صبحي حديديصفحات ثقافية

اليهودي الرجيم

null

صبحي حديدي

الصحافي والكاتب الإسرائيلي إيغال لوسين اصطحب زوجته وابنته إلى مقبرة مونمارتر، في باريس، حيث يرقد عدد كبير من مشاهير فرنسا، والإنسانية جمعاء، أمثال تيوفيل غوتييه، ألكسندر دوما الابن، ألفريد دو فيني، ستاندال، إميل زولا، وكلود سيمون؛ إلى جانب إدغار دوغا، هكتور برليوز، جاك أوفينباخ، فاسلاف نيجنسكي، ساشا غيتري، فرانسوا تروفو، وداليدا… لكنّ باقة الزهور التي حملها كانت برسم الشاعر الألماني كريستيان يوهان هنريش هاينه (1797 ـ 1856)، لأسباب شتى كما يرجّح المرء، في طليعتها أنّ لوسين وضع كتاباً في سيرة هاينه، تناول موقعه الرجيم في الضمير اليهودي المعاصر. وبهذا كان قد تجاسر ـ وإنْ جزئياً في الواقع، وليس جذرياً البتة ـ على كسر تقليد إسرائيلي رسمي، أو يكاد، يحرّم الاحتفاء بمنجز هاينه، إلى درجة رفض إطلاق اسمه على شارع رئيسي في تل أبيب، والإصرار على ‘نفي’ الشارع (والتعبير للأسبوعية الإسرائيلية Ha’ir) إلى منطقة صناعية فقيرة، في الضواحي.
وهاينه أحد أبرز المتضررين، إذا جاز القول، من فلسفة يهودية، قديمة ومتجددة، تنهض على ركيزتَيْن: تضخيم عقدة الضحيّة إلى درجة احتكارها والاستئثار بها ورفض مقارنتها بأيّ وكلّ المآسي التي عرفتها البشرية على امتداد تاريخها، القديم والوسيط والحديث والمعاصر؛ والاضطرار، ضمن خدمة هذه الفلسفة، إلى تأثيم حفنة من كبار اليهود، بذريعة أنهم كانوا من ‘المرتدّين’ على الديانة. وكان هاينه، الذي وُلد في دسلدورف لأسرة يهودية وحمل اسم هاري بن سيمون هاينه، قد اعتنق الديانة المسيحية وهو في الثامنة والعشرين من عمره، لكي يحصل على وظيفة إدارية، و’ينتسب إلى هذه الحضارة الغربية’ كما قال. هذه، باختصار أقصى، جريمته النكراء!
‘الجرائم’ الأخرى، المكمّلة، أنه تتلمذ على يد هيغل، وصادق كارل ماركس (الذي استقى من هاينه العبارة الشهيرة التي تصف الديانة المسيحية بـ ‘الأفيون الروحي’)، وعاشر كبار الأدباء الفرنسيين حين نفى نفسه إلى فرنسا، وبقي فيها حتى وفاته. كما أنه، في عرف تيّار عريض من المثقفين اليهود، اليهودي المرتدّ الأكثر شهرة وإثارة للسجال والجدل، لأنه أطلق العبارة الشهيرة: ‘اليهودية ليست ديانة. إنها كارثة’. أكثر من ذلك، يتابع خصومه من اليهود، كتب هاينه مسرحية بعنوان ‘المنصور’، يروي فيها تفاصيل اضطهاد المسلمين في إسبانيا أيّام محاكم التفتيش، ويسكت عن اضطهاد اليهود في المكان ذاته والفترة ذاتها.
وثمة جانب ثالث، أخال شخصياً أنه يكمل السيرورة ويستكمل دورة التأثيم، وهو التمجيد المعاكس وتبييض الصفحة، على غرار ما فعل زائر مقبرة مونمارتر نفسه. ففي كتابه ‘هاينه: حياة مزدوجة’، حاول لوسين إعادة استكشاف سيرة هاينه، على نحو يتيح بلوغ نتيجة معاكسة تماماً للرأي الشائع في أوساط المثقفين اليهود: هذا الرجل كان يهودياً أصيلاً (استناداً إلى عبارة شهيرة أخرى أطلقها هاينه: ‘لن أعود إلى الديانة اليهودية، لأنني لم أتركها في الأساس’)؛ وكان من كبار المنذرين بالفكر الصهيوني، بل كان لا يقلّ صهيونية عن هرتزل نفسه!
ثمة محاججة لا تخلو من صواب، وثمة براهين معتمدة على هذه العبارة أو تلك الواقعة، هذا الموقف أو ذاك النصّ. وثمة اتكاء واسع على مسألتين: أنّ هاينه اعتنق المسيحية مكرَهاً لا راغباً، وأنّ السلطات النازية فهمت هذه الحقيقة فوضعت أعماله في عداد 25 ألف كتاب أُحرقت في برلين سنة 1933. ويرى لوسين أنّ هاينه ـ وقد دافع عن اليهود في قضية ‘فطير صهيون’، واقعة دمشق الشهيرة ـ لا يمكن إلا أن يكون يهودياً، وصهيونياً أيضاً. ولهذا أخذه العجب حين لاحظ أنّ باقات الزهور المتكدسة على قبر هاينه كانت تتفوق على نصيب معظم عظماء فرنسا من الزهور. أغلب الظنّ أنّه تناسى هذه الحقيقة البسيطة: كان هاينه، ويظلّ، شاعراً للإنسانية جمعاء، وليس لدين أو قومية أو أمّة وحدها.
وللمرء أن يتساءل: مَن هم أولئك الذين يسعى لوسين إلى إقناعهم بيهودية هاينه؟ أهم اليهود أنفسهم، أم سواهم من أبناء الديانات الأخرى؟ وما الهدف، في نهاية المطاف؟ وما الذي سيتغيّر في شعر هاينه، وهو غير بعيد عن أن يكون أعظم شعراء ألمانيا الرومانتيكيين، إذا ثبت أنه اعتنق المسيحية طواعية أم إكراهاً؟ أو إذا تبيّن أنه كان هاري بن سيمون أكثر من كونه كريستيان يوهان هنريش؟ وهل سيختلف استقبال البشر لقصائده الغنائية البديعة، خصوصاً تلك التي تحوّلت إلى مقطوعات موسيقية خالدة على يد موسيقيين كبار من أمثال شومان وشوبيرت ومندلسون، إذا اتضحت حقيقة ديانته؟
مثل هذه الأسئلة لا تبدو هاجساً مركزياً، ولا فرعياً في الواقع، حين يتفحص المرء عشرات الحجج التي يسردها الكتاب في مسعى البرهنة على أنّ هاينه عاش حياة مزدوجة، مسيحية ـ يهودية في آن. الثابت، مع ذلك، أنّ الشاعر الالماني الكبير سخر من الحياتَين معاً، على قدم المساواة ربما، وهذا بعض السبب الجوهري في أنّ مكانته تجاوزت العقائد والأمم والجغرافيات. ثمّ ما الفائدة، حقاً، إذا كانت حصيلة التفكير اليهودي ذاك لا تخرج عن دائرة ضيّقة أولى، إلا لكي تدخل في دائرة ثانية أضيق، لا ثالث لها، هي عقدة الضحية؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى