواع النكاح. وجلبت منظمات مجتمع مدني تتخصص في كل زاوية من زوايا الحياة، منظمات للمرأة والطفل والمعوق والشهيد والسجين السياسي وضحايا الألغام والطلبة والشعراء الشعبيين والبيئة والأنهار والسماء والغازات السامة والمحامين والضباط القدماء وضحايا الحروب والتهجير. يستمدون أموالهم من أياد خفية ومنظمات عالمية لا احد يعرف كيف يصلون إليها، ومن فرق جيوش أجنبية ومكاتب إعلامية ودوائر في السفارات وأحزاب وطنية ذات اتجاهات دينية وعلمانية يسارية ويمينية، وحركات ذات مصطلحات جديدة على الذائقة الشعبية. منظمات تقيم مؤتمرات في فنادق فاخرة وصالات أعراس وأبهاء لمحافظات ووزارات وأحزاب وفي جوامع وحسينيات وكنائس، من بين قادتها يتم انتخاب زعامات لمناصب في الدولة والأحزاب على هيئة مستشارين، ومدراء عامين، وخبراء في القانون الدولي، ومدراء لهيئات مستقلة وغير مستقلة تتكاثر في حقول الحياة كما لو كانت فطرا نما بعد ليلة ماطرة.
العاصفة الورقية، المحملة بالجيوش والأسلحة والشركات الأمنية والأحزاب الجديدة رافقتها أيضا نخبة من المحللين السياسيين، والمنظرين، وأصحاب الرأي، ملأوا القنوات الفضائية والإذاعات والصحف بزعيقهم، يخوضون في السياسة الدولية والإقليمية والوطنية. يفسرون تعابير الوجوه للقادة، يعضّدون هذا الحزب او ذاك، يحاربون، يتهمون، يشككون، يفتون، ويعظّمون حسب الدفع بالعملة الصعبة، وحسب الوعود بالمناصب والتقرب من السلطة وأروقتها ومنافعها ومقاولاتها وصفقاتها وإيفاداتها. تتزاحم التواريخ في مفكراتهم عن مقابلات تلفزيونية، وندوات في فنادق فخمة، وسفرات الى مؤتمرات خارجية، ومنتجعات تتوافر فيها النساء والخمور والكهرباء التي لا تنقطع لحظة واحدة. جاءت عاصفة الأوراق تلك وأصبحت الدقيقة الواحدة في ماكوندو العراقية تعادل عمر سنوات للإنسان العادي في باقي الكرة الأرضية، فهذه الدقيقة يمكن ان يكمن فيها موت محتم على حاجز للجيش، أو قرب عبوة ناسفة، أو اختطاف مباغت. وهي تنمطّ لتبلغ سنة تحت درجة حرارة تصل الخمسين، وتتجاوزها في نهارات بغداد، أو العراق، القائظة التي تحرق المسمار في الباب، كما يقول المثل، حيث ينطبخ الجسد بمرقة العرق الناز من مسامات الجسد كلها.
جاء مقاولون عالميون، ومغتربون هجروا الوطن منذ عقود، مبعدون سابقون، صيادو فرص وعقود عمل، تأسست شركات وهمية في الحقول كلها، النفط، الانترنيت، الاستيراد والتصدير. جاء وكلاء لشركات عالمية معروفة لإنتاج المكيفات، والمبردات، والتلفزيونات، والموبايلات، والشوكولاتا، والعصير، واللبن، والكوكا كولا، والاجبان. جاءت شركات فرنسية وتركية وإيرانية وأماراتية ولبنانية وسورية وأميركية، في فوضى سوق يبتلع كل ما تنتجه الحضارة. ماكوندو العراقية لم تعد تزرع ولا تصنع، معاملها مخربة، حقولها جافة، نخيلها مغبر، ذرتها مصابة بالفايروسات، قمحها زؤان، ماؤها لا يشرب. بلد ما بين النهرين صار يستورد قناني المياه بالملايين، ويستورد الطماطم والخيار والباذنجان والعنب والفراولة والبطيخ، من حلب والغوطة والميادين، ومن مهاباد والأهواز وتبريز، من أبها وينبع. الكهرباء من قصر شيرين، ومن الباخرات التركية الراسية في ثغر شط العرب، السيارات من كوريا واللبن من أبو ظبي. وفي فورة العاصفة ولجت البلاد في حمأة آسنة من فساد إداري، سرقات في وضح النهار، جثث في الشوارع والمزابل والمفازات، حمأة من العقود الوهمية والصفقات على الورق وتزوير العملة وتجارة النساء وتزوير الشهادات والتلاعب بالألفاظ واللغة الزلقة التي لا تشير إلى شيء ملموس والكذب والخداع والتملص والاتكالية.
