صفحات ثقافية

العالم بدون حكايات كم يبدو خرباً وقاحلاً

null
1700 قصة شعبية من 45 بلداً في 72 كتاباً
احتفاءً بالغامض والسحري
بقلم سامر أبو هواش
في مشروع ضخم، وفي جهد استغرق سنتين متواصلتين من العمل، يصدر قريباً ضمن “مشروع كلمة” للترجمة، في الإمارات العربية المتحدة، سلسلة “ثقافات الشعوب”، 72 كتاباً تتضمن 1700 حكاية شعبية من 45 بلداً. شارك في هذا المشروع نحو من ثلاثين مترجماً من مختلف الدول العربية. في هذا العدد الخاص المعدّ بالتنسيق مع الزميل أبو هواش، الذي أشرف على المشروع وراجعه وحرّره، “نسرق” بعضاً من هذه الحكايات الطفولية الشعبية الخلاّقة، المجموعة من أفواه الناس مباشرةً، على أيدي مجموعة من الأنتروبولوجيين الإنكليز والأميركيين والأوروبيين خلال الربع الاول من القرن الماضي، لتقديمها الى القارئ الخاص والعام، الطفل والمراهق والبالغ، العالِم والبسيط، باعتبار أننا جميعاً، ناساً عاديين، أو مثقفين، أو ذوي اختصاصات مختلفة ومتنوعة وربما متناقضة، نعوم على بحار أخّاذة من الحكايات والأساطير والخرافات والقصص، التي بدونها كم يبدو العالم عجوزاً قاحلاً، فقيراً وخرباً. الى هذه القصص “المسروقة”، الكلمة التي كتبها أبو هواش بمثابة تمهيد.
تقوم الحكاية الشعبية، بين ما تقوم عليه، على فكرة التحول والرحلة: أو التحول الذي يحتاج إلى رحلة. هذه سمة جامعة لا يختلف فيها الموروث الحكائي الشرقي عن ذلك الغربي: الثري يصير فقيراً، والفقير يصير ثرياً، العقيم ينال نعمة الأولاد، وذو النسل يفقد نسله …إلخ. هناك دائماً رحلة ما، إما في الزمان وإما في المكان، أو حتى رحلة أخلاقية، على الشخصية أن تقوم بها، قبل أن يتغير شيء في واقعها. هناك دائماً القرية أو المدينة أو الإقليم المألوف الذي يفارقه المرء إلى مكان آخر مجهول، لكي يبرأ من مرض ما أو يجد عشبة سحرية ما، أو يكتشف حبّه المنتظر، أو يجد حبه الضائع، أو يحقق ثروة أو يفكّ لغز معنى.
كأن الحكاية، التي تروى في الكوخ أو البيت، وأحياناً في ساحة القرية، وترويها غالباً نسوة اعتدن على ملازمة المكان (مع الأولاد)، بينما يذهب الرجال إلى ما وراء حدود المكان بحثاً عن الرزق أو المغامرة أو التسلية، كأن الحكاية إذاً ذريعة للانتقال المعنوي والنفسي، لقطع الحدود، واختراق المألوف. ولما كان ما وراء الحدود مجهولاً، فإن الحكاية تلعب دوراً مزدوجاً: تجعل هذا المجهول مألوفاً من خلال الذهاب إليه وتصوّره، والمألوف مجهولاً من خلال فتحه على الاحتمالات وعلى عالم الغيبيات. يصبح الليل البليد حمّال أسرار جميلة أو مخيفة، ويصبح القمر مكاناً يُرتحَل إليه، والشجرة روحاً. هكذا تتلاعب الحكاية بالأمكنة، تُحلّ البعيد محلّ القريب، وتحمل القريب إلى البعيد. في سياق ذلك، ترفع العادي والرتيب دوماً إلى مرتبة الخارق والسحري، تعد المستمعين، وهم غالباً من الأولاد، بأن المستقبل يحمل شيئاً آخر، في حين توحي بأن هذا الآخر المجهول، ربما كان موجوداً الآن وراء الستارة أو تحت الوسادة، في البئر أو في الغابة القريبة.
مثلما تتشارك الشعوب على اختلاف أعراقها وتوزعها الجغرافي ومسيرتها الحضارية، في مشاعر الحب والكراهية، والطموح والألم، والرغبة والخوف، فإنها تتشارك أيضاً في ذلك الشعور الكبير بوطأة الزمن. لذلك يكون الانتقال في المكان، هو غالباً، انتقالاً في الزمن. قفزة إلى المجهول، تنزعنا من الزمن الراهن الذي لا يحمل أيّ مفاجآت، إلى الزمن الذي لا يزال مقفلاً دوننا. يسير البطل غالباً مسافة سنوات، يقطع مدناً، يجتاز جبالاً، هذا كله قد يحدث في جملة أو جملتين، وبمساعدة حصان خارق أو سجادة مسحورة أو جنيّ خاضع لإرادة البطل، أو – كما نجد في بعض الحكايات – بمجرد أن يتمنى المرء ذلك صادقاً.
بعض الرحلات الداخلية/ الخارجية هذه يتجاوز حتى ذلك. يذهب إلى المجهول الأكبر، إلى ما بعد الأمكنة والأزمنة، إلى لغز الحياة والموت. في إحدى الحكايات نرى البطل يذهب إلى أرض الموت لكي يلتقي أحباءه، وإذا كنا نتوقع أن يخفق في سعيه هذا، فسرعان ما يتضح أن توقعنا في غير محله، ذلك أنه يصل في النهاية إلى أرض الموت، مثلما يصل أبطال آخرون في حكايات أخرى إلى السماء أو إلى الشمس والقمر أو أعماق الأرض أو البحار التي يتضح أنها عوالم أخرى زاخرة بالكائنات المختلفة عنا.
بعض الرحلات يحاول ببساطة إيجاد صلة بين بيئتنا القريبة والكون الشاسع الغامض، فتصبح الحيوانات التي ترافقنا في حياتنا اليومية، أسلاف كواكب أو نجوم، أو تصبح بعض الجبال والصخور الجبارة حيوانات منقرضة، ويصبح الفأر الذي نستخفّ به أو نحتقره بطلاً جباراً في زمن سابق، أنقذ الأرض والبشرية من الهلاك…
هكذا، بين قصص الحيوانات التفسيرية غالباً، وقصص الكواكب والفصول والمظاهر الطبيعية الأخرى، وبين قصص الجنّ والعفاريت والساحرات، والقصص التربوية الأخلاقية، بين القصور التي يتجاوز وصفها الخيال، والأكواخ الفقيرة التي يسعى الخيال إلى تجاوز واقعها، تحتفي الحكاية الشعبية بالسرّي، وتعلي من شأن الغامض، تحيي المغامرة وتشجع عليها، وتنبذ الكسل، تمتدح التحول وتهجو الثبات والاستقرار. حتى إن عاش الأبطال في النهاية “في ثبات ونبات”، فإن ذلك لا يأتي إلا بعد رحلة شاقة تقارب أحياناً المستحيل، وأحياناً تتجاوزه كما نجد في حكايات العائدين من أرض الموت.
تقريباً، كل ما نعرفه اليوم من حكايات خيالية جاء من هذه الحكايات: قصص الحب الرومنطيقية التي انتقلت من الحكاية إلى الأغنية والفيديو كليب وشاشة السينما، كما قصص الأبطال الخارقين من قبيل “سوبرمان” و”باتمان” وما إلى ذلك، جميعها تجد جذورها في حكايات يعود بعضها إلى آلاف السنين، ولا يُعرَف لها أصل جغرافي واضح ونهائي.
ما استعادة هذه الحكايات اليوم ضمن هذه المبادرة الضخمة التي نهض بها مشروع “كلمة” للترجمة، إلا حكاية أخرى تضاف إلى الحكايات المستحيلة. ذلك أن مجرد فكرة جمع ما يقارب 1700 حكاية شعبية من 45 بلداً وعرقاً أو مجموعة بشرية، ضمن مشروع واحد يصدر دفعة واحدة، هو من الأحلام التي كان يصعب تخيل تحقيقها، لولا الكثير من حس المغامرة وتجاوز الحدود، مثلما تعلّمنا كل حكاية من الحكايات.
أما عنوان المجموعة، أي”ثقافات الشعوب” فلم يأت عبثاً، بل وجدنا فيه التعبير الأنسب والأبلغ عن روح الحكايات نفسها، تحديداً في مسألة اختراق الأمكنة والأزمنة، وأيضاً في مسألة أن كل حكاية من الحكايات تعبّر عن هوية البيئة التي تخرج منه وثقافتها، ولذلك نجد أن بعض الحكايات نفسها، مثل “ساندريلا”، تتغير في تفاصيلها وفي مسرحها وحتى في إيقاعها، تبعاً للمكان الذي تنتقل إليه، وللشعب الذي يعاود سردها، من أصل مجهول غالباً أو معلوم في أحيان قليلة.
بقي القول، إن المأمول من جمع هذه الحكايات العالمية ضمن مشروع واحد، أن تكون حافزاً لنا كعرب لنبادر إلى جمع ما لدينا من حكايات كثيرة، بات الكثير منها مهدداً بالضياع، بسبب الإهمال أو بسبب التغيرات العصرية وتكنولوجيا الاتصالات وصناعات الترفيه التي نقلت بعض الحكايات الشعبية إلى عالم الصورة، في حين حكمت بالفناء على غالبيتها. فلتكن إذاً هذه الحكايات بوابة جديدة تنبهنا إلى ما لدينا من كنوز شعبية، وتفتح شعبيتنا على إعادة اكتشاف حكاياتنا الخاصة ¶
الآينو
لماذا لا تستطيع الكلاب الكلام؟
ترجمة سهيل نجم
في سالف العصر والأوان كانت الكلاب تستطيع النطق. أما الآن فلا. سبب ذلك أن كلباً كان يعود الى شخص ما، وقد هاجمه بعنف في الغابة بذريعة اللعب معه وهناك تسبب في أن يلتهمه الدب. بعد ذلك ذهب الكلب إلى أرملة الرجل وكذب عليها قائلاً: “سيدي قتله الدب. لكنه عندما كان يحتضر، أمرني أن أطلب منك الزواج بدلاً منه”. عرفت الأرملة أن الكلب يكذب. لكنه ظل يحثها على الزواج منه. لذلك في النهاية وتعبيراً عن حزنها وغضبها رمت في فمه المفتوح حفنة من التراب. ذلك ما منعه من الكلام إلى الأبد. ولهذا السبب لم تعد الكلاب تتكلم حتى هذه الساعة.
لماذا لا يستطيع الديك الطيران؟
عندما انتهى الخالق من خلق العالم وعاد إلى السماء، أنزل الديك ليرى إن كان العالم بخير أم لا، وأمره بأن يسرع في العودة. لكن العالم كان جميلاً إلى حدّ أن الديك لم يستطع مغادرته، وبقي يتوانى يوماً بعد يوم، وفي النهاية، بعد مرور وقت طويل، كان في طريقه للطيران عائداً إلى السماء. لكن الرب كان غاضباً عليه بسبب عصيانه، فضربه ضربة أعادته إلى الأرض وقال له: “لم يعد مرغوباً فيك في السماء إلى الأبد”.
منذ ذلك اليوم لم تعد الديوك قادرة على الطيران عالياً ¶

الآينو من الأقليات العرقية في اليابان
الهنود الحمر
فتاة النجمة
ترجمة سامر ابو هواش
كان قوم أوجيبواي عظماء يحبّهم الجنّ. وكانت أرضهم موطن الكثير من الأرواح، وما داموا يعيشون على ضفاف البحيرات الكبرى فقد كانت الغابات في تلك النواحي مليئة دائماً بالجنّ. كان بعض الجن يقيم في الطحالب أسفل بعض الأشجار. وبعضهم الآخر يختبئ تحت الفطر ونبات “الغاريقون” السام. وقد دأب بعضهم على تغيير شكله إلى فراشات برّاقة الأجنحة أو حشرات أصغر ذات أجنحة لمّاعة. وكانوا يفعلون ذلك لكي يبقوا على مقربة من الأطفال الذين يحبّونهم ويحبّون اللعب معهم لأنهم يستطيعون رؤية بعضهم بعضاً.
لكن كان هناك أيضاً أرواح شريرة في تلك الأرض. كانت تلك الأرواح تلوذ بالأرض، وتقرض جذور أجمل الأزهار وتتلفها. كما اعتادت أن تنفخ على الذرة فتفسدها، وتصيخ السمع كلما سمعت بشراً يتكلمون، وتنقل الأخبار إلى أولئك الذين يسيئهم هذا الكلام.
بسبب هؤلاء الجنّ الأشرار، لا بدّ من أن الهندي يبقى صامتاً في الغابات ولا يبوح بأسراره في المخيم حتى يتأكد من أن الأرواح نامت تحت لحاف الثلج الأبيض.
كان القوم يعتنون بالأرواح الصالحة. فيحمون الأزهار ويطأون بحذر حين يرون طحلباً أو فطراً في طريقهم. وما كانوا يزيلون الطحلب عن الأشجار، أو ينصبون الفخاخ في أشعة الشمس، لأنه عليها يهبط آلاف الجن من السماء. وحين ينتهي الصيد يجلسون على أبواب أكواخهم ويدخنون، وبينما يشاهدون الدوائر الزرقاء ترتفع وتتلاشى في عتمة المساء، يصغون إلى أصوات الجنّ والحشرات وهي تدندن وآلاف الأصوات الصغيرة التي يأتي بها الليل دائماً.
ذات ليلة بينما يصغون، رأوا ضوءاً يلمع فوق أعلى الأشجار. كانت نجمة أكثر إشعاعاً من كل النجمات الأخريات، وبدت قريبة جداً من الأرض. وحين اقتربوا من الشجرة اكتشفوا أنها عالقة بين الأغصان العالية.
اجتمع حكماء القبيلة لثلاث ليال حول النار، لكنهم لم يتوصلوا إلى قرار في شأن النجمة الرائعة. أخيراً ذهب إليهم أحد المحاربين الشبان وقال لهم إنه رأى جليّة الأمر في المنام.
في أثناء نومه رفعت ريح الغرب ستائر كوخه وسقط عليه ضوء النجمة. فإذا به يرى فتاة حسناء تقف قربه. وتبسّمت له، وبينما ينظر عاجزاً عن النطق قالت له إن منزلها هو في النجمة وإنها بعدما جالت في الأرض لا تجد أرضاً أجمل من أرض الـ أوجيبواي، ذلك أن أزهارها الملونة وطيورها الغناء وأنهارها وبحيراتها الرائعة وجبالها المكسوة بالخضرة، قد سحرتها، فلم تعد ترغب في الترحال. فإذا ما رحبوا بها، فستجعل بيتها بينهم، وطلبت منهم أن يختاروا مكاناً تستطيع الإقامة فيه.
سرّ المجلس كثيراً بذلك؛ لكنهم لم يتفقوا على أفضل مكان يمكنهم تقديمه الى الفتاة النجمة، فقرروا أن يطلبوا منها الاختيار بنفسها.
بحثت أولاً بين أزهار القفار. هناك وجدت خاتم الجنّ، حيث ترقص الأرواح الصغيرة في الليالي المقمرة. قالت لنفسها: “سأستريح هنا”. لكن بينما تتأرجح إلى الأمام والوراء على سويقة زهرة جميلة، سمعت جلبة رهيبة ففرّت جزعة. جاء قطيع كبير من الثيران البرّية وكانت جلبتها عالية إلى حدّ أنها تُسمع من مسافات بعيدة. لا يمكن أي فتاة نجمة أن تختار مكاناً كهذا منزلاً لها.
بعد ذلك قصدت الوادي. فوجدته مبهجاً منعشاً حيث لامست الأعشاب الناعمة قدميها الرقيقتين، وكان يمكنها محادثة الأرواح التي تحبها، والتي تعيش في النجوم. لكن الوادي كان سحيقاً وكانت صخور الجبل الكبيرة تحجب عنها منظر قوم الأوجيبواي الذي تحبه.
كادت تصاب باليأس، حين نظرت ذات يوم إلى حافة ورقة الزهرة البرية ورأت زهرة بيضاء ذات قلب ذهبي تشع على مياه البحيرة تحتها. بينما نظرت، حرّك قاربٌ المياه وكان على متنه المحارب الذي أخبر شعبها بأمنيتها، ولامست يده القوية السمراء حافة الزهرة.
هتفت: “هذا هو منزلي”، وشبه محلّقة من سفح الجبل شقّت طريقها سريعاً إلى الزهرة وخبّأت نفسها في براعمها. هناك يمكنها مشاهدة النجوم حين تنظر من قلب الجبل؛ هناك يمكنها محادثة أرواح النجوم، التي تستحم في مياه البحيرة الصافية؛ والأفضل من كل شيء هناك تستطيع رؤية القوم الذين تحبهم والذين لا تفارق قواربهم الماء ¶
أوستراليا – السكان الأصليون
دينوان طائر الأمو وغومبل غابون الحبارى –
ترجمة ريما الجباعي
كان دينوان الأمو الأكبر بين الطيور حتى جعلته هذه ملكاً عليها. وكانت طيور الـ غومبل غابون، حبارى السهل (طائر اوسترالي يشبه الديك الرومي) تغار من الأمو. كانت غومبل غابون الأم تقتلها الغيرة والحسد كلما شاهدت دينوان الأم تحلّق عالياً وتركض برشاقة، وطالما تراءت لها وهي تتباهى بتفوقها أمامها حيث كلما حطّت قربها بعد تحليق عال وطويل، كانت تنفش ريشها وتتبختر تيهاً مزهوةً بنفسها وهي تغنّي ليس بصوت عال كصوت الذكر، ولكن بصوت مفعم بالشعور بالنصر والزهو، ولم يكن صوتها ليخفق مرة في إزعاج غومبل غابون كلما طرق أذنيها.
فراحت تفكر في طريقة تضع فيها حداً لتفاخر دينوان وخلصت إلى أن الطريقة الوحيدة لذلك هي في تدمير جناحي عدوّتها وحرمانها من القدرة على الطيران. ولكن كيف تفعل ذلك؟ شغلها هذا السؤال طويلاً فهي تعرف تماماً أن العراك ليس في مصلحتها، فمن المستحيل أن تنتصر على دينوان وهي الأقوى، ولهذا فليس لها سوى اللجوء إلى الحيلة.
ذات يوم وحين رأت دينوان مقبلة من بعيد، جلست على الأرض وطوت جناحيها وأخفتهما جيداً بحيث تبدو كأنها بلا جناحين، وبعدما تبادلتا الحديث لبعض الوقت، قالت غومبل غابون: “لمَ لا تقلدينني وتتخلي عن جناحيك؟ كل الطيور تطير ولكن ما سيميّز دينوان كملك الطيور هو التخلي عن الجناحين. انظري إليَّ عندما ستراني باقي الطيور وأنا بلا أجنحة فسيعتقدون أني الأكثر ذكاءً وسوف يختارونني ملكة”.
قالت دينوان: “ولكن لك جناحان”.
“لا، على الإطلاق”. وبالفعل بدت بلا جناحين وكان جوابها صادقاً فقد أخفت جناحيها جيداً وهي تتكور بين العشب. مضت دينوان في طريقها لكنها ظلت تفكر بما سمعته، ثم أخبرت زوجها بالأمر فأزعجه كثيراً. هكذا قررا بأنهما لن يدعا غومبل غابون تستولي على عرش عائلتهم، وأن لقب الملك هو من حقهم وسيدافعون عنه حتى لو كلفهم ذلك التخلي عن أجنحتهم.
أخيراً قررت عائلة دينوان التخلي عن أجنحتها، واختارت الأم أن تكون القدوة فأقنعت زوجها بقص جناحيها بحجر التمهوك (فأس الحرب، سلاح السكان الأصليين والهنود الحمر) وبعدها سارعت لتزفّ الخبر إلى غومبل غابون. ركضت برشاقة إلى السهل لتجدها لا تزال على العشب كما تركتها فبادرتها قائلة: “انظري لقد حذوت حذوك. فأنا بلا جناحين الآن”.
قهقهت غومبل غابون منتشية: “ها! ها! ها!”، ثم قفزت من مكانها وبدأت ترقص فرحة بنجاح خطتها. وبينما تدور راقصة، رفرفت بجناحيها وقالت: “لقد خدعتك، يا صاحبة الجناحين المبتورين، ما زلت أملك جناحين. إنكم طيور ساذجة وتُخدَع ببساطة ولا تصلحون لحمل لقب ملك الطيور. ها! ها! ها!”. هكذا ضحكت غومبل غابون هازئة ثم رفرفت بجناحيها في وجه دينوان التي انقضّت عليها لتعاقبها على خديعتها. لكن غومبل غابون طارت بعيداً ويا للحسرة! فمن أين لدينوان أن تلحق بها بعدما فقدت جناحيها.
شعرت دينوان بالخجل من خطئها، ومشت وهي تقسم بالثأر لنفسها. ولكن كيف؟ شغلها هذا السؤال هي وزوجها طويلاً قبل أن يجدا جواباً. بعد وقت خطرت على بال دينوان الأم خطة سارعت إلى تنفيذها. هكذا أخفت الأم جميع صغارها باستثناء اثنين تحت غصن كبير في الأجمة، ثم مضت إلى السهل، فرأت غومبل غابون تطعم فراخها الاثني عشر.
بعد حديث ودي مع غومبل غابون، قالت دينوان: “لماذا لا تفعلين مثلي وتكتفين بولدين فقط؟ اثنا عشر هو عدد كبير وستجدين صعوبة في إطعامهم كما أنهم لن يصبحوا طيوراً كبيرة مثل طيور دينوان فطعام اثني عشر صغيراً لا يسد رمقهم ولكنه يكفي لتسمين اثنين منهم”.
لم تجب غومبل غابون بحرف لكنها فكرت في سرّها أن ما سمعته قد يكون صحيحاً، فمن المستحيل أن تتجاهل بأن صغار دينوان هم أكبر بكثير من صغارها. مضت وهي تشعر بالاستياء وتتساءل ما إذا كانت كثرة العدد هي السبب الذي جعل صغارها أصغر حجماً من صغار دينوان. لكنها تذكرت خدعتها لها وفكرت أنه ربما الأخرى تحاول أن تخدعها بدورها. نظرت إلى دينوان وهي تطعم صغيريها ورأت كم كان حجم الصغيرين أكبر بكثير من حجم أيٍّ من صغارها، ومرة أخرى استولى عليها الشعور بالغيرة والحسد، فقررت أنها لن تستسلم حتى لو اضطرت إلى قتل صغارها. وقالت لنفسها: “الغامبل غابون سوف يستولون على العرش، سوف يكبرون مثل الدينوان ويحتفظون بأجنحتهم ويطيرون في حين أصبح الدينوان عاجزين عن الطيران”. لم تتردد غومبل غابون لحظة، بل سارعت إلى قتل صغارها باستثناء اثنين، وجاءت إلى حيث دينوان لا تزال تطعم صغيريها. عندما رأتها هذه مقبلة ومعها اثنان من صغارها فحسب نادتها قائلة: “أين باقي صغارك؟”. أجابت غومبل غابون: “لقد قتلتهم، وأنا الآن لديَّ اثنان فقط. وسوف يجدان الكثير من الطعام الآن وسوف يكبران ليصبحا بحجم صغيريك”.
“يا لك من أم قاسية، تقتل صغارها بكل بساطة، بسبب جشعها. لماذا فعلت ذلك؟ انظري إليَّ أنا لديَّ اثنا عشر ولداً وهناك الكثير من الطعام يكفي الجميع. ولن أقتل أياً منهم حتى لو كنت بقتله سأستعيد جناحيّ. هناك ما يكفي الجميع. انظري إلى أشجار الأمو وقد اكتست بالتوت لتطعم عائلتي الكبيرة. وانظري إلى الجنادب كيف جاءت تقفز حولنا، لنصيدها ونسمّن أنفسنا”.
“لكنك الآن لديك ولدان فقط”.
“أنا لديَّ اثنا عشر ولداً. سوف أذهب لإحضارهم لكي تريهم بنفسك”.
ركضت دينوان إلى الغصن حيث أخفت صغارها، وسرعان ما عادت بهم، تركض وعنقها ممدود إلى الأمام ورأسها مرفوع بزهو وافتخار وذيلها يتأرجح، فيما تغنّي بأعلى صوت يمكن حنجرتها الغريبة أن تحدثه، أغنية الفرح، وصغارها بجلودهم المخططة كحمار الوحش، يركضون بجانبها مدندنين لحن أطفال دينوان. وعندما وصلت إلى موضع غومبل غابون، قطعت غناءها وقالت بلهجة وقورة: “كما ترين لم أكذب عليك لديَّ اثنا عشر ولداً كما قلت لك. الآن يمكنك أن تنظري إلى صغاري وتفكري بصغارك المغدورين. وبينما أنت تفعلين ذلك، سأخبرك بمصير سلالتك إلى الأبد. لقد حرمت الدينوان من أجنحتها بمكرك وخديعتك ومن الآن فصاعداً، طالما أن الدينوان بلا أجنحة، فسوف تبيض غومبل غابون بيضتين فحسب في كل موسم، وسيكون لها صغيران لا أكثر. لقد بتنا متعادلتين الآن، أنت لديك جناحاك وأنا لديَّ صغاري”.
منذ ذلك الحين، فإن دينوان أو طيور الأمو تعيش بلا أجنحة، ولا تضع غومبل غابون أو حبارى السهل أكثر من بيضتين في موسم التكاثر ¶
البرازيل – السكان الأصليون
كيف أتى الليل؟ –
ترجمة نوح إبراهيم
قبل عصور وعصور، في أول الزمن، في بداية الخلق، لم يكن ثمة ليل. كان النهار طوال الوقت. وما سمع أحدٌ قَطّ بالشروق أو الغروب، بضوء النجوم أو بشعاع القمر. لم تكن طيور ليل، ولا حيوانات ليل، ولا زهور ليل، لم تكن ظلال متطاولة، ولا هواءُ ليلٍ رقيق مضمَّخ بالعبير.
في تلك الأيام، تزوجت ابنة ثعبان البحر العظيم التي كانت تسكن في أعماق البحار، من أحد أبناء الجنس الأرضي العظيم اسمه مان. فغادرت بيتها الواقع في ظلال البحار العميقة وجاءت لتقيم مع زوجها في أرض النهار. أضحت عيناها مرهقتين من ضوء الشمس الساطع وبدأ يذوي جمالها. راقبها زوجها بعينين حزينتين، ولكنه لم يدر ما يفعل ليساعدها.
“آه، فقط لو يأتي الليل”، ندبت وهي تتقلب متعبة على سريرها، “هنا نهارٌ دوماً، ولكن في مملكة أبي ثمة الكثير من الظلال. آه، فقط لو قليلٌ من عتمة الليل!”.
استمع زوجها إلى أنينها، ثم سألها: “ما هو الليل؟ أخبريني عنه وقد أستطيع أن أجلب لك القليل منه”.
قالت ابنة ثعبان البحر العظيم: “الليل هو الاسم الذي نمنحه للظل الكثيف الذي يعتِّم مملكة أبي في أعماق البحار، أحبّ ضوء شمس يابستكم، ولكنه يتعبني باطراد. لو كان في مقدورنا الحصول على قدرٍ ضئيل من عتمة مملكة أبي لنريح أعيننا برهةً”.
استدعى زوجها على الفور ثلاثة من أكثر عبيده ولاءً وقال لهم: “سوف أرسلكم في رحلة. عليكم الذهاب إلى مملكة ثعبان البحر العظيم التي تقع في أعماق البحار وسؤاله أن يعطيكم بعض عتمة الليل لعلَّ ابنته لا تموت بسبب ضوء الشمس على يابستنا”.
انطلق العبيد الثلاثة إلى مملكة ثعبان البحر العظيم. بعد رحلة طويلة خطيرة وصلوا إلى بيته في أعماق البحار وطلبوا منه أن يمنحهم بعض ظلال الليل ليحملوها إلى اليابسة. أعطاهم ثعبان البحر العظيم على الفور كيساً ممتلئاً. كان مربوطاً بإحكام وحذّرهم ثعبان البحر العظيم ألا يفتحوه قبل أن يصبحوا في حضور ابنته.
انطلق العبيد الثلاثة، حاملين الكيس الكبير المليء بالليل على رؤوسهم. سرعان ما سمعوا أصواتاً غريبةً داخل الكيس. كانت أصوات كل حيوانات الليل وطيوره وحشراته. وإذا كنت سمعت كورس الليل ينبعث من الغابات على ضفاف الأنهار فستعرف كيف بدا لهم ذلك الصوت الذي لم يسمعوا مثيلاً له في حيواتهم قطّ. فخافوا أشدّ الخوف.
قال العبد الأول: “فلنرم الكيس المليء بالليل هنا ونهرب بأقصى سرعة ممكنة”.
صرخ العبد الثاني: “سنهلك، سنهلك، على كل حال، مهما فعلنا”.
قال العبد الثالث: “سواء هلكنا أم لا، فسأفتح الكيس وأرى ما الذي يصدر كل هذه الأصوات الرهيبة”.
هكذا وضعوا الكيس على الأرض وفتحوه. فاندفعت خارجةً جميع حيوانات الليل وطيوره وحشراته، كما اندفعت خارجةً غيمةُ الليل الكبيرة السوداء. وشعر العبيد بالفزع في العتمة أكثر من قبل بكثير ففرّوا إلى الغابة.
كانت ابنة ثعبان البحر العظيم تنتظر قلقة عودة العبيد بالكيس الملآن بالليل. مذ انطلقوا في رحلتهم، تطلَّعتْ إلى عودتهم، مظللةً عينيها بيدها ومحدقة الى الأفق، آملةً من كل قلبها عودتهم سريعاً ومعهم الليل. وكانت واقفة على هذه الحال تحت شجرة النخيل الملكي حين فتح العبيد الثلاثة الكيس وتركوا الليل يفلت. فصرخت حين أبصرت غيوم الليل في الأفق: “يأتي الليل، يأتي الليل أخيراً”. ثم أغمضت عينيها ونامت هناك تحت الشجرة.
حين استيقظت شعرت بتجدد رائع. عادت من جديد الأميرة السعيدة التي غادرت مملكة أبيها في أعماق البحار العظيمة لتأتي إلى اليابسة. وباتت مهيأة عندئذ لرؤية النهار ثانية. نظرت إلى الأعلى، إلى النجمة الساطعة المتألقة فوق شجرة النخيل وقالت: “أيتها النجمة الساطعة، من الآن فصاعداً سيكون اسمك نجمة الصبح وستبشرين بقدوم النهار. ستحكمين ملكةً على السماء في هذه الساعة”.
ثم استدعت كل الطيور حولها وقالت لها: “أيتها الطيور المغردة الخلابة، آمرك من الآن فصاعداً أن تغنّي أعذب أغانيك في هذه الساعة لتعلني اقتراب النهار”.
وكان الديك واقفاً بجانبها. فقالت له: “ستُعَيَّن أنت خفيراً لليل. سيحدد صوتك ساعات الليل وسينبه الآخرين إلى مجيء الصبح”.
في البرازيل، حتى يومنا هذا، نسمي ساعة الفجر madrugada. يعلن الديك اقترابها للطيور المنتظرة. تغنّي الطيور أعذب أغانيها في تلك الساعة ونجمة الصبح تحكم السماء كملكةٍ للفجر.
حين عاد النهار، انسلّ العبيد الثلاثة إلى وطنهم عبر الغابات والأدغال حاملين كيسهم الفارغ.
قال لهم سيدهم: “أيها العبيد الخونة، لِمَ لم تطيعوا أمر ثعبان البحر العظيم بألا تفتحوا الكيس إلا في حضور ابنته؟ بسبب عصيانكم سأحولكم قردة. من الآن فصاعداً ستعيشون على الأشجار. ستحمل شفاهكم دوماً علامة شمع الختم الذي ختم الكيس المليء بالليل”.
حتى يومنا هذا، يرى المرء العلامة على شفاه القردة التي عضّوا بها الشمع الذي ختم الكيس، وفي البرازيل ينتشر الليل سريعاً على الأرض مثلما انتشر سريعاً خارجاً من الكيس في تلك الأيام، عند بداية الزمن.
كل حيوانات الليل وطيوره وحشراته تنشد نشيد المغيب في الغابات عند هبوط الليل ¶
كندا – السكان الأصليون
الفتى في أرض الظلال –
ترجمة خالد الجبيلي
عاش طفلان يتيمان، فتى وفتاة، وحدهما في مكان قريب من الجبال، وكان أبواهما قد ماتا منذ زمن بعيد، وبقي الطفلان من دون أن يرعاهما أحد من الأقارب على وجه الأرض. كان الفتى يخرج إلى الصيد طوال اليوم ليأتي بالطعام، بينما تقوم الفتاة بأعمال البيت من ترتيب وطهي. كان كلٌّ منهما يحبّ الأخر حباً عميقاً، وعندما كبرا قالا: “لن يترك أحدنا الآخر، وسنمكث هنا معاً باستمرار”. في إحدى السنوات، اشتد البرد في مطلع الربيع، وكست الثلوج السهول، وانتقل الجليد ببطء من الأنهار، وظلت الرياح الباردة تهبّ بشدة، وخيّمت السحب والأبخرة الرمادية فوق الأرض برمتها، ولم يعد هناك الكثير من الطعام، لأن جميع الحيوانات اختبأت في عرائنها الشتوية الدافئة، وكان الإوز والبط البرّي لا يزال يقبع في أقصى الجنوب. في هذه الفترة القاسية من الطقس السيئ، مرضت الفتاة الصغيرة وماتت، وكان أخوها يبذل كل ما في وسعه ليقدم اليها الغذاء، وجمع شتى أنواع الجذور الطبّية التي كان يعتقد أنها ستنقذها وتعيدها إلى الحياة، لكنّ جهوده تلك باءت بالفشل. على الرغم من جميع الجهود التي بذلها، غادرت أخته ذات مساء عند الغسق إلى بلاد الغرب، وتركته وحيداً على الأرض.
تحطم قلب الفتى حزناً على موت أخته. في أواخر الربيع، عندما ساد الدفء، وعاد الغذاء ليصبح وفيراً، قال: “لا بد من أنها موجودة في مكان ما في الغرب لأنهم يقولون إن قومنا لا يموتون حقاً. سأذهب وسأبحث عنها، فلعلي أجدها وأعيدها”. في صباح أحد الأيام، انطلق في رحلته الغريبة للبحث عنها. ورحل أياماً عديدة صوب الغرب في اتجاه المياه العظيمة، يصطاد الحيوانات ليأكلها في طريقه، وينام في الليل تحت النجوم. والتقى عدداً من الغرباء، لكنّه لم يخبرهم عن هدف رحلته، ووصل أخيراً إلى شاطئ المياه العظيمة، وجلس وراح ينظر إلى الغروب متسائلاً ماذا يفعل بعد ذلك. في المساء جاء عجوز، وسأله: “ماذا تفعل هنا؟”. فأجاب الفتى: “أبحث عن أختي التي مرضت منذ فترة من الزمن وماتت، فأصبحت وحيداً من دونها، وأريد أن أجدها وأعيدها معي”. فقال الرجل: “لقد مرّت التي تبحث عنها من هذا الطريق منذ فترة من الزمن، وإذا أردت أن تجدها فيجب عليك أن تقوم برحلة خطيرة”. أجاب الفتى أنه سيكون سعيداً لمواجهة أي خطر لكي يعثر على أخته، فقال الشيخ: “سأساعدك. لقد ذهبت أختك إلى أرض الظلال البعيدة في بلد الصمت الذي يقبع بعيداً في جزيرة بليست. لكي تصل إلى الجزيرة، يجب أن تبحر بعيداً نحو الغرب، لكنني أحذّرك بأنّها رحلة محفوفة بالأخطار، لأن عبورها صعب للغاية وستلقي العواصف بمركبك، لكنّك ستكافأ على الصعاب التي ستواجهها، لأنه لا يوجد أحد في تلك الأرض جائع أو متعب، ولا يوجد هناك موت ولا حزن، ولا توجد هناك دموع، ويظل الجميع شباباً”.
ثمّ قدم الشيخ للفتى غليوناً كبيراً وقليلاً من التبغ، وقال له: “ستساعدك هذه على قضاء حاجتك”، وأخذه إلى مكان فيه زورق صغير على الشاطئ. كان الزورق رائعاً، أجمل قارب رآه الفتى في حياته، فقد نُحت من قطعة حجر واحدة بيضاء، وراح يتلألأ في الغسق الأحمر مثل جوهرة مصقولة، وقال له الشيخ: “سيصمد هذا الزورق أمام جميع العواصف، لكن احرص على أن تديره  بعناية، وعندما تعود، احرص على أن تبقيه في الخليج الصغير حيث وجدته”.
بعد فترة وجيزة، انطلق الفتى في رحلته. كان القمر بدراً والليلة باردة مليئة بالنجوم. وأبحر إلى الغرب في بحر عاصف متلاطم الأمواج، لكنّه لم يتعرض لأيّ خطر لأن زورقه أبحر بسهولة فوق الماء، ثم رأى حوله في ضوء القمر قوارب عديدة أخرى تبحر في الاتجاه نفسه، جميعها بيضاء ومتلألئة مثل قاربه، وبدا أنه ليس هناك من يوجّهها، فمع أنه أمعن النظر فيها، فلم يتبين وجود أحد فيها، وتساءل إن كانت الزوارق تبحر وحدها ولا يوجد فيها أحد يوجهها، لأنه عندما نادى لم يأته أيّ ردّ منها. وكان بين الحين والآخر يرى زورقاً ينقلب في البحر فتغمره الأمواج ولا يعود يُرى ثانية، وغالباً ما كان يخيّل للفتى أنه يسمع صرخة حزينة. أبحر أياماً عديدة نحو الغرب، وكانت هناك طوال الوقت زوارق أخرى غير بعيدة عن زورقه، وكان بعضها يختفي عن نظره تحت أمواج الماء، لكنه لم ير فيها أي كائن.
أخيراً، وبعد رحلة طويلة، هدأت أمواج البحر وأصبح الهواء رقيقاً دافئاً، ولم يعد ثمة أثر لأيّ عاصفة، وأضحت السماء صافية كالبلور، ورأى أنه أصبح قريباً من جزيرة بليست التي حدّثه عنها الشيخ، لأنه بدأ يرى سهلاً منبسطاً ارتفع فوق المحيط، تكسوه الأعشاب والأشجار الخضراء، وشاطئاً أبيض كالثلج. وسرعان ما وصل إلى الشاطئ، وسحب زورقه. وعندما التفت رأى هيكلاً عظمياً مستلقياً فوق الرمل، فتوقّف وألقى نظرة عليه، وعندما بدأ ينظر إليه، انتصب الهيكل العظمي في جلسته، وقال بدهشة كبيرة: “ليس من المفترض أن تكون هنا. لماذا أتيت؟”. فقال الفتى: “أبحث عن أختي التي مرضت في مطلع الربيع وماتت، وأنا ذاهب إلى أرض الظلال في بلد الصمت لأبحث عنها”، فقال الهيكل العظمي: “يجب أن تذهب بعيداً داخل اليابسة، والطريق وعرة ويصعب عليك أن تعثر عليها”. طلب الفتى أن يرشده فقال الهيكل العظمي: “دعني أدخّن وسأساعدك”، فأعطاه الفتى الغليون والتبغ الذي أعطاه إياهما الشيخ، وضحك عندما رأى الغليون بين أسنان رفيقه الغريب. دخّن الهيكل العظمي قليلاً، وعندما صعد الدخان من غليونه، تحوّل سرباً من الطيور البيضاء الصغيرة راحت تطير مثل الحمام. نظر الفتى متعجباً، وقال الهيكل العظمي: “هذه الطيور سترشدك إلى الطريق. هيا اتبعها”، ثمّ أعاد اليه الغليون وعاد وتمدد على الرمل، ولم يستطع الفتى أن يوقظه من سباته.
تبع الفتى الطيور البيضاء الصغيرة كما طُلب منه، ومضى يسير في أرض الجمال العظيم حيث تتفتح الأزهار، وحيث يغرّد عدد لا يحصى من الطيور، ولم يصادف أحداً في الطريق. كان المكان مهجوراً إلا من الطيور التي تغرد والأزهار المتفتحة. مرّ عبر بلد الصمت، ووصل إلى أرض غامضة لا يقيم فيها أحد، ولكن مع أنه لم ير أحداً، فقد تناهت إليه أصوات عديدة لم يعرف مصدرها، بدت أنها تحيط به من جميع الجهات. وتوقّفت الطيور أخيراً عند مدخل حديقة كبيرة، وراحت تحوم حول رأسه، ولم تكن تطير بعيداً عنه، ثم حطّت فوق شجرة قريبة، ما عدا طير واحد جثم فوق كتف الفتى، وعرف الفتى أنه وصل أخيراً إلى أرض الظلال. وعندما دخل الحديقة، سمع أصواتاً منخفضة عدة، لكنه لم ير أحداً، ولم ير إلا ظلالاً من الناس ترقد فوق العشب، ولم يتمكن من رؤية ماذا ينبعث من الظلال. دُهش كثيراً لهذا المشهد الغريب وغير المعتاد، لأن ضياء الشمس لا يُحدث أيّ ظل في ذلك الوقت من السنة في بلده، وراح ينصت ثانية الى الأصوات، وعرف أن الظلال تتكلّم. أخذ يطوف متعجّباً كثيراً من هذا المكان الغريب بجماله غير الدنيوي الآسر، وسمع أخيراً صوتاً عرف أنه صوت أخته. كان صوتاً ناعماً رقيقاً وعذباً، لم يتغير عما كان يعرفه عندما كانا معاً على الأرض. توّجه إلى الظلّ الذي انبعث منه الصوت، وارتمى على العشب بجانبه، وقال: “إني أبحث عنك منذ مدة طويلة يا أختي. لقد جئت لكي آخذك إلى البيت. دعيني أراك كما كنت أراك عندما كنا نقيم معاً”، لكن أخته قالت: “لقد تصرفت بحكمة لأنك أبقيتني في ذاكرتك، ولرغبتك في أن تبحث عني. لكننا هنا لا نستطيع أن نظهر لأناس الأرض إلا كظلال، ولا أستطيع أن أعود معك، لأن الأوان قد فات كثيراً، فقد أكلت من طعام هذه الأرض، ولو كنت قد أتيت قبل أن أتناول طعامها، لعلك استطعت أن تأخذني معك. من يعرف؟ لكن قلبي وصوتي لم يتغيرا، ولا أزال أتذكّر الذين أحبّهم، وبحبّ لا يتبدل لا أزال أراقب بيتي القديم؛ ومع أنني لا أستطيع الذهاب معك، يمكنك أن تأتي إليّ ذات يوم، لكن يجب أن تنهي أولاً عملك على الأرض. عد إلى وطنك في بلاد الأرض، وستصبح زعيماً عظيماً في قومك. احكم الناس بالعدل وبالحكمة، ووزِّع الطعام الذي لديك مجاناً على الفقراء الهنود الذين لا يملكون بقدر ما تملك. وعندما ينتهي عملك على الأرض، ستأتي عندي إلى أرض الظلال القابعة وراء بلد الصمت، وسنصبح معاً ثانية، ولن يغادرنا شبابنا وقوتنا وجمالنا إلى الأبد”.
دُهش الفتى كثيرا في حزن عميق، وقال: “دعيني أمكث معك الآن”، لكن أخته قالت: “هذا غير ممكن”، ثم قالت: “سأعطيك ظلاً يجب أن تحتفظ به بمثابة الروح الحارسة، وما دام معك، لا يمكنه أن يصيبك بأذى، لأنه لن يكون حاضراً إلا في الضوء، وحيثما يوجد ضوء لا يمكن أن يكون هناك شرّ، لكنه عندما يختفي يجب أن تكون حذراً وأن تحرص على ألا ترتكب أعمال الشرّ، لأنه سيكون هناك ظلام، وقد يقودك الظلام إلى الخطأ”.
هكذا أخذ الفتى الظلّ، وبدأ رحلة العودة إلى بلده. وأرشدته الطيور الصغيرة البيضاء التي كانت تنتظره على الأشجار إلى الشاطئ. كان زورقه لا يزال هناك، لكن الهيكل العظمي لم يعد له أثر على الرمل، وكانت جزيرة بليست صامتة باستثناء صوت تغريد الطيور، وخرير الجداول الصغيرة. ركب الفتى زورقه وأبحر شرقاً، وما إن ابتعد عن الشاطئ، حتى تركته الطيور الصغيرة البيضاء وتلاشت في الهواء. كان البحر هادئاً ولم تهبّ أيّ عاصفة، كما حدث في رحلته السابقة. سرعان ما وصل إلى الشاطئ على الجانب الآخر، وترك زورقه في الخليج الصغير كما أخبره العجوز، وبعد بضعة أيام عاد إلى بيته، لا يزال حاملاً الظلّ معه من بلد الصمت.
عمل بجدّ لسنوات عديدة، لكنّه لم يرتكب شرّاً، وفي النهاية، أصبح زعيماً عظيماً وأحسن كثيراً الى شعبه، وحكم بالحكمة والعدل، وعامل شعبه برقة ولين كما طلبت منه أخته. في أحد الأيام، عندما أصبح عجوزاً وانتهى عمله، اختفى، وعرف قومه أنه ذهب ليلحق بأخته في أرض الظلال في بلد الصمت البعيدة في مكان ما في الغرب، لكنه ترك الظلّ الذي أعطته إياه أخته. وعندما يكون هناك ضوء يبقى مع الهنود ظلّهم فلا يصيبهم أذى، لأنه حيثما يكون الضوء، لا يمكن أن يكون هناك شرّ.
في أواخر الخريف، يبقى ظلا الأخّ والأخت الهنديين في بلد الصمت وحيدين كما في حياتهما السابقة، ويتذكران أصدقاءهما الأحياء وأماكن شبابهما، ويتمنّيان مرة أخرى أن يخرجا إلى الصيد، لأنهما يعرفان أن قمر الصيد مضيء، وحين تلوح في ذاكرتهما حياتهما السابقة، يُسمح لروحيهما بأن تعودا إلى الأرض لتمضية فصل قصير بعيداً من أرض الظلال، وعندها تسكن الرياح، وتعود الأيام ساكنة هادئة، ويظهر دخان نار مخيمهم مثل ضباب رقيق في الهواء. ويطلق الناس على هذا الفصل اسم الصيف الهندي، لكنّه ليس إلا ظلّ الصيف الذهبي الذي ولّى. ويذكر الهنود دائماً أنه في أرض الظلال، بعيداً في بلد الصمت في الغرب، لا يوجد هناك أموات ¶
الشيروكي
كيف نشأ العالم؟ –
ترجمة فادي الطفيلي
الأرض جزيرة عظيمة تطفو على بحر من المياه، وتتعلق بعقد السماء الذي من صخر صلب بحبال تتدلى من كل واحدة من نقاطه الأربع الرئيسية. عندما يهرم العالم ويبلى، سيموت الناس وتنقطع الحبال تاركة الأرض للمحيط تغرق فيه، وسيعمّ الماء مرة أخرى. وهذا ما يخشاه الهنود على الدوام.
حين كان الماء يملأ الأرض، كانت الحيوانات فوق في غالونلاتي، خلف القنطرة. إلا أن الازدحام كان كبيراً، فبدأت تسعى إلى مكان إضافي. تساءلت عما تحت المياه، وأخيراً عرض دايونيسي، حفيد القندس، خنفس الماء الصغير، الذهاب للبحث عما يوجد هناك. وثب في كل اتجاه فوق سطح الماء، لكنه لم يستطع العثور على موضع يابس يستريح عليه. ثم غاص إلى الأعماق، وعاد إلى الأعلى ببعض طين ليّن أخذ يكبر ويمتد في كل اتجاه حتى صار الجزيرة التي نسمّيها الأرض. وكان أن عُلّقت السماء بعد ذلك بأربعة حبال، لكن أحداً لا يذكر من علّقها.
في البدء كانت الأرض مسطّحة بالغة اللين والرطوبة. فقلقت الحيوانات من السقوط، وأرسلت طيوراً مختلفة لترى إن كان الجفاف قد حلّ، إلا أنها لم تجد مكاناً تحطّ عليه فعادت أدراجها إلى غالونلاتي. أخيراً، بدا أن الوقت حان، فأرسلت الصقر وطلبت منه أن يذهب ويهيئ لها الأمر. ذاك كان الصقر العظيم، أبا جميع الصقور التي نراها الآن. طار في أرجاء المعمورة، ودنا من اليابسة، وكان الماء لا يزال في الأرجاء. حين بلغ بلاد الشيروكي، أدركه التعب الشديد، وأخذ جانحاه يصفقان ويرتطمان بالأرض، وصارا في كل موضع يرتطمان به يشقّان وادياً، وحين يرتفعان مرة أخرى يقوم جبل. وإذ رأت الحيوانات في الأعلى ذلك، خافت من أن يمتلئ العالم بالجبال، فنادت عليه كي يعود، لكن أرض الشيروكي ظلت محتشدة بالجبال حتى يومنا هذا.
حين جفّت الأرض ونزلت الحيوانات، كان الظلام لا يزال سائداً، فقامت الحيوانات إذ ذاك وأحضرت الشمس ووضعتها في مسار تذهب فيه كل يوم، هنا في الأعلى، عبر الجزيرة من الشرق إلى الغرب. بذاك بات الحر شديداً، وامتلك الإربيان الأحمر (جراد البحر)، تسيسكاغيلي، محاراً ملذوعاً بالأحمر القاني، مما جعل لحمه فاسداً فامتنع الشيروكي عن أكله. ورفع السحرة الشمس في الهواء شبراً آخر، غير أن الحرّ ظلّ شديداً. فرفعوها مرة أخرى، وثالثة، إلى أن باتت على ارتفاع سبعة أشبار تحت قنطرة السماء بالتمام. حينها غدت الشمس في موقعها الصحيح، فتركوها هكذا. لهذا يسمّي السحرة المكان الأعلى “غولكواجين دي غالون لاتييون”، “العلو السابع”، لأنه على علوّ سبعة أشبار فوق الأرض. في كل يوم تتقدم الشمس على طول القنطرة وتحتها، وتعود في المساء إلى الجانب الأعلى عند نقطة البداية.
ثمة عالم آخر في أسفل هذا العالم، وهو كمثل عالمنا في كل شيء – الحيوانات، النباتات والبشر – ما عدا الفصول فهي مختلفة. وليست الجداول التي تنزل من الجبال إلاّ السبل التي تقودنا إلى العالم السفلي، أما في أعلاها فهي بوّابات العبور التي ندخل منها، لكن كي يفعل المرء هذا عليه الذهاب مسرعاً إلى الماء فيتخذ واحداً من سكان العالم السفلي دليلاً. نحن نعلم أن الفصول في العالم السفلي تختلف عن فصولنا، لأن الماء في الجداول على الدوام أدفأ في الشتاء وأبرد في الصيف من الهواء المحيط.
في البدء عندما خُلقت الحيوانات والنباتات – نحن لا نعلم من خلقها – طُلب منها أن تراقب وأن تبقى صاحية لليالٍ سبع، تماماً كما يصوم الشبان اليوم ويبقون صاحين حين يصلون الى قوتهم السحرية. وقد حاولت الحيوانات فِعل هذا، وظلت كلها تقريباً صاحيةً طوال الليلة الأولى، لكن عدداً منها استسلم للنوم في الليلة الثانية، ونام آخرون في الليلة الثالثة، ومن ثم آخرون، حتى لم يبقَ من جميع الحيوانات مَن هو صاحٍ في الليلة السابعة سوى البومة والفهد وحيوان واحد أو اثنين غيرهما. لهذا أعطيت البومة القدرة على الرؤية والتجوال في الظلام، وأن تجعل من الطيور والحيوانات التي تنام في الليل طرائد لها.
أما أشجار السدر والصنوبر والغار فقد ظلت، دون غيرها من الأشجار، صاحية حتى النهاية، وقد أعطيت لها الخضرة الدائمة وأن تكون الأعظم للعلاج، وقد قيل للأشجار الأخرى: “لأنك لم تثبتي حتى النهاية فسوف تفقدين شعرك في كل شتاء”.
بعد الحيوانات والنبات جاء البشر. في البدء لم يكن هناك سوى شقيق وشقيقة إلى أن رمى الشقيق أخته بسمكة وقال لها أن تتكاثر، ففعلت. في سبعة أيام ولد لها ابن، وبعدها صار في كل سبعة أيام يولد ابن آخر، وأخذ البشر يتزايدون بسرعة كبيرة حتى بات هناك خطر ألا يتسع العالم لجميع أولادها. حينئذ جُعل إنجاب المرأة لابن واحد في العام لا أكثر، وبقي الوضع على هذه الحال منذ ذلك الحين ¶
الأسكيمو
نشأة الإنسان منذ زمن بعيد بعيد جداً –
ترجمة نجاح سفر
أخبرنا أسلافنا الكثيرون عن نشأة الأرض والبشر، وكان ذلك منذ زمن بعيد جداً. أولئك الذين عاشوا قديماً، لم يعرفوا كيف يحفظون كلماتهم في رموز سوداء صغيرة، كما تفعلون، وكل ما كانوا يفعلونه هو سرد الحكايات. وقالوا الكثير من الأشياء، فأصبحت لدينا معرفة بتلك الأشياء التي لطالما سمعناها مذ كنا صغاراً. لا تضيّع النسوة العجائز أوقاتهنّ في رواية التفاهات، ونحن نؤمن بما يقلن. فالكبار لا يكذبون.
قبل زمن طويل جداً، إبّان تشكّل الأرض، سقطت من السماء. كل شيء سقط من السماء: التربة، والهضاب، والحجارة، وهكذا تشكلت الأرض.
وبعد تشكل الأرض، جاء البشر.
قيل إنهم خرجوا من الأرض. في البدء خرج الأطفال. برزوا من شجيرات الصفصاف، وكانت أجسادهم مغطاة بأوراق الصفصاف. ثم استلقوا بين الشجيرات الصغيرة: استلقوا وحرّكوا أرجلهم، لأنهم لم يتمكنوا حتى من الزحف. وتناولوا طعامهم من الأرض.
