صفحات ثقافية

الحالمون

null
سامر أبو هواش
يدخل الفتى إلى إحدى الحجرات المفتوح بابها، فيجد صبية شقراء تستحمّ في حوض، وسط الغرفة الفوضوية، وقد برز ثدياها العاريان، فيشعر بشيء من الحرج، قبل أن تدعوه تلك الفتاة بكل بساطة إلى الدخول في الحوض معها. هذ المشهد ليس فيلماً بورنوغرافياً، ولا دعوة جنسية، ولا حتى تلميحاً إلى ذلك. إنه، بكلّ بساطة، طبيعة الحال أو نمط التصرّف الممكن، وإن لم يكن الشائع في الضرورة. مشاهداً هذه اللقطة – البيت المفتوح الذي تلتقي فيه مجموعة من الشباب الثائر اجتماعياً وسياسياً – من الفيلم الألماني “عقدة بادر ماينهوف”، الذي يحكي سيرة أولئك الشبان الثوريين الألمان خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ممن اعتقدوا حقاً أن في وسعهم تغيير العالم، وإن بقوة السلاح أو “العنف الثوري”، لم تكن فكرة الحرية هي ما أسرني حقاً. إن نظرة سريعة على عالمنا اليوم، تكفي لنعرف أن هامش الحرية، بما فيها الجنسية، بات أوسع فعلياً وأكبر بكثير، لا سيما في البلدان الأوروبية التي سعت إليها، وإنْ ليس في بلداننا التي لا أحسب أن تغييرات كبيرة طرأت عليها في المجالات الجوهرية لفكرة الحرية منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. ما توقفت عنده حقاً، هو عكس الحرية تماماً: قوة القمع، سطوتها، ورعبها. ذلك أن هذا الفيلم الذكي، يصحبنا بعد هذه المشاهد الحالمة، التي ترسم لمن يرغب الستينات وردية زاهية، في رحلة من الرعب الحقيقي، نرى فيها عملية التعذيب الجسدي والنفسي والمحاكمات الصورية القاسية لأعضاء مجموعة “الجيش الأحمر” هذه، التي تنتهي بمقتلهم جميعاً.
لقد اخترنا الجزء الأول من الحلم. أو بصورة أدقّ، اخترنا في ما يخص الستينات والمجموعات التي نشطت خلالها، الحلم وحده. اخترنا البيتلز والبينك فلويد وبوب ديلان وألن غينسبرغ والبوب آرت وما إلى ذلك، وبالطبع اخترنا “اصنع الحب لا الحرب” كملصق دائم، ورحنا نتحسّر على الستينات بوصفها حلم الإنسانية الذي لم يكتمل.
لست هنا في معرض تقويم الستينات، غير أن الصور التفصيلية المؤلمة التي يعرضها فيلم أولي إيدل هذا، وتذهب إلى الجانب الأسود تماماً، الذي لا زهور فيه ولا قوة حب، وتعكس أحياناً حالة الجنون الفعلي التي يصاب بها بعض معتقلي “مجموعة بادر ماينهوف” أو الوصول إلى حافة الجنون عند بعضهم الآخر، تشكيكهم بعضهم بالبعض الآخر، معاقبتهم بعضهم لبعض، وقسوتهم بعضهم على البعض الآخر، النابعة في جزء كبير منها من قسوة الآخرين عليهم. هذا كله يؤدي إلى استنتاج واحد بديهيّ: إن للأحلام ثمناً، ثمناً باهظاً في غالبية الأحيان.
ربما يجيب هذا جزئياً عن “لماذا لا نحلم؟”. بدقة أكبر: “لماذا لسنا حالمين كما كان أولئك الشباب الطويلو الشعر في الستينات؟”، وهو سؤال يشغلني مثلما أفترض أنه يشغل الكثيرين من أبناء جيلي، ممن “يتحسرون” ربما لأنهم لم يتركوا بصمتهم الجماعية على زمنهم أو مكانهم، ربما لأن ثمن الأحلام باهظ في نهاية المطاف. لكن، مع قول هذا، على المرء أيضاً أن يعترف، أو على الأقلّ أن يضع في باب الاحتمالات التي تحتاج إلى بعض التأمل: ربما ذهبنا نحن أولاد هذا الزمن، بعيداً جداً، كذلك، في “مناهضة” الأحلام، وفي معانقة الواقع واعتناقه. ومن الوهم أن نحسب أن هذا يمضي، هو الآخر، بلا ثمن، وبلا ثمن باهظ أيضاً.
لقد غدا الحلم الكبير بالتغيير – ربما بمجرد اعتباره كبيراً (مستحيلاً) إلى هذا الحدّ – نوعاً من السبّة. ربما يشبه الأمر رد الفعل – القتل، الذي يمارسه الواحد منا على كل أبطال طفولته، وخصوصاً الوهميين منهم، لحظة يقرّر الدخول إلى “العالم الحقيقي”، والخروج/ التحرّر من عالم الخرافات. “خرافة الحب”، “خرافة الأمل”، “خرافة التغيير”، “خرافة الكلمة”. غير أن هذا “التحرّر” من الخرافات، لا يعني عدم استنباط خرافات أخرى بديلة، والوقوع في قبضتها وتحت وطأتها، من مثل خرافة الانسجام والاندماج والإذعان. قد نرى اليوم في “فيديو كليب” سطحي واحد، جميع الصور والأشكال والأسماء والألوان التي كانت في يوم من الأيام رموزاً لعالم جديد مقبل، ورفضاً لعالم قديم آخذ في التعفن، إلا أن هذا الاستحضار الطقوسي الشعائري، ومنه إطالة الشعر (واللحية والذقن عند جماعات أخرى)، لا يعكس احتجاجاً على شيء أو أحد، ولا توقاً إلى التغيير، بقدر ما بات يعني انسجاماً تاماً، وهو “الانسجام” الزائف الموهم بأنك إذا تصالحت مع السلطة (السلطات) فإنها بدورها تتصالح معك. حينئذ يكفي أن ترغب في أن تشقّ طريقك صعوداً، أو أن تبقى ثابتاً بلا حراك، حتى يكون كل شيء على ما يرام.
ربما كان حالمو الستينات، وخصوصاً الذين دفعوا ثمن أحلامهم، أكثر واقعية منا في نهاية المطاف ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى