مارتن هايدغر: في وسط الخير والشر
اصدر روديغر سافرانسكي في 1998 سيرة غنية ومثيرة للاهتمام بعنوان “مارتن هايدغر: في وسط الخير والشر” (هارفرد يونيفرستي بريس) سعت الى انصاف فيلسوف لاحقه الاجحاف. حاول سافرانسكي تناول افكار هايدغر باحترام كلّي وإن تركنا في رفقة خاتمة لا يمكن التغاضي عنها، تفضح الفيلسوف مخادعا محترفا ومتقلبا وكذابا في معظم الاحيان. يجعلنا كاتب السيرة نتجاهل علاقته بالنازيين لبرهات، مؤثرا التوقف عند صراعه والكنيسة الكاثوليكية وعلاقته بحنّة ارندت وتعامله مع معلمه ادموند هوسيرل. يظهر الالماني في المؤلف كيف ساعدت المحاججة الفلسفية المتأخرة هايدغر على الابتعاد عن المفاهيم العنصرية ليشقّ سبيلا الى تحقيق مثمر، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يتمحور على موقع الانسان في العالم التكنولوجي. في ما يأتي مقتطف من احد فصول هذه السيرة بعنوان “الطفولة والمدرسة” ننقله من الانكليزية الى العربية:
في حلول العام 1928 راسل هايدغر وكان صار فيلسوفا ذائع الصيت، المدير الأسبق للاكليريكية القائمة في مدينة كونستانس الألمانية حيث درس سنوات عدة. كتب متوجها اليه: “تظهر الفلسفة على نحو قادر وقوي الى اي حد يعدّ الانسان مبتدئا. في المحصلة، تؤكد النزعة الى المقاربة الفلسفية ان الانسان ليس سوى مبتدئ”.
يمكن اعتبار نصح هايدغر باختيار البداية مفتوحا على تأويلات كثيرة، بل يظهره متطلعا الى ان يكون معلما في مضمار البدايات. والحال، ان الفيلسوف بحث في فجر الفلسفة في اليونان القديمة عن مستقبل ماض، في حين امل ان يجد في الحاضر مطرحا تتجدد فيه الفلسفة وتولد من جديد في سياق مشوار الحياة. يتبلور مقتربه هذا في مفهومه لـ”الأمزجة”. ينتقد كل فلسفة تبشّر بأن بداياتها تكمن في الفكر. في الواقع يحاجج هايدغر انها تبدأ بالأمزجة والدهشة والخوف والقلق والفضول والغبطة.
بالنسبة الى هايدغر، يمثّل المزاج الصلة بين الحياة والفكر، وثمة شيء من السخرية في هذا الأمر، ذلك انه كان معارضا شديدا لكل تنقيب عن الصلة بين المسألتين. سبق لهايدغر ان بدأ احدى محاضراته التي تناولت ارسطو بالجملة الشاملة “ولد وعمل ومات”. على النحو عينه كان هايدغر يأمل ان يتحدّث عنه الناس. انطوى حلمه الاعظم من دون شك على ان يتسنى له ان يعيش للفلسفة وربما ان يتلاشى مع فلسفته في اللحظة نفسها. ترتبط هذه المسألة بالمزاج ايضا الذي يكتشف، ربما بسرعة اكبر من اللازم، اللجوج حاضرا، ويبحث تاليا عما هو مستتر. يمكن الحياة عينها ان تكون لجوجة. تدفع الأمزجة بهايدغر الى الإعلان ان الوجود صار “جليّا كمثل الوزر”.
كان مارتن هايدغر من هواة المبادرات الطنّانة ولا يمكن تاليا ان يدرك المرء على وجه التحديد ما اذا كان آنذاك يتحدّث عن الحضارة الغربية او عن نفسه، وما ذا كان “الوجود” الذي يشير اليه هو عينه الوجود او وجوده الشخصي بالكاد. غير انه في حال كان المبدأ القائل إن الفلسفة تنبع من الأمزجة وليس من الفكر، صالحا، فإن الأفكار ليست في مناوشة مع الأفكار الأخرى فحسب وانما ايضا في مستوى أعلى مع التقليد. ارتبط هايدغر بالتقليد من دون شك لأسباب كانت على صلة بحياته الشخصيّة. غير ان تلك الاسباب لم تسمح له تاليا بأن يختبر مساهمته الشخصية في العالم بوصفها هبة او بوصفها مجيئا واعدا. ان ما تطلّبه مزاجه، كان تحكما او ارتطاما.
غير ان العالم الذي شعر بأنه “ألقي” فيه لم يكن عالم مدينة ميسكيرتش في نهاية القرن المنصرم حيث رأى النور في السادس والعشرين من ايلول من العام 1889 وحيث امضى طفولته، والى حيث دأب يتمنّى العودة. عندما نُبذ من عالمه المنزلي الذي حماه من ادعاءات الحداثة، شعر فعلا بأنه متروك. ينبغي لنا ان لا ننسى ان المجيء الى هذا العالم لا يكتمل من خلال فعل الولادة. ثمة ضرورة الى ولادات عدة على مرّ حياة الانسان، ويمكن المرء الا يصل تماما الى هذا العالم، لكن لنكتف الآن بالولادة الاولى.