ثم حدث شيء في خصوص المرأة والرجل، لكن ما هو؟ لم يكن الأمر معروفاً. متى التقيا، ومتى كبرا؟ لا أعرف. كانت المرأة تخيط، وتصنع ملابس الأطفال وتتجوّل. عندها وجدت أطفالاً صغاراً، ألبستهم الملابس، وجلبتهم إلى المنزل.
في هذه الأثناء راح عدد البشر يتزايد.
ولأنهم كثروا، رغبوا في اقتناء الكلاب. خرج الرجل وهو يحمل رسناً بيده، وبدأ يدوس الأرض بقوة صارخاً: “هوك، هوك، هوك!”، عندها خرجت الكلاب مسرعة من قلب الهضاب، ونفضت نفسها بعنف لتتخلص من الرمال التي تغطيها. هكذا وجد الرجال الكلاب.
لكن بعدها بدأ الأطفال بالتوالد، وزاد عدد البشر كثيراً على الأرض. لم يكونوا يعرفون شيئا عن الموت في تلك الأيام، قبل زمن طويل جداً، وكانوا يعمّرون طويلاً. صاروا عاجزين عن المشي، وفقدوا أبصارهم، لكنهم لم يتمكنوا من الموت.
كما أنهم لم يعرفوا الشمس، فقد عاشوا في الظلام. لم يطلع عليهم نهار قطّ. كانوا يضيئون داخل بيوتهم بالمصابيح، التي يوقدونها بالماء، فالماء كان يشتعل في تلك الأزمنة.
لكن أولئك البشر الذين لم يعرفوا معنى الموت، ازدادوا كثيراً وتزاحموا في الأرض. بعدها جاء طوفان ضخم، فغرق كثير منهم، وتضاءل عدد البشر. ولا نزال نرى علامات ذلك الطوفان العظيم، على قمم الهضاب العالية، حيث توجد غالباً أصداف بلح البحر.
بعدما بدأ عدد البشر يقلّ، تحدثت امرأتان عجوزان على النحو الآتي:
قالت إحداهما: “من الأفضل أن نعيش من دون نهار، طالما لا يوجد موت”.
فردّت الأخرى: “لا، ليكن لدينا النهار والموت”.
عندما تفوهت العجوز بتلك الكلمات، فكأنها تمنّت أمنية. فقد جاء النهار والموت.
قيل إنه عندما مات أول إنسان، غطّى الآخرون جسده بالحجارة. لكن الجسد عاد ثانيةً، بسبب عدم معرفته بكيفية الموت. رفع رأسه قاعداً، وحاول النهوض. لكن امرأة عجوزاً دفعته إلى الخلف، وقالت: “لدينا الكثير لنحمله معنا وزلاّجاتنا صغيرة”.
فقد كانوا في طريقهم الى رحلة صيد. وأُجبر الميت على العودة إلى كومة الحجارة.
الآن، بعدما حصل البشر على النور في أرضهم، باتوا قادرين على الذهاب في رحلات، والخروج الى الصيد، ولم يعد أكلهم مقتصراً على ما تنتجه الأرض، ومع الموت جاء أيضاً الشمس والقمر والنجوم.
حين يموت البشر، يصعدون إلى السماء حيث يتحولون نجوماً متلألئة ¶

جورجيا
قَــدَر –
ترجمة ريمة البعيني
يحكى أنه كان لملك شديد البأس ابن وحيد. عندما كبر الابن، وقعت كل الأميرات في حبّه. فرغب الملك في تزويجه باكراً. فاختار له إحدى الأميرات وقرر أن يتقدم لخطبتها، لكن الابن رفض بشدة قائلاً: “لا يا أبي، لن أتزوج بهذه الأميرة، فقدري يقول غير ذلك”.
بعد مضيّ بعض الوقت تقدم الشاب من أبيه قائلاً: “أرجوك يا أبي، أن تسمح لي بالسفر بحثاً عن حظّي في الحياة، وأتمنى منك أن تعطيني ثلاثة أكياس من المال”. فاستجاب الملك طلب ابنه الذي أعدّ العدّة للسفر في رحلته الطويلة.
سار الشاب في طريقه حتى التقى رجلاً غريباً، ولم يكن هذا الغريب سوى ملاك في هيئة إنسان. سأل الغريب الشاب: “إلى أين أنت ذاهب؟ ما الذي تبحث عنه؟”. أخبره الأمير عن رغبته في أن يعرف ما كُتب له في حياته. فأراه الغريب قصراً رائع الجمال، وقال له: “هناك ستعرف الكثير عن قدرك”.
شكر الأمير الغريب، وانطلق في اتجاه القصر. وعندما وصل ساحة القصر، نظر حوله ورأى العديد من الرسائل والعلامات. بدأ بتفحصها والبحث فيها لكن بلا فائدة. ثم خرج من القصر رجل آخر، سأل الشاب: “ما الذي تفعله هنا يا أخي؟ عمّ تبحث؟”.
فأجاب الأمير: “إنني أبحث عن الرسالة التي كُتب عليها قدري”. فردّ عليه الغريب: “ولماذا تبحث هناك، ذاك المكان فقط للرعية البائسة، أما أقدار الملوك والعظماء فمكتوبة هنا داخل القصر. تعال وسأريك قدرك”.
دخل الشاب القصر. بينما بحث الرجل المجهول عن قدر الشاب، وعندما وجده نادى عليه وقرأ له ما كُتب عليه: “سيتزوج الأمير الفلاني ابنة نسّاج كانت مريضة منذ تسع سنوات”. أصيب الأمير بالهلع لما سمعه وفكر: “سأغيّر قَدَري”. أخذ ورقته وانطلق بحثاً عن ابنة النسّاج.
قطع مسافة طويلة حتى وصل إلى غابة كثيفة الأشجار، وكان الظلام قد بدأ يخيّم على الغابة. تجول قليلاً علّه يجد مكاناً يأوي إليه خلال الليل، فرأى ضوءاً يلتمع من بعيد. سار في اتجاه الكوخ، وطلب الإذن بالمبيت. أجابه صاحب الكوخ: “يا بني، يبدو أنك من النبلاء، ليس لدينا ما يليق بمستواك، لكننا سنقدم اليك أفضل ما عندنا، فالضيف هبة من الرب”. أمضى الشاب ليلته في الكوخ، ولم يبخل عليه المضيف في شيء. عندما أنهيا طعام العشاء، لاحظ الأمير وجود شخص آخر يتناول طعامه في الغرفة المجاورة. فسأل مضيفه: “أرجو ألا تجدني متطفلاً، لكن هل لي أن أسألك من الذي في الغرفة المجاورة وما المغزى من وجوده هناك؟”. فحكى له المضيف حكايته قائلاً:
“أنا نسّاج، وأعيش على قوت يومي. لم يرزقني الله بمن يقف إلى جانبي ويساعدني في عملي. لديَّ ابنة وحيدة ومريضة منذ تسع سنوات لا تستطيع النهوض من فراشها، ولا يمكنها مساعدتي في شيء”. عندما سمع الأمير حكاية الرجل، عضّ إصبعه من الغيظ، وأصيب بكآبة مُرّة. طوال الليل لم يُغمض له جفن، كان يفكر بطريقة يتخلص بها من قَدَره المشؤوم.
في حلول منتصف الليل، كان الجميع يغطّون في نوم عميق، فنهض الأمير وتسلل من غرفة نومه إلى غرفة ابنة النسّاج. عندما رآها استاء في سرّه، لكنه سحب خنجره وأغمده في صدرها. ثم انسحب بكل هدوء خارج الكوخ، بعدما ترك المال الذي كان بحوزته خلفه، وغادر يلفّه الظلام.
عاد الأمير إلى قصر والده، واشتكى له ما كُتب عليه من قَدَر مشؤوم. استاء الأب كثيراً لكنه أخفى ضيقه، وهدّأ من روع ابنه.
بعد مضي فترة من الزمن، خرج الأمير الى الصيد. في الطريق رأى قصراً جميلاً داخل الغابة، اقترب من القصر فطالعه وجه حسناء بارعة الجمال. لم يتمكن من إشاحة نظره عن وجهها، وشعر أنه سيحدق اليها الى الأبد من دون كلل أو ملل، وأحسّ برغبة في الاقتراب منها أكثر لكي يشبع نظره منها. حثّ حصانه، وعندما رآها عن كثب ازداد تعلقاً بها وبجمالها. ترجل عن حصانه وطلب منها أن تتزوجه. كاد يطير فرحاً لدى سماعه صوتها وكلامها العذب، فعاد إلى بيته تغمره السعادة.
في الطريق، كان أكثر ما أفرحه التغيير الكبير الذي حصل على قَدَره، الذي بدا له مشؤوماً وقد صار الآن قَدَراً سعيداً بلقائه تلك المرأة الرائعة الجمال. أخبر والده عما حدث له وطلب منه الاستعداد لإقامة حفل الزواج. ابتهج الأب كثيراً لما رأى ابنه الحبيب تكاد لا تسعه الفرحة، وأمر بالبدء باستعدادات الزواج.
بعد مرور بضعة أيام على زواجه، وضع الأمير يده فوق قلب زوجته الحبيبة، فأحس بشيء صلب مكانه، كان أشبه بنتوء صغير. فسألها: “ما هذا؟”. أجابت الزوجة: “أنا ابنة نسّاج فقير، كنت طوال تسع سنوات طريحة الفراش، عاجزة لا فائدة تُرجى مني. جاء إلينا في أحد الأيام شاب يطلب مأوىً. غرز خنجره في صدري، ورحل بسرعة البرق من دون أن يلحظه أحد. برغم مرضي واليأس من شفائي وضعت لي أمي ضمادة فوق جرحي فشفيت تماماً. وقد ترك الضيف ثلاثة أكياس من النقود، فترك أبي النسيج واشترى لنا هذا القصر الذي نعيش فيه من دون هموم أو خوف من المستقبل”. عندما سمع الأمير ما قالته له زوجته، قال: “يا إلهي القدير! لا شيء يقف أمام مشيئتك!”.
ثم روى لزوجته الحبيبة كل ما جرى معه ¶
هاواي
أصل النار –
ترجمة أحمد لطفي
عاش ماوي وهينا معاً وأنجبا أربعة أبناء كانت أسماؤهم ماوي – موا وماوي هوب وماوي كي كي وماوي أو كا لانا. وكان الأربعة صيادين. ذات صباح مع بداية شروق الشمس، أيقظ ماوي – موا إخوته ليخرجوا إلى الصيد. فانطلق زورقهم من الشاطئ في كاوبو في جزيرة ماوي، حيث كانوا يعيشون وتوجهوا إلى مكان الصيد. وحين وصلوا، بدأوا يصيدون السمك. ورأى ماوي أو كا لانا ضوء نار على الشاطئ الذي غادروه، فقال لإخوته: “انظروا ثمة نار مشتعلة. لمن تكون هذه النار؟”.
فأجابوه: “نعم، لمن هذه النار؟ هيا نعد إلى الشاطئ، لنتمكن من طهي طعامنا، لكن دعونا أولاً نصيد بعض الأسماك”.
بعدما حصلوا على بعض الأسماك، اتجهوا صوب الشاطئ، وما إن لامس الزورق الشاطئ حتى قفز ماوي – موا وركض في اتجاه المكان الذي اشتعلت فيه النار. وكان الـ ألاي – أصحاب الذيل المجعد أي (دجاج الطين)- هم أصحاب النار، وعندما رأوه قادماً أطفأوا النار وطاروا بعيداً. فخاب أمل ماوي – موا، وعاد إلى البيت إلى إخوته.
سألوه: “ماذا عن النار؟”.
فأجاب: “عندما وصلت إلى هناك لم يكن هناك نار. وكنت أحسبها ناراً لأحد الرجال، لكنها نار ألاي، وقد سُرق موزنا كله”.
عندما سمعوا ذلك استشاطوا غضباً، وقرروا ألا يعاودوا الصيد مرة أخرى، وأن ينتظروا ظهور نار جديدة. ولما مرّت عليهم بضعة أيام ولم يأنسوا أيّ نيران، انصرفوا إلى الصيد تارة أخرى، لكن ظهور النار مجدداً استفزّهم كثيراً. فالنار لا توقد إلا عندما يخرجون إلى الصيد وعندما يعودون لا يجدون شيئاً.
وهذا ما كان يحدث. فقد علمت الـ ألاي ذات الذيل المجعد أن الزوجين ماوي وهينا لديهما أربعة أبناء فقط، ولو بقي أيٌّ منهم على الشاطئ ليرى النار وركب الآخرون الزورق، كانت الـ ألاي تعلم بذلك من طريق عدّ من على الزورق، تالياً لا يشعلون النار. وكانوا يشعلونها فقط حين يجدون أربعة رجال في القارب. ففكر ماوي – موا في الأمر كثيراً وقال لإخوته: “صباح الغد تخرجون إلى الصيد، وسأبقى على الشاطئ ولكن خذوا معكم كالاباش وألبسوه كابا، وضعوه في مكاني من الزورق، ثم أخرجوا إلى الصيد”.
ففعلوا ذلك، ولما خرجوا للصيد في الصباح التالي، قام الـ ألاي بالعدّ فوجدوا أربعة أفراد في الزورق، ثم أشعلوا النار ووضعوا عليها الموز لشوائه. وقبل أن تشوى تماماً، صاح أحد الـ ألاي: “تم شواء طعامنا! انظروا، فإن لـ هينا ابناً ذكياً”.
في هذه اللحظة، قفز ماوي – موا الذي اقترب منهم من دون أن يشعروا وانقض على الـ ألاي وصاح: “الآن أقتلك أيها الـ ألاي! أنت الذي يخفي النار عنا، ولسوف أقتلك عقاباً على ذلك”.
فقال له ألاي: “لو قتلتني لمات السر معي ولن تحصل على النار”. وبينما بدأ ماوي – موا يلوي عنقه، تحدث إليه ألاي مرة أخرى وقال: “اتركني أحيا وسوف تحصل على النار”.
فقال ماوي – موا: “قل لي أين النار؟”.
أجاب ألاي: “إنها في ورقة نبات الـ آه بي”.
لذلك وبتوجيه من الـ ألاي، بدأ ماوي – موا يفرك ساق نبات الـ إيب بعصا، ولكن لم تضطرم النار. فسأله مرة أخرى: “أين تخبئ هذه النار؟”.
فأجاب الـ ألاي: “في عصا خضراء”.
فأخذ يفرك عصا خضراء، فلم تشتعل له أي نار، وتابع هذا العمل حتى قال الـ ألاي في النهاية إنه سوف يجدها في عصا جافة، وقد كان. وانتقاماً مما فعله الـ ألاي، بعدما حصل ماوي – موا على النار بواسطة العصا الجافة، قال ماوي – موا: “الآن هناك شيء واحد أريد أن أجربه”. وأخذ يفرك قمة رأس الـ ألاي حتى أصبحت حمراء كالدم، ولا تزال تلك البقعة الحمراء موجودة حتى يومنا هذا
الهند
حكاية الأسد وطائر الكركي –
ترجمة شاكر حسن راضي
ولد البوديساتا (بوذا) مرة في إقليم هيمافانتا (غابة اسطورية هي مكان اجتماع المخلوقات الخرافية) في هيئة كركيّ أبيض. وكان براهماداتا في حينها يحكم إقليم بيناريس. وصادف أنه حين كان أحد الأسود يأكل لحماً، فعلقت عظمة في حنجرته التي تورّمت، وتسببت له بمعاناة فظيعة وحرمته من تناول الطعام. فرآه طائر الكركي الذي وقف على شجرة يبحث عن الطعام، وسأله: “ما الذي يؤلمك أيها الصديق؟”. أخبره الأسد بالسبب. فردّ عليه الكركي: “أستطيع أن أخلصك من تلك العظمة أيها الصديق، ولكني لا أجرؤ على الدخول إلى فمك خشية أن تأكلني”. فردّ الأسد: “لا تخف أيها الصديق، لن آكلك، ما عليك سوى إنقاذ حياتي”. فقال الكركي: “حسناً”، وطلب من الأسد أن يستلقي على جانبه الأيسر.
في أثناء ذلك راح الكركي يفكر مع نفسه متسائلاً: “ما أدراك ما الذي سيفعله هذا المخلوق”. فوضع قطعة خشب صغيرة بوضع قائم بين فكّي الأسد بحيث لا يعود قادراً على إغلاق فمه، وما إن أدخل رأسه داخل فم الأسد حتى ضرب أحد طرفي العظمة بمنقاره وأخرجها من فم الأسد. ثم سارع إلى إخراج رأسه، ضارباً قطعة الخشب بمنقاره حتى خرجت، ثم استقر على غصن. وتحسنت حال الأسد حتى أنه في أحد الأيام كان يأكل جاموساً اصطاده، فقال الكركي في نفسه: “سأحاوره”، واستقر على غصن شجرة فوق رأسه تماماً. وفي حوارهما نطق الكركي بهذا المقطع الشعري الأول:
“يا ملك الوحوش ، يا صاحب الجلالة
خدمة وقدّمناها لك
بأفضل ما نستطيع
فأيّ عائد سنجني مقابل ذلك؟”.
ردّاً عليه، نطق الأسد بهذا المقطع:
“لأني أقتات على الدماء
وأبحث دائماً عن فرائسي
إنها لنعمة أنك ما زلت حياً
بعدما كنتَ مرة بين فكّيَ”.
وعلى ذلك ردّ الكركي بمقطعين من الشعر قال فيهما:
“ناكر للجميل، غير فاعل للخير
لا يردّ الجميل بالجميل
مخلوق يفتقر الى الامتنان
ولا فائدة من مساعدته
لا يكسب ودّه
بأحسن الأفعال
يجدر بي أن أبتعد بهدوء عنه
لا أحسده ولا أمقته”.
بعدما نطق الكركي ذلك طار مبتعداً. وحين انتهى المعلم الكبير البوذا، من سرد حكايته، أضاف قائلاً: “كان الاأسد في حينها هو ديفاداتا الخائن (ابن عم بوذا). أما الكركي الأبيض فلم يكن إلا أنا نفسي” ¶
إيطاليا
كيف تزوج الشيطان من ثلاث شقيقات –
ترجمة عاصم مظلوم
في أحد الأيام سيطرت على الشيطان رغبة جامحة بالزواج، فغادر الجحيم وتحول إلى صورة شاب وسيم وقام ببناء بيت جميل. عندما انتهى بناؤه وتأثيثه بأحدث طراز قدّم نفسه الى أسرة لها ثلاث شقيقات جميلات، فطلب يد الابنة الكبرى.
نال الرجل الوسيم استحسان الفتاة، كما سرّ الوالدان لمعرفة أنها ستعيش في بحبوحة، ولم يمض وقت طويل حتى جرى الاحتفال بالزفاف.
عند وصولهما إلى منزل الزوجية، قدّم اليها باقة رائعة من الأزهار، وعرّفها الى غرف المنزل وأخيراً وصلا إلى باب مغلق. قال لها: “المنزل بكامله تحت تصرفك، وكل ما أريد منك هو أمر واحد لا غير، لا تفتحي هذا الباب في أيّ حال من الأحوال”.
بالطبع، قطعت له الزوجة الفتية وعداً صادقاً، لكنها في الوقت نفسه كانت تنتظر لحظة نكوصها بالوعد بفارغ الصبر. عندما غادر الشيطان المنزل في صباح اليوم التالي بحجة الذهاب إلى الصيد، أسرعت إلى الباب المحظور وفتحته، فرأت هاوية مرعبة تفحّ لهباً اندفع نحوها وأحرق الأزهار التي على صدرها.
عند عودة زوجها إلى المنزل، سألها عما إذا كانت قد برّت بوعدها، فأجابته بلا تردد: “نعم”، لكنه عرف بمجرد رؤية الأزهار بأنها كاذبة فقال: “لن أختبر فضولك بعد الآن. تعالي معي، سأريك بنفسي ما يوجد خلف الباب”. ثم قادها نحو الباب وفتحه ودفعها حتى وقعت في الجحيم، وأغلق الباب ثانية.
بعد شهور عدة طلب يد أختها للزواج، وتم الأمر، ومن ثم تكررت القصة نفسها كما حدثت مع الزوجة الأولى.
أخيراً تقدم الى الأخت الثالثة، التي كانت فتاة حريصة وقالت لنفسها: “لا بد من أنه قتل شقيقتَيّ، وهذا يشكل تحدياً بالنسبة اليَّ، سأحاول وأرى ما إذا كنت أوفر حظاً منهما”.
وهكذا، وافقت على طلبه. وبعد الزفاف أعطاها العريس باقة جميلة من الأزهار، إلا أنه منعها أيضاً من فتح الباب الذي أشار إليه. على أنها لم تكن أقل فضولاً من شقيقتيها، فقامت أيضاً بفتح الباب المحظور بعد ذهاب الشيطان إلى الصيد، لكنها كانت قد وضعت أزهارها في الماء.
وما إن شاهدت خلف الباب تلك الجحيم القاتلة وأختيها في داخلها حتى صرخت: “آه! يا لحظّي التعس! ظننت أنني تزوجت من رجل عادي، وبدلاً من ذلك تبيّن انه الشيطان! ما الطريقة للهرب منه؟”.
أخرجت شقيقتيها من الجحيم وخبأتهما. عندما عاد الشيطان إلى المنزل نظر فوراً إلى باقة الأزهار، وكانت قد أعادتها إلى صدرها، وعندما وجد الأزهار لا تزال نضرة لم يطرح أيّ سؤال، واطمأن على سرّه وأحبّها الآن للمرة الأولى.
بعد أيام سألته إن كان يقبل بحمل ثلاثة صناديق إلى منزل والديها من أجلها، من دون أن يضعها أرضاً أو أن يستريح على الطريق، وأضافت: “عليك أن تفي بوعدك لأني سأقوم بمراقبتك”.
وعد الشيطان بتنفيذ ما طلبته. في الصباح التالي وضعت إحدى أختيها داخل الصندوق وجعلته على كتف زوجها. كان الشيطان قوياً جداً، إلى أنه كان كسولاً أيضاً ولم يعتد على العمل، فتعب بسرعة من حمل الصندوق الثقيل وأراد أن يستريح قبل أن يخرج من الشارع الذي يعيش فيه. لكن زوجته صاحت به: “لا تنزله أرضاً، إني أراك!”.
تابع الشيطان طريقه على مضض إلى أن انعطف عند زاوية الطريق. ثم قال لنفسه: “لا يمكن أن تراني هنا، سأرتاح قليلاً”. وما إن شرع في إنزال الصندوق عن كتفه حتى صرخت الأخت من داخله: “لا تضعه أرضاً، ما زلت أراك!”.
فأخذ يلعن حظّه، وجرّ الصندوق عبر شارع آخر وأراد أن يستند به الى درجة الباب، فسمع الصوت من جديد: “لا تنزله أرضاً أيها المخادع. ما زلت أراك!”.
ففكّر: “أيّ نوع من العينين تملك زوجتي تمكنها من الرؤية حول الزوايا كأنها خط مستقيم، ومن خلال الجدران كأنها مصنوعة من الزجاج!”. أثناء استغراقه في التفكير وصل وهو يتصبب عرقاً، خائر القوى إلى منزل حماته، وسلّمها الصندوق على عجل ثم أسرع إلى البيت ليعوّض جهده بفطور دسم.
تكرر الأمر نفسه في اليوم التالي مع الصندوق الثاني.
في اليوم الثالث كان عليها هي نفسها العودة إلى البيت داخل الصندوق. فأعدّت دميةً وألبستها من ثيابها ووضعتها على الشرفة بحجة أنها تستطيع أن تراقبه بشكل أفضل من هناك. ثم تسللت بخفة وبسرعة إلى داخل الصندوق وطلبت من الخادم وضع الصندوق على ظهر الشيطان. فصرخ: “اللعنة! هذا الصندوق أثقل بكثير من الصندوقين الآخرين. اليوم، وطالما هي على الشرفة، ستكون لديَّ فرصة أقل بكثير في الحصول على بعض الراحة”.
حمل الصندوق بعناء كبير ومن دون توقف إلى منزل حماته، ثم أسرع عائداً إلى المنزل لتناول الفطور وهو يوبّخ نفسه، وظهره مقصوم. لكن خلافاً للمعتاد، لم تخرج زوجته لملاقاته، ولم يكن الفطور معدّاً. صاح منادياً: “مارغريتا، أين أنت؟”، لكنه لم يتلقّ جواباً. وبينما هو يجول الردهات نظر من النافذة فرأى الدمية على الشرفة.
صرخ بغضب: “مارغريتا هل نمت؟”.
لكن مارغريتا لم تتحرك. أسرع إلى الشرفة حانقاً ولطمها على أذنها فوقع رأسها ليتبيّن أن الرأس ما هو إلا عبارة عن قبعة والجسم حزمة من الأسمال. انطلق مسعوراً نحو الأسفل وفتّش في أنحاء المنزل ولكن عبثاً. كل ما عثر عليه كان صندوق حلى زوجته الفارغ فهتف: “ماذا! لقد سرقوها مني ومع مجوهراتها أيضاً!”. هرع ليخبر والديها بهذه المصيبة. وعندما اقترب من المنزل، ولدهشته، شاهد على الشرفة الشقيقات الثلاث معاً، وهن يضحكن بسخرية واحتقار.
ثلاث زوجات مرة واحدة، أخفن الشيطان وبشكل كبير الى درجة أنه فر هارباً على جناح السرعة. ومنذ ذلك الوقت فقد رغبته في الزواج ¶
اليابان
شبح شجرة الصفصاف –
ترجمة دنيا فرحاتة
منذ نحو ألف سنة (لكن بحسب التواريخ الواردة في القصة منذ ٧٤٤ سنة) أي في عام ١١٣٢، شُيّد معبد سان جو سان جان دو ويعني اسمه “صالة الثلاثة والثلاثين فضاء”، ويقال إن في هذا المعبد أكثر من ثلاث وثلاثين ألفاً وثلاثمئة وثلاثة وثلاثين صورة للإلهة كوانون، إلهة الرحمة. قبل بناء المعبد، كانت تقبع في قرية مجاورة شجرة صفصاف عملاقة، اتخذها أولاد القرية ملعباً لهم، يتأرجحون على أغصانها ويتسلّقون جذعها. في النهار، كان المسنّون في القرية يتفيأون في ظلالها في فصل الصيف الحار، وفي المساء، بعد الانتهاء من العمل، كثراً كان الشباب والشابات الذين يقسمون على الحبّ الأبدي تحت أغصانها، وكان الجميع يرى في هذه الشجرة خيراً. حتى المسافر المتعب كان ينام بسلام تحت أغصانها. لكن واحسرتاه، حتى في تلك الأيام افتقدت قلوب الناس الرحمة تجاه الأشجار، وأعلن سكّان القرية نيّتهم قطع الشجرة لبناء جسر فوق النهر.
وكان في القرية مزارعٌ شاب محبوب من الجميع اسمه هيتارو، وعلى غرار أجداده، عاش حياته بجوار هذه الشجرة وقد رفض قطعها رفضاً حازماً.
كان يعتبر أن من الواجب احترام هذه الشجرة، هي التي تحدّت العواصف لمئات السنين، والتي كانت للأولاد في أيام الصيف الحارة ملعباً، وللمتعبين ملجأً وللعشّاق ملتقىً. قال هيتارو ذلك لسكان القرية وأضاف: “لن أوافق على قطع هذه الشجرة، سأعطيكم قدر ما تريدون من أشجاري لبناء الجسر، لكن دعوا شجرة الصفصاف العتيقة هذه وشأنها”.
وافق سكّان القرية على اقتراح هيتارو بسرور، فهم أيضاً يحبّون سرّاً هذه الشجرة العتيقة.
فرح هيتارو ولم يتأخّر في العثور على الخشب لبناء الجسر.
في أحد الأيام، كان هيتارو عائداً من عمله فرأى فتاةً بهيّةً واقفةً بالقرب من شجرة الصفصاف.
وجد هيتارو نفسه ينحني ملقياً التحيّة على الفتاة، وهي بدورها ردّت التحيّة. تكلّما معاً عن الشجرة، عن عمرها وروعتها. في الواقع بدا كلاهما منجذباً الى الآخر وكأن بينهما انسجاماً. حزن هيتارو عندما أخبرته بأنها مضطرّة للذهاب وودّعته. لم يستطع ذلك المساء تركيز أفكاره على أمور الحياة العادية، فقد كانت أمورٌ أخرى تشغل باله: “من كانت تلك الفتاة تحت شجرة الصفصاف؟ ليتني أصادفها مجدداً!”. لم ينم هيتارو تلك الليلة، فقد أصابته حمّى الحبّ.
في اليوم التالي، قصد هيتارو عمله مبكراً حيث أمضى نهاره يعمل بجهد للانصراف عن التفكير بفتاة شجرة الصفصاف، لكن في المساء وهو في طريق العودة إلى منزله، رأى تلك الفتاة مجدداً، وقد ألقت عليه التحيّة هذه المرّة بطريقة أكثر وديّة.
قالت له: “مرحباً يا صديقي! تعال وارتح تحت أغصان شجرة الصفصاف التي تحبّها، فلا بدّ من أنك متعب”.
قبل هيتارو دعوتها بسرور ولم يسترِح تحت الشجرة فحسب، بل أفصح لها عن حبّه أيضاً.
بعد ذلك، صارت هذه الفتاة الغامضة (التي لم يرَها أحدٌ آخر) تأتي لمقابلة هيتارو يوماً بعد يوم وقد قطعت عليه وعداً بالزواج شرط ألا يطرح الأسئلة عن أهلها أو أصدقائها، وقالت له: “لا أهل لي ولا أصدقاء، أعدك بأن أكون زوجةً وفيةً لك، فأنا أحبّك حبّاً يملأ قلبي وروحي. نادِني هيغو (شجرة الصفصاف) وأنا أكون لك زوجةً.
في اليوم التالي، تزوّج هيتارو من هيغو وأخذها إلى منزله. ولم تمضِ سنة حتى ولدت له طفلاً ملأ حياتهما سعادة، وما مرّت دقيقة فراغ على هيتارو أو زوجته إلا أمضياها باللعب مع ابنهما الذي سمّياه شيودو. ما كان في اليابان كلها منزل أسعد من منزل هيتارو وزوجته الطيبة وابنهما الجميل.
واحسرتاه! أما من سبيل لتدوم السعادة في هذا العالم؟ فحتى لو سمحت الآلهة بذلك، لن يسمح بذلك الانسان.
عندما بلغ شيودو الخامسة من العمر، وقد كان الصبي الأكثر وسامة في القرية، قرّر الأمبراطور السابق توبا بناء معبد ضخم لإلهة الرحمة كوانون في كيوتو، يضع لها فيه ألف صورة وصورة (الآن في عام ١٩٠٧، كما ذكرنا في البداية، يُعرَفُ هذا المعبد باسم سان جو سان جان دو ويحتوي على ثلاث وثلاثين ألفاً وثلاثمئة وثلاث وثلاثين صورة).
أراد الأمبراطور السابق توبا أن يصبح معروفاً، فأصدرت السلطات الأوامر بجمع الخشب لبناء المعبد الكبير، ما يعني أن أيام شجرة الصفصاف الضخمة أصبحت معدودة، تماما مثل غيرها من الأشجار التي ستكون سقفاً للمعبد.
حاول هيتارو إنقاذ الشجرة مرةً أخرى، وكان مستعدّاً لتقديم كل ما يملك من أشجار من دون مقابل، إلا أن جهوده ضاعت سدىً، حتى سكان القرية كانوا قلقين على مصير شجرتهم التي يعتقدون أنها تجلب لهم الحظ، لكن في كل الأحوال ستكون هديةً جميلةً منهم في سبيل بناء الهيكل الكبير.
اقتربت اللحظة الحاسمة. وذات ليلة، استسلم هيتارو وزوجته وابنه للنوم، إلى أن أيقظ هيتارو صوت القطع بالفؤوس. ذُهِلَ هيتارو لرؤية زوجته الحبيبة جالسةً في فراشها، تنظر إليه بحزن، والدموع تسيل على خدّيها، والبكاء يزرع في صوتها تنهيداً.
قالت له بصوت تخنقه العبرات: “يا زوجي الحبيب، أرجوك أن تسمعني ولا تشكّ في أيّ كلمة مما سأقوله. شاء سوء الطالع ألا يكون هذا حلماً. عندما تزوّجنا رجوتك ألا تسألني عن ماضيَّ ولم تفعل، لكنني في ذلك الحين قلت لك إنني سأخبرك إذا ما تطلّبت الظروف ذلك. لسوء الحظ يا زوجي الحبيب فقد حلّت هذه الظروف. أنا لستُ سوى روح شجرة الصفصاف التي أحببتها وأنقذتها منذ ست سنوات. كنت أردّ لك جميلك عندما ظهرتُ لك بشكل فتاة تحت الشجرة، وكنت آمل أن أتمكن من العيش معك وإسعادك طوال حياتك. لكن للأسف لن يحصل ذلك! فها هم يقطعون الشجرة، وأنا أشعر بكلّ ضربة من ضربات فؤوسهم! وبما أنني جزء من هذه الشجرة فسيكون الموت مصيري. ينفطر قلبي لمجرّد التفكير بترك طفلي العزيز شيودو وبالحزن الشديد الذي سيصيبه عندما يعلم أن والدته فارقت الحياة. آه يا زوجي الحبيب! إنه كبيرٌ وقويٌّ بما فيه الكفاية ليعيش معك بلا أم من دون أن يتعذّب. أتمنى لكما حياةً طويلةً هانئة. الوداع يا عزيزي! عليَّ أن أعود إلى شجرة الصفصاف الآن، فأنا أسمع ضربات فؤوسهم تزداد قوةً وكل ضربة تزيدني ضعفاً”.
كانت هيغو تختفي عندما أيقظ هيتارو ابنه وهو يتساءل إن كان ما رآه حلماً. استيقظ شيودو وراح يجهش في البكاء متوسّلاً أمه أن تعود ومادّاً يديه نحو المكان الذي غادرت منه.
فقال له هيتارو: “لقد ذهبت ولا يمكنها العودة. تعال، فلنرتدِ ثيابنا ولنذهب لحضور دفنها. أمك كانت روح شجرة الصفصاف”.
بعد وقت غير طويل، عند بزوغ الفجر، أمسك هيتارو بيد شيودو وأخذه إلى حيث الشجرة. عندما وصلا وجداها مطروحةً أرضاً، مقطوعة الأغصان. ومن السهل تخيّل ما شعر به هيتارو في تلك اللحظة.
يا للعجب! بالرغم من الجهود الهائلة، لم يتمكّن الرجال من تحريك جذع الشجرة إنشاً واحداً نحو النهر الذي من المفترَض أن ينقله إلى كيوتو.
عندما رأى هيتارو ذلك، خاطب الرجال قائلاً: “يا أصدقائي، إن جذع الشجرة الذي تحاولون تحريكه يحمل روح زوجتي. ربما لو تركتم ابني يساعدكم فستهون مهمتكم، وهو يرغب في المساعدة احتراماً لأمه وتقديراً لها”.
وافق الحطّابون على طلب هيتارو وذُهِلوا لرؤية شيودو يقف عند نهاية الجذع يدفعه بيده الصغيرة، والجذع ينزلق بسهولة في النهر، والوالد يدندن أغنية. ويقال إن أغنيةً أو قصيدةً معروفةً من الأغاني الشعرية انبثقت من هذا الحدث، ولا يزال الرجال يدندنونها حتى اليوم وهم يحملون الأوزان الثقيلة أو يقومون بعمل شاق، وفحوى هذه الأغنية:
“أليس من المحزن أن أرى حبيبي
المنبثق من نداوة الصفصاف
محروماً من حمل البراعم؟
شدّوا شدّوا يا رجال”
في واكانورا يدندن العمّال أغنيةً عندما يعملون أو يجرون شيئاً، ويُقال أيضاً إن هناك أغنية أخرى نشأت من هذه القصة:
“في واكانورا أماكن مشهورة
غونغن أولاً
وتاماتسوشيما ثانياً
وشجرة الصنوبر ثالثاً
وشيوغاما رابعاً
أليست أماكن جميلة رائعة؟”.
يُقال أيضاً إن أغنيةً ثالثة استوحيت من هذه القصّة وغالباً ما تُغنّى لتشجيع الأولاد الصغار ¶
الفيليبين
حكاية غايغايوما التي تعيش في السماء –
ترجمة مايسة عواد
ذات يوم، عندما كان أبونيتولو جالساً يغزل سلّة تحت منزله، أحسّ بجوع شديد وتاق إلى طعام حلو يمضغه. تذكّر عندها أن حقله لا يزال غير مزروع. نادى زوجته التي كانت في الغرفة فوقه، وقال: “تعالي يا أبونيبوليناين، ولنذهب إلى الحقل كي نزرع بعض قصب السكر”.
نزلت أبونيبوليناين من المنزل حاملة أنبوباً من القصب وفي حين ذهبت إلى النبع كي تملأه بالماء، هيأ أبونيتولو بعض الشتلات، وذهبا معاً إلى الحقل الذي كان بعيداً عن منزلهما.
أحدث أبونيتولو ثقوباً في الأرض بواسطة عصاه الطويلة، ثم وزّع الشتلات التي أحضرها، في حين رشّت زوجته الماء عليها من أنبوب القصب. عندما انتهيا من زراعة الحقل، عادا إلى المنزل، سعيدين يفكران بالقصب الرائع الذي سينمو في أرضهما.
بعد سبعة أيام عاد أبونيتلولو إلى الحقل ليتفقد الزرع، فوجد أن الوريقات أصبحت طويلة مستدقة. أفرحه المنظر، وفيما وقف ينظر إليها عيل صبره وقرر أن يستعمل قوته الخارقة كي ينمو القصب بسرعة. بعد خمسة أيام زار الحقل مجدداً ووجد أن كل السويقات باتت طويلة جاهزة للمضغ. أسرع نحو المنزل وأخبر أبونيبوليناين كم نمت النباتات بسرعة، وكانت فخورة بزوجها القوي.
في هذه الأثناء كانت غايغايوما، التي كانت ابنة باغباغاك، النجم الكبير، والقمر سيناغ، تنظر إلى الأرض من منزلها في السماء وعندما شاهدت قصب السكر الطويل ينمو، تملكتها رغبة جامحة في مضغه. نادت والدها، باغباغاك، وقالت: “آه، يا أبي، أرجوك ارسل النجوم إلى الأرض كي تحضر لي بعض قصب السكر الذي أراه، إذ أرغب في مضغه”.
أرسل باغباغاك النجوم، وعندما وصلت إلى سياج الخيزران المحيط بالحقل، وثبت فوقه، وكسرت كل منها سويقة قصب وسحب بعضها بذوراً زرعتها أبونيبوليناين، وكانت سويقاتها من ذهب. سرّت غايغايوما بالاشياء التي أحضرتها النجوم. وطهت الحبوب مع السيقان الذهبية وأمضت ساعات طويلة تمضغ القصب الحلو. وعندما نفد كل ما أحضرته النجوم، قُضّ مضجعها ونادت والدها النجم الكبير: “خذني يا أبي إلى حقل قصب السكر، فأنا أريد أن أراه الآن”.
نادى باغباغاك العديد من النجوم كي ترافقه، وتبع الجميع غايغايوما إلى الحقل. جلس بعضهم على سياج الخيزران، بينما ذهب الآخرون إلى وسط الحقل، وأكل الجميع بقدر ما أرادوا.
في اليوم التالي، قال أبونيتولو لزوجته: “أبونيبوليناين، أنا ذاهب إلى الحقل كي أرى إن كان سياج الخيزران قوياً كفاية لصدّ الجواميس الهندية”.
فانطلق، وعندما وصل إلى الحقل ورأى السويقات التي مضغتها النجوم، عرف أن أحدهم كان هنا. فذهب إلى وسط الحقل، ووجد هناك قطعة ذهب، فقال لنفسه: “كم هذا غريب! أعتقد أن فتاة جميلة مضغت القصب. سوف أراقب الحقل الليلة، فلربما عادت طلباً للمزيد”.
عندما حل الظلام لم يكن ينوي العودة إلى المنزل، فتناول وجبة من قصب السكّر، ثم اختبأ في العشب الطويل بالقرب من الحقل، وانتظر هناك. شيئاً فشيئاً أعمت أضواء متلألئة عينيه، وعندما تمكّن من الرؤية ثانيةً أجفل حين شاهد الكثير من النجوم تسقط من السماء، ثم سمع أحدهم يكسر القصب. فجأةً طارت نجمة كبيرة تبدو كشعلة نار في اتجاه الحقل، ثم نزعت الجميلة ثوبها، الذي كان على شكل نجمة، على مقربة من السياج، فبدت كنصف قوس قزح.
لم يسبق لأبونيتولو أن رأى منظراً كهذا، ولفترة من الوقت أخذ يرتجف خوفاً.
قال لنفسه: “ماذا عليَّ أن أفعل؟ فإذا لم أخف مرافقي الفتاة الجميلة فقد يأكلونني”.
قفز واقفاً بجهد كبير وأخاف النجوم حتى طارت، وعندما أتت الفتاة الجميلة تبحث عن ثوبها وجدت أبونيتولو جالساً عليه قالت: “عليك أن تسامحني، إذ أن قصب السكر هذا شديد الحلاوة، فرغبنا في مضغه”.
أجاب أبونيتولو: “أنت على الرحب والسعة في حقل القصب، ولكن بحسب عاداتنا علينا الآن أن نتعرف الى بعضنا، إذ انه من السيئ أن نتحدث قبل أن نعرف أسماء بعضنا”.
بعدئذ أعطاها بعض بذور الفوفل ومضغا معاً، وقال: “عادتنا أن نتعرف الى أسماء بعضنا بعض”.
قالت: “نعم، لكن أخبرني أنت أولاً”.
“اسمي أبونيتولو وأنا زوج أبونيبوليناين”.
وقالت الفتاة: “أنا غايغايوما، ابنة باغباغاك وسيناك اللذين يعيشان في السماء. والآن يا أبونيتولو، وبالرغم من أن لك زوجة، فسوف آخذك إلى السماء، إذ أريد الزواج منك. وإذا لم ترغب بالذهاب، فسوف آمر مرافقي النجوم بالتهامك”.
ارتجف أبونيتولو خوفاً، إذ عرف أن هذه المرأة هي روح، ولم يجرؤ على الرفض، ووعد بأن يذهب معها. بعد هذا بقليل رمت النجوم سلّة أمرتهم غايغايوما بصنعها، ودخل إليها أبونيتولو والنجمة الجميلة وصعدا بها سريعاً نحو السماء. التقيا عند وصولهما نجماً عملاقاً قدّمته غايغايوما على أنه والدها، وأخبر هذا أبونيتولو أنه تصرف بحكمة عندما قبل المجيء، إذ لو أنه اعترض لكانت النجوم الأخرى قد أكلته.
بعدما عاش أبونيتولو مع النجوم لردح من الزمن، سألته غايغايوما أن يخزها بين إصبعيها الأخيرتين، وعندما فعل هذا سقط منها طفل ذكر جميل. سمياه تاكياكين، وكبر بسرعة وكان قوياً.
طوال هذا الوقت لم ينس أبونيتولو أبونيبوليناين، وعلم أنها تبحث عنه في الأرض، لكنه كان خائفاً من أن يذكر الأمر أمام النجوم. في أي حال، عندما بلغ الطفل شهره الثالث، جازف وأخبر غايغايوما برغبته بالعودة إلى الأرض.
في البداية رفضت أن تستمع اليه، لكنه رجاها حتى خضعت أخيراً لرغبته وتركته يذهب مدة دورة قمرية واحدة. وقالت له إنه إذا لم يعد في نهاية تلك المهلة، فسوف ترسل النجوم لكي تأكله. ثم نادت السلّة مجدداً، ونزلوا إلى الأرض. هناك خرج أبونيتولو، ولكن عاد غايغايوما والطفل إلى السماء.
غمر الفرح أبونيبوليناين بمجرد أن رأت زوجها، إذ كانت قد اعتقدت أنه مات، وكانت شديدة النحولة بسبب عدم تناولها الطعام طوال فترة غيابه.
لم تملّ البتة من سماع قصصه عن الحياة بين النجوم، وكانت شديدة السعادة لاستعادتها له مجدداً حتى إنها رفضت أن تدعه يذهب عندما حان الموعد.
تلك الليلة، جاء العديد من النجوم إلى المنزل. وقف بعضها على الشبابيك، بينما بقي قسم منها خارجاً في محاذاة الحيطان؛ وكانت تسطع إلى درجة بدا كأن المنزل يحترق.
أصاب أبونيتولو هلع شديد، ونادى زوجته: “لقد ارتكبتِ خطأ بإبقائي هنا بينما كان يجب أن أرحل. خفتُ أن تأكلني النجوم إذا لم أطع أوامرها، والأن أتت. خبّئيني أو ستنال مني”.
ولكن قبل أن تقدر أبونيبوليناين على الرد، ناداه باغباغاك بنفسه: “لا تختبئ منا، أبونيتولو، فنحن نعلم انك في زاوية المنزل. أخرج وإلا أكلناك”.
ظهر أبونيتولو يرتعش من الخوف، وعندما سألته النجوم إن كان يريد مرافقتها لم يجرؤ على الرفض.
ثم أصبحت غايغايوما شديدة الولع بأبونيتولو، وأمرت النجوم بألا تؤذيه إذا كان مستعداً للعودة إليها. هكذا، عندما أعطى موافقته، وضعته النجوم في السلة وطارت بعيداً معه، تاركة أبونيبوليناين في حزن ووحدة شديدين. بعدئذ قام ابونيتولو بالعديد من الرحلات إلى الأرض، لكن غايغايوما أمرته دائماً بالعودة إلى السماء كي يمضي بعض الوقت معها.
ذات يوم، وعندما كان تاكياين صبياً صغيراً، أنزله أبونيتولو إلى الأرض كي يرى شقيقه من والده، كاناغ. وجد صبي السماء العالم مليئاً بالعجائب، وأراد أن يبقى دائماً في الأرض. لكن بعد وقت، وعندما كان يلعب مع كاناغ في الباحة، بدأت نقاط مياه كبيرة تسقط عليهما. ركض كاناغ إلى والدته باكياً: “آه، أمي، إنها تمطر، والشمس شديدة السطوع!”.
لكن أبونيتولو، الذي كان ينظر إلى الخارج قال: “لا، تلك دموع غايغايوما، إذ إنها ترى ابنها هنا، وتنتحب لأجله”.
فأخذ تاكياين إلى أمه في السماء، وعادت سعيدة مجدداً.
بعد هذا أصبح تاكياين دائم السعادة عندما سمح له بزيارة الأرض، لكن في كل مرة كانت دموع والدته تبدأ بالانهمار كان يعود إليها. عندما كبر كفاية، اختار له أبونيتولو زوجة، وبعدها عاش تاكياين على الأرض نهائياً، أما غايغايوما فبقيت في السماء ¶
إيرلندا
زوجة بادي كوركورانى –
ترجمة تغريد الغضبان
عانت زوجة بادي كوركوران على مدار سنوات عدة، من أعراض غريبة لم يتمكن أحد من فهمها أو معرفة ماهيتها بالضبط. فهي تبدو عليلة وليست كذلك في آن واحد. ما كان يعذب زوجها بادي هو اعتقاده بوجود ثقب في قلبها، فظنّ أن الغذاء الجيد كفيل علاجها، وخصوصاً قليلاً من اللحم. لكن لم يكن لدى المسكينة أي شهية تُذكر. فلا رغبة لديها مثلاً في تذوق شريحة من لحم الخروف أو العجل أو أيٍّ من أنواع اللحم. بل لم تكن تشتهي شيئاً من الطعام على الإطلاق، حتى لو اقتصر على قطعة من الخبز ورشفة من اللبن. أما عزاء بادي الوحيد، فكان إحساسه بأنها ستفارقه قريباً، ولن يطول عناؤه معها الى الأبد، فما أهمية ما ستأكله إذاً؟ أما من ناحيتها هي، فكانت تعرف تمام المعرفة أنها لو قبلت بتناول قليل من اللحم بين الحين والآخر، لساعد ذلك على شفائها، وإن لم ينصحها زوجها فمن غيره سيفعل، لكن ما باليد حيلة. هكذا ظلت طريحة الفراش لمدة طويلة، بعدما لجأت الى جميع الأطباء والمشعوذين بكل أنواعهم وأجناسهم من دون جدوى، حتى كاد بادي المسكين يشقى من الإفلاس والجوع والهمّ، ليؤمّن لها ولو قليلاً من الطعام.
بقيت على تلك الحال سبعة أعوام. في أحد أيام الحصاد، وكانت كعادتها ممددة في فراشها، تنوح وتتحسّر راثيةً حالها، خرجت لها جنيّة من موقد المطبخ، مرتديةً ثوباً مزخرفاً بنقوش حمراء أنيقة، واقتربت لتجلس إلى جانبها وأخذت تحدّثها قائلة: “حسناً يا كيتي كوركوران، ها أنت تستلقين على ظهرك منذ سنوات لكن الأمل في شفائك يتضاءل يوماً بعد يوم”.
فأجابتها كيتي: “معك حق. فهذا تماماً ما يقلقني ويثير حزني في هذه اللحظة”.
“لكن العلاج في يدك أنت بالذات، فلولا تصرفاتك لما كنت تعانين من هذه الحال”.
أجابت كيتي: “أف، كيف؟ لن أفضل البقاء في الفراش بكل تأكيد لو كنت أقوى على مغادرته! أتعتقدين أنني سعيدة وراضية بحالتي؟”.
ردّت الجنية: “لا، لا أظن أنك سعيدة وراضية، لكنني سأصارحك بالحقيقة، لقد كنتِ مصدر إزعاج لنا طوال هذه السنوات السبع، فأنا واحدة من الجن ولأني أُكنّ لكِ احتراماً خاصاً، فقد قررت إخباركِ عن سبب مرضك. إن لديك ابناً يرمي علينا ماءً قذراً كلما عبرنا صباحاً ومساءً من أمام بيتكم. إن استطعتِ تجنّب هذا، كأن تطلبي منه رمي الماء المتسخ في مكان آخر مثلاً، وخلال أوقات مختلفة من اليوم أيضاً، فسوف تفارقك أعراض المرض وتزول العلة من قلبك. وإن لم تنفّذي توصياتي فستبقين كما أنتِ، ولن تسعفكِ كل فنون الأرض وحيلها”. قالت الجينة ذلك ثم ودعتها واختفت. وفي الحال هرعت كيتي بفرح وحماسة لتنفيذ وصيتها، وبالفعل فقد أفاقت في صباح اليوم التالي لتجد نفسها تنعم بنشاط وحيوية لم تعرفهما طوال حياتها من قبل ¶
رومانيا
المحفظة الصغيرة –
ترجمة ميسون جحا
عاش في قديم الزمان زوجان عجوزان. وكان لدى المرأة دجاجة ولدى الرجل ديك صغير.
في كل يوم كانت الدجاجة تضع بيضتين، واعتادت المرأة على التهام البيض من دون أن تمنح زوجها ولو بيضة واحدة. ذات يوم، نفد صبر العجوز وقال: “اسمعي، أيتها الرفيقة العجوز، تعيشين في بحبوحة وترف، أعطيني، على الأقل، بيضتين كي أتذوقهما”.
أجابت العجوز، التي اتصفت بشدة البخل: “لن أعطيك شيئاً. إن كنت ترغب في الحصول على البيض، فاضرب ديكك الصغير حتى يضع لك شيئاً. لقد ضربتُ دجاجتي بالسوط، وهي كما ترى تضع لي البيض يومياً”.
ولأن الرجل العجوز جشع وطمّاع، فقد صدّق كلام زوجته، وأمسك بالديك الصغير وضربه بقسوة وقال له: “هيا ضع البيض لي، أو اخرج من بيتي، لن أطعمك بعد اليوم بالمجّان”.
فرّ الديك من بين يدي العجوز، وهرع إلى الطريق. وبينما مضى في طريقه وهو حزين ومندهش مما أصابه، وجد محفظة صغيرة تحوي نصفي فلس. حمل المحفظة بمنقاره واستدار عائداً إلى بيت العجوز. وعلى الطريق التقى عربة تحمل رجلاً أنيقاً وبضع نساء. نظر الرجل إلى الديك والمحفظة معلّقة بمنقاره وقال لسائق العربة: “انزل واكشف عما يحمله هذا الديك الصغير بمنقاره”.
قفز السائق بسرعة إلى الطريق، وانتشل المحفظة الصغيرة من منقار الديك وسلّمها إلى سيده. وضع الرجل المحفظة في جيبه، وسارت العربة. استشاط الديك غضباً ولحق بالعربة، وهو يردد: “كي كي ريكي، يا سيدي، كي كي ريكي، أعد اليَّ المحفظة”.
قال الرجل الغاضب لصاحب العربة وهو ماض في طريقه: “احمل هذا الديك الوقح، وارمه في البئر”.
مرةً ثانية نزل السائق من العربة، وأمسك بالديك ورماه في البئر. وعندما رأى الديك أن حياته باتت في خطر كبير، كيف تصرف يا ترى؟
أخذ في ابتلاع الماء. شرب وشرب إلى أن ابتلع كل ما احتوته تلك البئر من مياه عذبة. ثم طار عالياً وجرى خلف العربة، وهو يصيح “كي كي ريكي”.
دهش الرجل الغنيّ مما رآه وقال: “لا بدّ أنّ هذا الديك عفريت صغير. لا بأس. سأدقّ عنقك، أيها الديك الوقح”.
عند وصوله إلى البيت أمر الطاهية برمي الديك في الموقد، وبأن تسدّ فتحة المدخنة بواسطة حجر كبير. وقد أطاعت الطاهية العجوز أوامر سيدها.
لم يجد الديك مفرّاً من مواجهة ذلك الحكم القاسي وغير العادل. قام بإخراج ما ابتلعه من مياه البئر، وسكبها فوق قطع الفحم المشتعلة. أدّى ذلك الى إطفاء النار وتبريد الموقد وجريان المياه على أرض المطبخ، مما دفع الطاهية للخروج خوفاً وغضباً. ثم دفع الديك الحجر بقوة وخرج من المدخنة، وجرى نحو غرفة الرجل الغني، وأخذ يدقّ على زجاج نافذته، وهو يصيح: “كي كي ريكي”.