وشاع بين الناس أن عاصفة الأوراق ستحل مشاكلهم كافة، تعالج كل ما خربته الحروب السابقة، وتنقل البلد إلى مصاف الدول المتقدمة، لكن المواطن ذاك ظل ينتظر المخلص سبع سنين دون جدوى. سبع سنين عجاف، وليس من سنابل. العاصفة تحزم دواماتها، وذيولها، وتغادر دون رجعة، وما زال المواطن ينتظر السحر الذي يغير حياته. عاصفة الأوراق راحت تدير ظهرها للبلاد. تحزم حقائبها، توضب مجساتها، تاركة شوارع ماكوندو الجديدة وهي تمتلئ بالغبار، يتطاير فيها بقايا الورق والريش وشعر الجثث ورائحة المياه الآسنة في المجاري، شوارع مهدمة الأرصفة، مبقورة الإسفلت، محفّرة عارية إلا من حصاها وغبارها وأسنها. ماكوندو الجديدة بعد العاصفة لا تمتلك طاقة الكهرباء سوى سويعات في نهارات الصيف التي تقارب درجة الغليان. غادرت الشركات الوهمية بعد أن حصدت غلتها من الدولارات، تضاءلت المنظمات الإنسانية حتى لم تعد تذكر، وأصبح المقعدون والأطفال وضحايا السجون والأرامل، مليون حسب آخر إحصائية، وعوائل الشهداء وضباط الجيش القديم وعشاق البيئة النظيفة صاروا ينظرون حولهم بألم، ويتم، اذ غاب قادتهم فجأة في زوبعة العاصفة. كما غاب كثير من المحللين السياسيين، والصحافيين، والمفكرين، والكتاب، والمستشارين العسكريين، بعد أن وظفتهم الأحزاب المتبقية على الساحة لكي يكونوا واجهات إعلامية وفكرية وعسكرية لها، وبرواتب مغرية ربما أكثر إغراء من هبات الفضائيات والصحف. وهكذا صار لدينا سوق للمنظرين في الطائفة، والمقاومة، والأقاليم، والسياسة الخارجية، والثقافة والإعلام المنفتح، والفساد، والمصالحة الوطنية، وبناء الدولة، والعروبة والكرودة والتركمة ورصد السياسة الأميركية والإيرانية والتركية والاتحاد الأوربي والفيفا والغات والشاورما والتبولة وهريسة محرم.
منظرون بضاعتهم الكلام فقط، ولكن نمط الكلام الذي يبني بيوتا، ويخلف سفرات سياحية وسيارات فخمة ووجاهات داخلية وخارجية. الفهلوي في الكلام صار بارعا في فهلوة جمع الدولارات والدنانير والليرات والريالات والتومانات. أما ماكوندا ففمها يغص بالتراب المتصاعد من الصحراء، وهي تنام في بيوت لا تسكنها حتى القطط والفئران. ماكوندا العراقية عارية، خائفة، فيها ملايين الأطفال المشردين والمتسولين ومئات المدن التي لا تمتلك مسرحا، ولا سينما، ولا فندقا، ولا كافتيريا، ولا كشكا لبيع الصحف، ولا مكتبة عمومية للقراءة. لا تمتلك سوى القصص الخرافية التي شاعت أثناء الزمن الذي وفدت فيه عاصفة الأوراق وخلخلت بنية البلد، وقلبت موازينه، وهدرت دمه، وأضاعت ثرواته، وأذلت مواطنيه وشردتهم الى خارج الحدود. جاوز العراقيون في الخارج الأربعة ملايين. وها نحن ننظر حولنا، بعد رحيل العاصفة، فلا نجد سوى الخراب. من تسبب بذلك، وما الذي حدث، ومن سيداوي جروح ماكوندا الجديدة، كلها أسئلة لم يعد أحد يمتلك الجرأة للجواب عليها. قد يأتي الجواب مع أجيال جديدة لم تمر بها عاصفة الأوراق تلك. وقد يأتي عبر رواية بارعة، لكن لن يكون ماركيز كاتبها بالتأكيد.
المستقبل