كان والد مارتن هايدغر قندلفتا في كنيسة سانت مارتين الكاثوليكية في ميسكيرتش وتوفي في العام 1924. تسنّت له رؤية ابنه يعلن القطيعة مع الكنيسة الكاثوليكية، غير انه لم يعش سنوات كافية ليرى الاختراق الذي صنعه على المستوى الفلسفي. توفيت والدته في العام 1927، وتقول الحكاية ان مارتن وضع على سرير نزاعها، مخطوط مؤلفه “الوجود والزمان”.
تحدّرت والدته من قرية غوغنغين المجاورة. عندما كانت الريح الباردة تهبّ من الاعلى من سهول جبال الالب في سوابيا، اعتاد الناس القول ان الرياح “تهبّ من غوغنغين”. اقام اسلاف هايدغر لجهة امه في تلك المنطقة على مرّ اجيال عدة، وفي العام 1622 تلقّى احد اجداده ويدعى جاكوب كيمب مزرعة من اوقاف احد الاديار في فالد.
كان اجداده من المزارعين الصغار ومن الحرفيين. قدموا من النمسا في القرن الثامن عشر وقد استطاع المؤرخون المحليون تحديد صلات قربى بين اسرتي ماجيرلي وكرويتزير. انبثق المبشّر الشهير من القرن السابع عشر ابراهام ا سانكتا كلارا من احدى هاتين العائلتين، اما المؤلّف الموسيقي كونستانتان كرويتزير فمن الأخرى. كان ثمة رابط بعيد بين آل هايديغير والمرشد الروحي في اكليريكية كونستانس ويدعى كونراد غروبير الذي سيصير لاحقا رئيس اساقفة فرايبورغ.
تقع بلدة ميسكيرتش الصغيرة بين بحيرة كونستانس وجبال الالب في سوابيا ومجرى نهر الدانوب الاعلى، وكانت في ما مضى منطقة قاحلة وفقيرة تجمع بين الطبع الجرماني الميال الى الكآبة المثقلة والمهددة وبين مزاج سوابيا الذي ينزع صوب البهجة والإنفتاح والحلم. يميل الطبع الجرماني الى التهكّم، في حين يقترب مزاج سكان سوابيا الى المنحى العاطفي. تمتّع هايدغر بشيء من الطبعين، وهو اختار شخصيتين عدّهما مرشدين، القصصي الجرماني جوهان بيتر هيبيل والشاعر الغنائي الالماني المتحدر من سوابيا فريدريتش هولدرلن. رآهما يتكوّنان في جواره الجغرافي قبل ان يجوبا العالم العظيم. قارب نفسه في المنظار عينه وتمنّى ان “ينفتح على فساحة السماء وفي الوقت عينه ان يتجذر في عتمة التربة”.
في العام 1942 وفي احدى المحاضرات، القى هايدغر قصيدة هولدرلن المرصودة للدانوب بعنوان “دير ايستر”. شبكت بمخطوط المحاضرة ملاحظة لم ترد في النص المطبوع: “كان كم المستحيل على الأرجح تفادي ان يصير هولدرلن الشخص الاكثر تأثيرا في الفكر النقدي لشخص ولد جدّه ابان كتابة نشيد ايستر، او لنقل ابان ولادته، على ما تفيد السجلات، في حظيرة غنم في احدى المزارع الواقعة في محاذاة ضفة النهر في وادي الدانوب الأعلى”.
هل يعدّ الأمر نزوعا صوب الأسطرة؟ انه بلا ريب محاولة من جانب هايدغر لكي يهب نفسه خلفية كان ليتمنى ان تكون خلفيته في الواقع. حاول ان يبلغ ابهة هولدرلن عند اقدام قصر فيلدينشتاين في اسفل ميسكيرتش. اقام آل هايدغر في هذا الحيز الجغرافي في القرن الثامن عشر. لا تزال المباني قائمة في هذه المنطقة حيث يفيد السكّان ان البروفسور الذي اعتمر قبعة اهل الباسك، اعتاد القدوم للزيارة. اجتذب احد الأديرة حيث مكتبة وفيرة وحظائر عدة، الفيلسوف هايدغر، واستمر ذلك في اعقاب انفصاله عن الكنيسة حتى. في العشرينات من القرن المنصرم وخلال عطلات الفصل الدراسي مكث اسابيع عدة هناك في احدى حجرات الدير. بين عامي 1945 و1949 حيث حظّر عليه التدريس، شكل دير بيرون المكان الوحيد حيث لم يتوان عن الظهور علنا.
في نهاية القرن التاسع عشر بلغ عدد سكان ميسكيرتش ألفي نسمة، التزم معظمهم اعمال الزراعة ناهيك بالحرف. انتشرت صناعات محلية هامشية ايضا، قام مصنع للبيرة وآخر لبكرات الخيطان، الى ثالث لإنتاج الألبان. احتضنت القرية مكاتب المقاطعة الادارية والمدارس ومكتبا للتلغراف واخر بريدياً واحدى المحاكم، فضلا عن مكاتب ادارة القصر المحلي والعقارات التابعة له. كانت ميسكيرتش جزءا من بادن وشكّلت هذه الحقيقة الجغرافية عاملا بالغ الأهمية في تبلور مناخها الثقافي.
من مطلع القرن التاسع عشر حلّ في بادن مناخ ليبيرالي حيوي. في العام 1815 اقرّ دستورها التمثيلي، وفي العام 1831 ابطلت الرقابة على الصحف، لتغدو بادن في العام 1848 معقل الثورة.
ترجمة ر. ر