قال الرجل: “من المؤكد أن هذا الديك المتوحش سيجلب لي المتاعب والآلام. أيها السائق خلّصني منه. ارمه في الحظيرة بين الأبقار والثيران، فقد ينطحه ثور بقرنيه فنتخلص منه”.
بالفعل حمل سائق العربة الديك ورماه بين أفراد القطيع. وكم كان سرور الديك كبيراً. فقد ابتلع الأبقار والثيران والعجول، واستمر على هذا المنوال إلى أن أجهز على كامل القطيع، وانتفخت معدته حتى أصبحت أشبه بجبل. ثم اتجه مرة أخرى ناحية النافذة، وفتح جناحيه حتى غطّى على أشعة الشمس، فساد الظلام في غرفة الرجل الغني. وكرر نداءه: “كي كي ريكي”.
عندما أدرك الرجل ما حلّ بقطيعه، استشاط غضباً. وأخذ يبحث عن حيلة ماكرة للتخلص من ذلك الديك. أمعن في التفكير إلى أن خطرت له فكرة فقال لنفسه: “سأسجن الديك داخل غرفة المجوهرات والعملات الذهبية، فقد يحاول ابتلاع القطع الذهبية ولا بدّ من أن تعلق إحداها بحنجرته فيختنق وأتخلص منه”.
لم يتردد الرجل في تنفيذ خطته. أمسك بالديك ورمى به داخل غرفة المجوهرات. ابتلع الديك جميع القطع الذهبية، ولم يترك شيئاً داخل الصناديق ثم هرب من الغرفة. وعاد إلى نافذة الرجل وكرّر صياحه: “كي كي ريكي”.
في نهاية المطاف، وجد الرجل أنه لم يعد في وسعه عمل أي شيء، فرمى المحفظة بعيداً. التقط الديك المحفظة، ومضى في طريقه تاركاً الرجل الغني نادماً لأنه خسر كل ثروته. وقد سارت خلف الديك جميع الدجاجات حتى بدا كأنه عريس تحيط به الحسنوات. وبرغم أن غضباً شديداً ملأ قلب الرجل الغني، تنهّد وقال: “حسناً، لا مانع لديّ. فلتذهب جميع الدجاجات خلفه طالما أني تخلصت من ذلك الجني الذي يلبس لبوس الديك”.
تابع الديك المنتفخ سيره تتبعه الدجاجات وجميع أنواع الطيور. وظل يسير حتى وصل إلى بيت العجوز، وراح يصيح: “كي كي ريكي”.
عند سماع العجوز صياح الديك، خرج فرحاً للقائه. لكن تُرى ماذا رأى عندما نظر من فتحة الباب؟ تحوّل ديكه مخلوقاً مخيفاً، بحيث يبدو فيلٌ ضخم أشبه ببرغوث مقارنةً به. رأى العجوز الديك وضخامته ففتح له بوابة البيت.
قال الطائر المزهوّ بإنجازه: “أرجو، يا سيدي، أن تفرش لي مفرشاً جديداً وسط هذا الفناء”.
سارع العجوز الفطن الى وضع المفرش. وقف الديك فوقه وفرد جناحيه، وسرعان ما امتلأ فناء البيت بالطيور وقطعان الماشية. ثم رمى عدداً من القطع الذهبية لمعت تحت أشعة الشمس حتى زاغت من بريقها الأبصار.
عند رؤية العجوز ذلك الكنز الوفير، حار في أمره ولم يعرف من شدة سروره كيف يتصرف، وعانق الديك وقبّله.
على نحو مفاجئ، ظهرت زوجته العجوز، وعندما رأت ذلك المشهد الرائع، اتسعت عيناها دهشة، لكنها شعرت بغيظ شديد.
قالت: “أعطني، يا صديقي القديم، بضع قطع ذهبية”.
“لن تنالي منها قطعة واحدة، أيتها العجوز الطمّاعة. هل نسيت ردّك عندما طلبت منك بعضاً من البيض. اذهبي الآن واضربي دجاجتك بالسوط، فقد تضع لك قطعاً ذهبية. لقد ضربتُ ديكي فجلب لي هذا الكنز”.
مضت العجوز نحو قنّ الدجاج، وهزّت الدجاجة المسكينة وحملتها من ذيلها، وأخذت تضربها بقسوة جعلت كل من رآها يشفق على حالها. وعندما استطاعت الدجاجة التخلص من يدي العجوز، هرعت إلى الطريق. وأثناء سيرها ابتلعت حبة خرز، ثم عادت سريعاً، وأخذت في القوقأة عند البوابة. رحّبت العجوز بالدجاجة التي سارعت في الدخول إلى عشّها. بعد ساعة من الزمن، قفزت عالياً وأخذت في القوقأة. وأسرعت العجوز لترى ماذا وضعت الدجاجة. لكن عندما تفحصت العش، ماذا وجدت يا ترى؟ وضعت الدجاجة قطعة خرز زجاجية. وإذ أدركت العجوز خداع الدجاجة ومكرها، أخذت تضربها بالسوط حتى نفقت.
هكذا أصبحت العجوز الحمقاء فقيرة معدمة. وعاشت منذ ذلك اليوم في حال يرثى لها، لا تنتظر شيئاً بعدما كانت تجمع بيضتين صباح كل يوم. لقد تلقّت عقاباً صارماً لأنها أساءت معاملة الدجاجة المسكينة، ثم قتلتها، ولا ذنب لها.
وأصبح الرجل العجوز فائق الغنى. شيّد بيوتاً فخمة أحاطت بها حدائق غناء، وعاش في بحبوحة وسعادة. وجعل من زوجته راعية لماشيته ودواجنه. كما اعتاد على اصطحاب الديك إلى كل مكان يقصده. وقد أحاط عنق الديك بشريط ذهبي وألبسه حذاءً أصفر لامعاً، حتى ظن الناس أنه دمية ذهبية وليس ديكاً عادياً ¶
صربيا
الكشك العجيب –
ترجمة ثائر ديب
عاش مرّةً ملكٌ، لديه ثلاثة أولاد وبنت واحدة. ولكي يحمي الوالد هذه البنت، التي كان يخشى عليها خشيته على عينيه، حبسها في قفص. وحين كبرت الفتاة، طلبت من والدها ذات مساء أن يسمح لها بالمشي قليلاً مع إخوتها أمام القصر، فأجاب الوالد طلبها. غير أنّها لم تكد تخطو أول خطوة لها خارج باب القصر حتى حطّ تنّين واختطفها من إخوتها، وحلّق بها إلى السحاب.
هُرِع الأخوة بأسرع ما أمكنهم، وأخبروا أباهم بما حصل لشقيقتهم، وطلبوا منه أن يطلقهم بحثاً عنها، فوافق الوالد، وأعطى كلاً منهم حصاناً وأشياء أخرى يحتاجون إليها في سفرهم، ثمّ مضوا باحثين عن أختهم. بعد سفر طويل، وقعت أبصارهم على كشك، لم يكن في السماء ولا على الأرض، بل كان معلّقاً في منتصف المسافة بينهما. حين اقتربوا منه، راحوا يفكرون أنّ أختهم قد تكون فيه، وتشاوروا معاً كيف يمكن أن يتدبّروا أمر الوصول إليه. بعد طول تمعّنٍ قرّ قرارهم أنّ على واحدٍ منهم أن يقتل حصانه، ويصنع سَيْراً من جلده، ويربط طرف السير إلى سهم، ويطلقه من القوس بحيث ينفذ عميقاً في جانب من الكشك، وبذلك قد يمكنهم أن يتسلقوا وصولاً إليه. واقترح أصغر الأخوة على الأكبر أن يقتل حصانه، لكنّ هذا الأخير رفض أن يفعل. وكذلك رفض الأخ الأوسط، فلم يبقَ سوى الأخ الأصغر ليقتل حصانه، ففعل هذا الأخير وصنع من جلد الحصان سيراً طويلاً، ربط إليه سهماً وأطلق السهم في اتجاه الكشك.
كان السؤال بعد ذلك، من الذي سيتسلق الشريط؟ فأعلن الأخ الأكبر أنّه لن يفعل؛ وأَبى الأوسط أيضاً، فاضطر الأصغر أن يتسلّق. وحين بلغ الكشك، مضى من حجرة إلى حجرة، إلى أن وجد شقيقته في آخر الأمر، جالسةً والتنّين نائم ورأسه على ركبتها، وهي تُمرّ أصابعها في شعر رأسه.
حين رأت أخاها خشيت عليه أشدّ الخشية، وأشارت إليه أن يذهب قبل أن يستيقظ التنين. لكن أخاها لم يفعل، وبدلاً من الهرب أخذ دبّوسه وهوى به بكلّ ما أوتي من قوة على رأس التنّين. حرّك التنّين كفّه قليلاً صوب المكان الذي وقعت عليه الضربة، وقال للفتاة: “شعرتُ أن شيئاً قد عضّني هنا”. ولم ينهِ كلامه حتى هوى ابن الملك عليه بضربة أخرى، فقال التنّين ثانية: “شعرت أن شيئاً قد عضّني هنا”. وحين رفع الأخ دبّوسه ليضرب الضربة الثالثة أشارت الأخت لتريه أين يضرب الضربة القاضية. فهوى بالضربة القاضية، وخرَّ التنّين صريعاً في الحال، فدفعته ابنة الملك عن ركبتها وهُرِعت إلى أخيها وقبّلته، ثمّ أمسكت بيده وراحت تريه شتّى حجرات الكشك.
أخذته أولاً إلى حجرةٍ فيها حصان أسود أُسرِج بكلّ ما يلزم لامتطائه، وعدّته بأكملها من الفضة الخالصة.
ثمّ قادته إلى الحجرة الثانية، وكان فيها حصان أبيض، أُسرِج وأُلجِم أيضاً، وعدّته بأكملها من الذهب الخالص.
أخيراً اصطحبت الأخت أخاها إلى الحجرة الثالثة، حيث رأى حصاناً أشهب، رُصِّعَت أعنّته وركابه وسرجه جميعاً بكثير من الأحجار الكريمة.
بعد المرور بهذه الحجرات الثلاث، اصطحبته إلى حجرة جلست فيها صبية خلف طارة ذهبية، منكبّةً على التطريز بخيطٍ من ذهب.
من هذه الحجرة مضيا إلى أخرى، كانت فيها فتاة تغزل خيطاً ذهبياً، ثم إلى أخرى جلست فيها فتاة تنظم الدرّ في خيط، وأمامها، على طبق من الذهب، كان ثمّة دجاجة ذهبية وفراخها، تنقّي الدرّ.
وإذْ رأى الأخ هذه الأشياء كلّها، عاد إلى الغرفة حيث صرع التنّين، وحمله وألقى به إلى الأرض، فكاد قلب الأخوين، الموجودين في الأسفل، ينفطر من الخوف لمرأى جثّة التنّين. ثم جعل الأمير الشاب أخته تنزل ببطء، وخلفها الفتيات الثلاث، ومع كلٍّ منهنَّ العمل الذي كانت تعمله. بعدما جعلهنَّ ينزلن، واحدة إثر أخرى، صاح لأخويه وقال لهما أيّ فتاة ستكون لكلٍّ منهما، واحتفظ لنفسه بالفتاة الثالثة، التي كانت تنظم الدرّ بعونٍ من الدجاجة الذهبية وفراخها. غير أن الحسد كان يعتمل في صدر أخويه لأن شجاعته قد أفلحتْ، ووجد أخته وأنقذها من التنين، ولذلك فقد قطعا السير كي لا يعود في مقدوره أن يهبط من الكشك.
في الحقول القريبة، وجد هذان الأخوان راعياً شاباً، فجعلاه يتنكّر وأخذاه إلى والدهما، وهدّدوا أختهما والفتيات الثلاث أشدّ التهديد في حال إخبارهنّ الوالد بما جرى. بعد فترة بلغت الأخبار الأخ الأصغر، الذي بقي في الكشك، بأن أخويه والراعي سوف يتزوجون الفتيات الثلاث. في يوم زواج أخيه الأكبر، امتطى الأخ الأصغر صهوة حصانه الأسود، وما إنْ عاد المدعوون إلى حفل الزفاف من الكنيسة، حتى هبط الأمير الشاب من الكشك، واندفع في وسطهم، وضرب أخاه الأكبر ضربة خفيفة في ظهره، فسقط هذا الأخير عن صهوة حصانه؛ أما هو فأسرع عائداً إلى الكشك. في يوم زواج أخيه الأوسط، نزل الأصغر ثانية وسط حفل الزفاف، بعد العودة من الكنيسة، وضرب أخاه الأوسط كما فعل بالأخ الأكبر، فسقط عن صهوة حصانه، أما هو فعاد إلى الكشك. وأخيراً، حين سمع الأمير بأن الراعي الشاب على وشك الزواج من الفتاة التي كان قد اصطفاها لنفسه، امتطى الحصان الأشهب، وهبط من جديد، واندفع وسط ضيوف العرس وهم خارجون من الكنيسة، وضرب العريس بدبّوسه على رأسه فخرّ صريعاً في الحال. وحين اجتمع الضيوف من حوله ليمسكوا به، تركهم يفعلون ذلك، ولم يحاول الفرار، وسرعان ما أثبت لهم أنه الابن الثالث للملك، وأن الراعي لم يكن سوى منتحل، وأن الحسد قد دفع أخويه لأن يتركاه في الكشك، حيث وجد أخته وقتل التنّين. وأكدت أخته والفتيات الثلاث كلّ ما قاله، حتى إن الملك الذي غضب لفعلة الأخوين الكبيرين، طردهما من بلاطه؛ وزوّج الأخ الأصغر من الفتاة الثالثة، وأَورثه مملكته حين مات ¶
حكايات سلافية
الذكاء والحظ –
ترجمة فالح حسن
في سالف الأزمان التقى الحظُ الذكاءَ على مقعد في حديقة. فقال الحظ: “أفسح لي مجالاً!”.
ولم يكن للذكاء خبرة بعد، فلم يعرف مَنْ الذي يجب أن يفسح مجالاً للآخر. فقال: “لِمَ عليَّ إفساح المجال لك؟ لستَ أفضل مني”.
فأجاب الحظ: “الأفضل بيننا هو مَنْ ينجز أعمالاً أكثر. أترى هناك ابن الفلاح الذي يحرث الحقل؟ ادخل فيه، فإذا صار أفضل حالاً مما لو كنت أنا فيه، فلسوف أفسح لك دوماً المجال، أينما ألتقيك وحيثما ألتقيك”.
ما إن شعر صاحب المحراث أن لديه ذكاء في رأسه، حتى صار يفكّر: “لِمَ يجب عليَّ السير وراء المحراث حتى الممات؟ في وسعي أن أذهب إلى مكان آخر وأن أجني ثروة بسهولة ويسر”.
فتوقف عن الحرث، وطرح محراثه، وقفل راجعاً إلى البيت. فقال: “يا أبت، لا أحبّ حياة الفلاحين هذه، والأولى لي أن أكون بستانياً”.
فقال أبوه: “ما الذي دهاك يا فانيك؟ أفقدت رشدك؟”.
على كل حال، فكر الأب في دخيلته وقال لابنه: “حسن، إنْ أردت ذلك، تعلَّم البستنة، وليكن الرب معك! وسوف يرث أخوك الكوخ من بعدي”.
هكذا خسر فانيك الكوخ، لكنه لم يهتم لذلك، بل ذهب وجعل نفسه صبياً يتعلم على يد بستاني الملك. كان أي شيء يعلّمه البستاني له مهما كان ضئيلاً، يفهمه فانيك بنحو أكبر وأكثر. لم يطل الوقت حتى كفّ عن الامتثال لأوامر البستاني في كيف ينبغي منه فعل أي شيء، بل راح يفعل كل شيء بطريقته. في بداية الأمر، غضب البستاني، لكن ما دام يرى كل شيء يسير بأفضل حال، فقد شعر بالرضا.
فقال البستاني: “أرى انك تفوقني ذكاء”، ومنذ ذلك الحين ترك فانيك يعنى بالحديقة بالنحو الذي يراه مناسباً. في مدة ليست بالطويلة، جعل فانيك الحديقة جميلة إلى حد أبهج الملك، وصار يتمشى مراراً فيها بصحبة الملكة وابنته الوحيدة.
كانت الأميرة فتاة حسناء، لكن منذ أن كان عمرها اثني عشر عاماً كفَّت عن التكلم، ولم يسمع أيّ أحد مُذاك كلمة واحدة منها. اغتمّ الملك بسبب ذلك كثيراً حتى أعلن في الأمصار أن أيّ أحد يستطيع إعادة ابنته إلى حالها السابقة ويجعلها تتكلم، فسيكون زوجاً لها. تقدم ملوك كُثُر وأمراء ونبلاء عديدون واحداً بعد آخر، لكن جميعهم ذهبوا كما جاؤوا، فلم يفلح أحد منهم في إنطاقها.
فكر فانيك: “لماذا لا أجرّب أنا أيضاً حظي؟ مَنْ يعرف فلربما أنجح في حملها على الإجابة عندما اسألها سؤالا؟”.
في الحال قدّم نفسه الى القصر، واصطحبه الملك ومستشاروه إلى غرفة الأميرة. كان لدى ابنة الملك كلب صغير ظريف، وكانت مولعة به لأنه كان شديد الذكاء، ويفهم كل شيء تريده.
عندما جاء فانيك إلى الغرفة برفقة الملك ومستشاريه، تظاهر كأنه لم يرَ الأميرة، وانحنى إلى الكلب وقال: “أيها الكلب المدلل، سمعت أنك ذكي جداً، فجئت لأستشيرك. فقد كنا ثلاثة رفاق في سفر: نحات وخياط وأنا. ذات يوم كنا نعبر غابة وأجبرنا على تمضية الليل فيها. وكي نحمي أنفسنا من الذئاب، أوقدنا ناراً، واتفقنا على السهر لمراقبتها واحداً تلو الآخر. فراقبها النحات أولاً، وكي يسلّي نفسه في إمضاء الوقت أخذ زند خشب ونحت فتاة منه. عندما انتهت نوبته، أيقظ الخياط ليسهر عليها بدوره. رأى الخياط الفتاة الخشبية، وسأل عنها. فقال النحات: كما ترى، كنت ضجراً، ولم أكن أعرف ما أعمل وحدي، فنحتّ فتاة من زند خشب، فإن وجدت الوقت، في إمكانك إلباسها. فأخرج الخياط من فوره مقصّه وإبرته وخيوطه، وقطع قماشاً، وشرع يخيط لها ملابس، وعندما جهزت ألبس الفتاة. ثم دعاني الى السهر. سألته أنا أيضاً عن معنى تلك الأشياء كلها. فقال لي الخياط: كما ترى، وجد النحات الوقت يقيد يديه بشدة فنحت فتاة من زند خشب، وأنا للسبب نفسه ألبستها، وأنت لو وجدت الوقت يقيد يديك، ففي إمكانك أن تعلّمها الكلام”.
“بحلول الفجر كنت قد علّمتها الكلام فعلاً. لكن عندما استيقظ رفاقي في الصباح، أراد كل واحد منهم أن يأخذ الفتاة لنفسه. فقد قال النحات: أنا صنعتها؛ والخياط: أنا ألبستها؛ وأنا أيضاً ذكرت حقي. لذا أخبرني، أيها الكلب المدلل، الفتاة ملك مَنْ منّا؟”.
لم ينطق الكلب بكلمة، بل بدلاً من الكلب ردّت الأميرة: “من يمتلكها غيرك أنت؟ فما نفع فتاة النحات بلا حياة؟ وما نفع ملابس الخياط بلا كلام؟ فأنت منحتها أفضل هدية، الحياة والكلام، لذلك هي ملكك بالحق”.
فقال فانيك: “لقد قلت حكمك للتو. فأنا رددت لك الكلام ثانية وأعطيتك حياة جديدة، لذا فأنت بالحق ملكي”.
عندها قال أحد مستشاري الملك: “سيجزل لك صاحب الجلالة جزيل العطاء على نجاحك في حل عقدة لسان ابنته، لكن لا يمكنك اتخاذها زوجة، لأنك من نسب وضيع”.
وقال الملك: “أنت من نسب وضيع، سأجزل لك في العطاء عوضاً من ابنتي”. لكن فانيك لم يكن يريد الحديث عن أي عطاء، فقال: “لقد وعد الملك من دون أن يستثني أن أياً كان إذا قدر على جعل ابنته تتكلم ثانية فستكون زوجته. وكلمة الملك قانون، وإذا أراد الملك أن يحترم الآخرون قوانينه، فالأولى أن يبدأ بنفسه. لذلك ينبغي للملك أن يعطيني ابنته”.
فصاح المستشار: “اقبضوا عليه وشدّوا وثاقه. كل مَنْ يقول أن على الملك أن يفعل كذا، إنما يهين جلالته، ويستحق الموت. فهلا نرجو من جلالتك أن تأمر بقتل هذا الشرير بالسيف؟”.
فقال الملك: “اقتلوه”.
فقيّد فانيك على الفور واقتيد للإعدام. وعندما وصلوا إلى مكان الإعدام، كان الحظ ينتظره هناك، فقال للذكاء سراً: “انظر كيف صارت حال هذا الرجل بك، حتى إنه يكاد يفقد رأسه! فأفسح لي المجال، ودعني آخذ مكانك!”. ما إن دخل الحظ في فانيك، حتى انكسر سيف الجلاد على السقالة، وكأن أحداً قطعه، وقبل أن يأتوا بسيف آخر، ظهر بوّاق على ظهر حصانه قادماً من المدينة، يعدو بسرعة طائر، فبوَّق بفرح، ولوّح براية بيضاء، وجاء بعده الموكب الملكي من أجل فانيك. فقد كان هذا ما جرى: أخبرت الأميرة أباها في البيت أن فانيك لم يفعل شيئاً سوى قول الحق، وأن كلمة الملك ينبغي ألاّ تُكسر. ولو كان فانيك من نسب وضيع، فمن اليسير على الملك أن يجعل منه أميراً. فقال الملك: “أنت على حق، دعونا نرفعه الى مرتبة أمير!”.
وأُرسل الموكب الملكي في الحال إلى فانيك، ووُضِعَ المستشار الذي أثار حنق الملك ضده في محله على المقصلة وأُعدم.
بعد ذاك، حينما كان فانيك والأميرة يمضيان في موكب ليقيما عرسهما، حدث أنْ كان الذكاء في مكان ما على الطريق، ينظر أن مساعدته لا يمكن أن تتحدى الحظ، فأحنى رأسه وتنحى جانباً، كأن ماء بارداً صُبَّ عليه. وصار يقال منذ ذلك الحين إن الذكاء يفسح مجالاً واسعاً للحظ حيثما يراه ¶
جنوب أفريقيا
الرسالة الضائعة –
ترجمة ناصرة السعدون
لدى النملة أعداء منذ قديم الزمان، ولأنها صغيرة مدمرة، فقد تعرضت للكثير من المجازر. ولا تناصبها أغلب الطيور العداء فحسب، بل إن آكل النمل لا يقتات إلا عليها، وتهاجمها حشرة أم أربع وأربعين في كل زمان ومكان وفي كل فرصة سانحة.
لهذا ارتأى بعض النمل ضرورة عقد اجتماع للتشاور حول إمكان التوصل إلى تدبير ما يحميهم من مهاجمة الطيور والحيوانات المفترسة لهم.
لكنهم اختلفوا في الرأي، وعجزوا عن التوصل إلى قرار.
وساد نقاش حاد بين أنواع النمل المختلفة: النمل الأحمر والأسود والرمادي، ونمل الأرز، وهزاز الذيل، والعديد من الأصناف الأخرى، واستمر مدةً طويلة من دون التوصل إلى نتيجة.
اقترح بعضهم اللجوء إلى حفرة في الأرض، والعيش فيها، وأرادت فئة أخرى مسكناً واسعاً متيناً مبنياً فوق الأرض لا يستطيع سواهم الدخول إليه، في حين اقترحت فئة ثالثة اتخاذ الأشجار مسكناً، للتخلص من آكل النمل، ناسين تماماً أنهم يصبحون بذلك صيداً سهلاً للطيور. أما الفئة الأخيرة منهم فارتأت ضرورة أن يحصلوا على أجنحة تمكنهم من الطيران.
لم تصل هذه المداولات الى شيء، فقررت كل فئة التصرف وفقاً لاقتناعاتها وعلى مسؤوليتها الخاصة.
عمل أفراد كل من هذه الفئات بتكافل وتضامن يندر إيجاد مثيل له في أي مكان في العالم، وقاموا بتوزيع العمل في ما بينهم وفقاً لقواعد صارمة، جعلتهم جميعاً يؤدّون أدوارهم بانتظام وجودة، وحرصاً على إدارة العمل وإتمامه بأكبر سلاسة ممكنة فقد اختاروا من بينهم ملكاً.
لكن كل مجموعة فعلت ذلك بطريقتها الخاصة، ولم يفكر أيٌّ منهم بحماية نفسه من هجمات الطيور وآكلي النمل.
فبنى النمل الأحمر بيته فوق الأرض وعاش تحته، لكن آكل النمل دمّر في دقيقة واحدة ما كلّفهم أياماً من العمل المضني. وعاش نمل الأرز تحت الأرض، ولكن لم يكن مصيرها أفضل من ذلك. إذ كلما خرجت، انقض عليها آكل النمل وافترسها جميعاً. والتجأ النمل هزاز الذيل إلى الأشجار، لكن هناك كثيراً ما تجلس أم أربعة وأربعين في انتظارها، أو تلتهمها الطيور. وأراد النمل الرمادي حماية نفسه من الإبادة من خلال الهروب، لكن ذلك لم يفده في شيء، لأن السحالي والعناكب والطيور كانت أسرع منها بكثير.
حين سمع ملك الحشرات أنها لم تستطع التوصل إلى اتفاق، أرسل اليها سر الاتحاد ورسالة العمل معاً. لكن لسوء الحظ اختار النحلة لحمل الرسالة، ولم تصل قط إلى النمل، لهذا لا تزال حتى اليوم تجسد عدم الاتفاق وبالتالي لا تزال فريسة للأعداء ¶
التيبت
النمر والضفدع –
ترجمة غسان علم الدين
شجرة الصنوبر الشاهقة الصلبة عون كبير للكرمة الضعيفة في تسلّق الأعالي. (مثل من التيبت)
ذات يوم، حينما كان العالم لا يزال مفعماً بالحب وكانت كل الحيوانات بعضها يفهم لغة البعض، خرج نمر عجوز اسمه تسودن، لاصطياد شيء يلتهمه. وفيما كان يمشي متثاقلاً في محاذاة ضفتي الجدول، رآه ضفدع فارتعد خوفاً، ظناً منه أن النمر آتٍ ليفترسه.
تسلق الضفدع حزمة صغيرة من العشب وانتظر النمر حتى اقترب منه وناداه: “مرحباً، إلى أين أنت ذاهب؟”.
أجاب النمر: “دخلت الغابة لاصطياد شيء آكله. وقد مضى عليَّ يومان أو ثلاثة أيام لم أتناول شيئاً وقد هدّني الجوع، وأعتقد أني سألتهمك على رغم أنك صغير جداً ولا تكفيني. على أيّ حال، من أنت؟”.
أجاب الضفدع، بغرور: “أنا ملك الضفادع، ويمكنني القفز إلى أي مسافة أريدها، كذلك في إمكاني فعل أيّ شيء. أنظر إلى هذا النهر، دعنا نتبارَ بالقفز عبره”.
أجاب النمر: “حسناً”. أخذ الضفدع ذيل النمر بفمه، وعندما جثم النمر استعداداً للقفز، انقذف الضفدع إلى ضفة النهر المقابلة بالتزامن مع قفزة النمر. وعندما وصل تسودن، استدار ليبحث داخل النهر عن الضفدع. لكن الضفدع كان قد أفلت من ذيل النمر وقال: “عمَّ تبحث أيها النمر العجوز هنا؟”، فأصيب النمر بدهشة كبيرة لرؤية الضفدع وراءه.
عندئذٍ قال الضفدع: “لقد هزمتك في هذا الاختبار فلنجرّب اختباراً آخر. تخيّل أننا نتقيأ”.
أخرج النمر القليل من الماء فقط لكون معدته فارغة، فيما أخرج الضفدع بعضاً من شعر النمر الذي كان قد انتزعه منه.
سأله النمر بدهشة: “كيف تمكنت من القيام بذلك؟”. أجابه الضفدع: “أوه، هذه مجرد بقايا لم تهضم بعد من النمر الذي قتلته في الأمس وأكلته”.
فأوجس النمر خيفة منه وقال في نفسه: “لا بد من أن هذا الضفدع قوي جداً حتى يتمكن من أكل نمر في الأمس ومن التفوق عليّ بالقفز فوق النهر، لذا يجدر بي التملص منه قبل أن يأكلني”. فمشى قليلاً نحوه بخجل قبل أن يركض بأقصى سرعته متجهاً إلى أعلى الجبل حيث التقى ثعلباً هناك فسأله: “ما الأمر، لِمَ تركض هارباً بهذه السرعة؟”.
فقال النمر العجوز: “التقيت ملك الضفادع القوي، وقد كان يأكل نموراً وتفوَّق عليَّ بالقفز فوق النهر”.
سخر الثعلب منه وقال: “ماذا؟ هل تهرب من ضفدع صغير؟ أنا مجرّد ثعلب صغير، وأستطيع قتله بمجرد وضع قدمي عليه”.
أجاب النمر: “أنا أعرف قدرات هذا الضفدع، لكن إذا كنت تعتقد أنك قادر على قتله فسأعود معك. إلا أنني أخشى أن ترتعد وتهرب، لذا علينا ربط ذيلينا أحدهما بالآخر”. فعقداهما مرّات عدة بإحكام ونزلا لرؤية الضفدع الذي بقي جالساً على قطعة العشب وتبدو عليه أسمى مظاهر الغرور. رآهما الضفدع قادمين فنادى الثعلب: “إنك ثعلب عظيم. لم تدفع رسومك اليوم للملك ولم تحضر لحماً أيضاً. هل المربوط بذيلك هذا كلب تحضره عشاءً لي؟”.
حينها ارتعد النمر ظناً منه أن الثعلب سيقدمه طعاماً الى الملك فاستدار وركض بأقصى سرعته ساحباً الثعلب المسكين وراءه، وإن لم يكونا قد ماتا، فإنهما ما زالا يركضان حتى اليوم ¶

انكلترا
المرأة العجوز وخنزيرها –
ترجمة عابد إسماعيل
كانت امرأةٌ عجوز تكنس بيتها، وعثرت على نصف شلن صدئ. “ماذا؟” قالت، “ماذا سأفعل بنصف شلن؟ سوف أذهب إلى السوق، وأشتري خنزيراً صغيراً”.
في طريق عودتها إلى المنزل، اعترضتها عتبة صغيرة، ورفض الخنزير الصغير العبور فوقها.
سارت مسافةً أبعد، ورأت كلباً. قالت للكلب: “أيّها الكلب! عضّ هذا الخنزير، فالخنزير يرفض العبور فوق العتبة، ويبدو أنني لن أعود الليلة إلى المنزل.” لكنّ الكلب رفض أن يفعل ذلك.
سارت أبعد قليلاً، فقابلت عصاً. فقالت: “أيتها العصا! أيتها العصا! اضربي الكلب، فالكلب لا يريد أن يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر العتبة، وأنا لن أصل إلى بيتي الليلة”. لكن العصا رفضتْ أن تفعل ذلك.
مشت أبعد قليلاً، وقابلت ناراً. فقالت: “أيتها النار! أيتها النار! احرقي العصا، لأنّ العصا لا تريد أن تضرب الكلب، والكلب لا يريد أن يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر فوق العتبة، وأنا لن أصل إلى المنزل الليلة”. لكنّ النار رفضت.
سارت أبعد، فأبعد، وقابلت بعض الماء. وقالت: “أيها الماء! أيها الماء! أخمد النار، لأنّ النار لا تريد ان تحرق العصا، والعصا لا تريد ان تضرب الكلب، والكلب لا يريد أن يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر فوق العتبة، وأنا لن أصل إلى المنزل الليلة”. لكنّ الماء رفض.
سارت مسافةً أبعد قليلاً، وقابلت ثوراً. فقالت: أيها الثور! أيها الثور! اشرب الماء، لأن الماء لا يريد ان يخمد النار، والنار لا تريد أن تحرق العصا، والعصا لا تريد أن تضرب الكلب، والكلب لا يريد ان يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر فوق العتبة، وأنا لن أصل إلى منزلي الليلة”. لكنّ الثور رفض أن يفعل ذلك.
مشت مسافةً أبعد قليلاً، وقابلت جزّاراً. وقالت: “أيها الجزّار! أيها الجزّار! اقتل الثور، لأنّ الثور لا يريد أن يشرب الماء، والماء لا يريد أن يخمد النار، والنار لا تريد أن تحرق العصا، والعصا لا تريد أن تضرب الكلب، والكلب لا يريد أن يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر فوق العتبة، وأنا لن أصل إلى منزلي الليلة” لكنّ الجزّار رفض أن يفعل ذلك.
مشت أبعد قليلاً، وقابلت حبلاً. وقالت: “أيّها الحبل! أيّها الحبل! اشنق الجزّار، لأنّ الجزار لا يريد أن يقتل الثورَ، والثور لا يريد ان يشرب الماء، والماء لا يريد أن يخمد النار، والنار لا تريد أن تحرق العصا، والعصا لا تريد أن تضرب الكلب، والكلب لا يريد أن يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر فوق العتبة، وأنا لن أصل إلى منزلي الليلة”. لكنّ الحبل رفض أن يفعل ذلك.
سارت أبعد قليلاً، وقابلت جرذاً. وقالت: “أيها الجرذ! أيها الجرذ! اقضم الحبل، لأنّ الحبل لا يريد أن يشنق الجزّار، والجزّار لا يريد ان يقتل الثور، والثور لا يريد أن يشرب الماء، والماء لا يريد أن يخمد النار، والنار لا تريد أن تحرق العصا، والعصا لا تريد أن تضرب الكلب، والكلب لا يريد أن يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر فوق العتبة، وأنا لن أصل إلى منزلي الليلة”. لكنّ الجرذ رفض أن يفعل ذلك.
مشت أبعد قليلاً، وقابلت قطّاً. وقالت: “أيها القطّ! أيّها القطّ! اقتل الجرذ، لأنّ الجرذ لا يريد ان يقضم الحبل، والحبل لا يريد أن يشنق الجزّار، والجزار لا يريد أن يقتل الثور، والثور لا يريد أن يشرب الماء، والماء لا يريد أن يخمد النار، والنار لا تريد أن تحرق العصا، والعصا لا تريد أن تضرب الكلب، والكلب لا يريد أن يعضّ الخنزير، والخنزير لا يريد أن يعبر فوق العتبة، وأنا لن أصل إلى منزلي الليلة”. لكنّ القطّ قال لها: “إذا ذهبتِ إلى تلك البقرة، هناك، وأحضرتِ لي دورقاً من الحليب، فسوف أقتل الجرذ”. هكذا ذهبت المرأةُ العجوز إلى البقرة.
لكنّ البقرة قالتْ لها: “إذا ذهبتِ إلى مخزن التبن ذاك، وأحضرت لي رزمةً من التبن، فسوف أعطيكِ حليباً”. فذهبت المرأة العجوز إلى مخزن التبن وأحضرت التبن للبقرة.
حالما أكلت البقرةُ التبن، أعطت المرأة العجوز الحليب، وأخذته في دورق إلى القطّ.
ما إن شرب القطّ الحليبَ، حتى بدأ يقتل الجرذ، والجرذ بدأ يقضم الحبل، والحبل بدأ يشنق الجزّار، والجزار بدأ يقتل الثور، والثور بدأ يشرب الماء، والماء بدأ يخمد النار، والنار بدأت تحرق العصا، والعصا بدأت تضرب الكلب، والكلب بدأ يعضّ الخنزير، أما الخنزير الصغير، فقفز مذعوراً، فوق العتبة، وهكذا وصلت المرأةُ العجوز إلى منزلها في تلك الليلة ¶

ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى