تحديات الحداثة العربية
د.منذر خدام
في إطار فعاليات مهرجان جبلة الثقافي السادس، كلفتني جمعية العاديات في جبلة بتقديم وإدارة حوار مع الاقتصادي والمفكر اللبناني المعروف الدكتور جورج قرم، حول ” تحديات الحداثة العربية”.
تحدث الدكتور قرم على مدى ساعة كاملة عن ” تحديات الحداثة العربية” مركزا في البداية على ضرورة التحرر من اللغة المفهومية الغربية، والتأسيس للغة مفهومية عربية. فاللغة المفهومية الغربية، بحسب رأيه، لا تصلح لإنتاج معرفة حقيقية بقضايانا، فهي تشتغل على موضوعات وقضايا مختلفة عن تلك التي تشغلنا نحن العرب، لذلك فهو يدعو إلى استخدام مفهوم “المعاصرة”، بدلاً من مفهوم “الحداثة”، الذي يعطيه الدلالة الاصطلاحية ذاتها لمفهوم الحداثة، أي ” بناء نظام معرفي وإدراكي معاصر”. وقد رجع الدكتور قرم في تأسيسه لهذا المفهوم إلى ابن خلدون في مقدمته، التي أشار فيها، أكثر من مرة، إلى تبدل أحوال الشعوب والأمم مع مرور الزمن، وبتبدل نحلتهم في المعاش، ويعرض مقتطفا طويلاً نسبيا من المقدمة، يدعم به ما ذهب إليه في تضمين مصطلح “المعاصرة”.
دعا الدكتور قرم إلى تجاوز الثنائيات التي شغلت الحداثة الأوربية، وتجاوزتها، لكنها لا تزال تشغل الحقل الثقافي والفكري العربي، مثل العلاقة بين الحداثة والأصالة، التقليدي والمحدث، الداخل والخارج، التراثي والمعاصر، العروبة والإسلام، وغيرها . وقد توقف طويلا عند مسألة الإصلاح الديني، والعلمانية، واعتبرها قضايا غريبة عن واقعنا. مع ذلك فقد اعتبر إعادة الاجتهاد إلى المجال الديني المقدمة الضرورية للحرية الفردية، التي ركز عليها كثيراً في محاضرته، باعتبارها الشرط الضروري للحداثة، فحسب رأيه مادام النص الديني مسمطاً، ممتنعا عن القراءة الجديدة والمتجددة انطلاقا من احتياجات الواقع المتغيرة، فلا مجال للحديث عن أية حداثة عربية.
كان لافتا رفض الدكتور قرم ربط الحداثة بالديمقراطية، التي لا يعتبرها شرطاً للحداثة، واسترسل في تقديم الشواهد على ذلك، من واقع العديد من الدول الأوربية والأسيوية. وأكثر من ذلك فقد طالب بضرورة مهادنة المثقفين للسلطات الحاكمة، معتبراً أن دور المثقف يكمن في المساهمة في حصول التراكم الثقافي. لم يقل الدكتور قرم كلمة واحدة في محاضرته الشفوية عن علاقة الحداثة بالتنمية، و كما هو معلوم، فهو خبير اقتصادي مهم. وعندما وجه له سؤال حول ذلك، تجاوزه بسرعة لافتة.
لم يخفي الدكتور قرم ميوله الوحدوية العربية، لكنه لم يبين ما علاقة ذلك بالحداثة. بمعنى هل الوحدة العربية تشكل المدخل إلى الحداثة، أم العكس هو الصحيح. من جهة أخرى، لم يكن لافتا إعجاب الدكتور قرم بحزب الله اللبناني، وبأدائه العسكري والسياسي، فهذا موضوع مجمع عليه تقريباً، على نطاق واسع، في أوساط المثقفين، والرأي العام العربي، لكن اللافت هو رهانه على حزب الله، وحركة حماس، أي على قوى المقاومة الفاعلة في لبنان وفلسطين، كرافعة حداثية، من خلال إعلائهما لشأن العرب والمسلمين، وتركيزهما على أهمية الكرامة، والعزة العربية، في خطابهما السياسي والجهادي.
في محاضرة الدكتور قرم الشفوية الكثير من الأفكار الأخرى، مثل ضروة بناء عصبية عربية جديدة، بالمعنى الخلدوني، كإحدى روافع الحداثة العربية، لكن بصورة عامة غلب على المحاضرة الطابع النظري العام، وبعدت كثيرا عن أسئلة الواقع العربي، وهذا ما عبرت عنه أسئلة الحضور، وعبرت عنه بدوري صراحة في تعليقي الختامي على المحاضرة، وهذا ما سوف أحاول طرحة في هذه المقالة.
بداية يمكن موافقة الدكتور قرم على أن مفهوم “الحداثة” ، أو مفهوم “المعاصرة” الذي يحبذ استخدامه، له الدلالة الاصطلاحية التي أشار إليها، أي :بناء نظام معرفي وإدراكي جديد، في جوهره نقدي تجاوزي، لكنه تفاعلي جدلي، يحجز في التاريخ ما هو مفوت، وفقد ضرورته، ويفسح في الحركة، وأداء الدور، لما هو جديد، وضروري. والمفوت هنا لا يقتصر على القديم الذي تجاوزه الزمن في ضرورته، فحجزه التاريخ، في ذاكرته الواعية أو اللاواعية، لا فرق، بل ما هو جديد أو متجدد، لكنه لا يؤدي دورا تجاوزيا في الزمن، بل نكوصياً، ارتدادياً، أو يرهن حركة الواقع لقضايا لم يحن أوانها، ولا تشكل ضرورة في حركة الواقع. المفوت سواء كان قديماً، أو جديداً، يجهد حركة الواقع، يربكها ، يحاول إعادة توجيهها في غير وجهتها الضرورية. يلخص ما ذهبنا إليه القول بأن الفكرة الصائبة، هي صائبة في زمنها فقط، تؤدي دورا تقدميا تجاوزيا فيه. لكنها ما إن تنتقل إلى زمن آخر، لا تشكل ضرورة في منطقه، حتى تصبح خاطئة، تجهد حركة الواقع، تؤدي دوراً رجعيا فيه.
لا يمكن موافقة الدكتور قرم موقفه الرافض بحدة للغة المفهومية الغربية، فالمفاهيم ليس لها وطن، بل غرض. المشكلة لا تكمن في المفاهيم ذاتها بل في كيفية استخدامها. بصورة عامة ينبغي اتخاذ موقف نقدي من المفاهيم، وليس رفضها لمجرد كونها غير عربية،أي ينبغي إعادة تكييفها لتصلح أداة تحليلية لقضايانا. من الجيد أن تكون لدينا اللغة المفهومية الخاصة بنا، لكن ما العمل إذا كان التفاوت التطوري بيننا وبين البلدان الرأسمالية المتطورة، منحها ميزة السبق في ابتكار اللغة المفهومية، واستخدامها في الإجابة عن أسئلة قضايا التطور لديها.
الإشكالية الرئيسة في المحاضرة، جاءت من عنوانها، فالعرب ليس لديهم حداثة، حتى يكون أمامها تحديات، بل تحديث، وثمة فرق كبير بين الحداثة والتحديث. ولذلك بدت المحاضرة وكانها تخاطب واقعا آخر. كان من الأفضل الحديث عن تحديات التحديث العربي، أو معوقات دخول العرب في الحداثة. لكن في كلتا الحالتين كان سياق المحاضرة سوف يختلف.
ما لدى العرب هو تحديث وليس حداثة، والتحديث لا يتطلب بناء نظام معرفي وإدراكي جديد، بل مظاهر جديدة، إنه تقليد للغرب في مظاهر حضارته، لا في عمقها، في بعض وسائل عيشه، لا في أنماط تفكيره. والتحديث لا يعني بالضرورة تقدم نوعي، بل تراكم كمي قد يفضي إلى تحول نوعي، وقد لا يفضي، بسبب كون هذا التراكم الكمي ليس محكوما بضرورات الداخل العربي، بل أيضاً وقبل كل شيء بضرورات الخارج. فالتحول النوعي يعني بالضرورة قطع جدلي، ليس مع الماضي المحلي فقط، بل مع الخارج أيضاً بما يمثله من قوة توجيهية ومصالح غير متبادلة، إنه تحول من التحديث إلى الحداثة. بالضبط هنا يطرح تساؤل في غاية الأهمية: كيف يمكن تحويل التحديث إلى حداثة؟
إذا التحديث هو الفعل الجاري في البلدان العربية، وهو يشمل وسائل عيش السكان ككائنات بيولوجية، لا وسائل إنتاج هذا العيش التي تجعلهم كائنات إنسانية، إنه تنمية لوسائل الاستهلاك،لا لوسائل الإنتاج، تنمية للحجر، لا للبشر. هذا النوع من التنمية التحديثية له مساران ممكان: الأول منهما هو أن يستمر كما هو لكن بوتائر متباطئة، بالعلاقة مع وفرة الموارد الريعية، وعند حد معين من عدم كفاية هذه الموارد، ينفجر المجتمع ويرتد أعضاؤه إلى هويات دينية وإثنية، أو قبلية وعشائرية متناحرة. وقد تصبح الموارد نادرة ليس بندرة مصادرها، بل بسوء توزيعها وإدارتها، مما يولد استقطابات حادة في المجتمع بين فئة قليلة تستحوذ على القسم الأكبر من نواتج التحديث، وأغلبية ساحقة تلهث وراء لقمة العيش. هذا المسار هو الجاري عمليا في مختلف الدول العربية، لأنه المسار الذي يلبي احتياجات الاستبداد، فهو شرطه الضروري في البلدان العربية، ويلبي احتياجات الخارج الذي يعتبر المنطقة العربية جزء مهما من مجاله الحيوي. التنمية وفق هذا المسار هي تنمية التخلف، وتحديثه.
المسار الثاني وهو أن يشكل التحديث ضغطاً تراكميا على كيفيته، فيحولها من تنمية للحجر إلى تنمية للبشر، ويعيد بالتالي تكوين الفواعل الاجتماعية بما يجعلها القيمة على مصيرها، الصانعة لتاريخها. هذا المسار سوف يتطلب بالضرورة تغييرات جوهرية في طبيعة النظام السياسي، وفي طبيعة وتوجهات التنمية.
إن العقبة الكأداء، والمشكلة الأساس في غربة العرب عن الحداثة، وتخلفهم عن دخول العصر بمتطلباته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية تكمن في طبيعة النظام السياسي الاستبدادي العربي.
الدكتور جورج قرم لا يجد أي رابط بين الحداثة والديمقراطية، لأنه يعتبر هذه الأخيرة نتاج للحداثة وليست سببا لها. ويعرض شواهد على صحة ما ذهب إليه من تاريخ الحداثة الأوربية وغير الأوربية، مثل ألمانيا في عهد بسمارك، ومثل كوريا الجنوبية، ومثل الصين حالياً وغيرها. غير أن الدكتور قرم لم يلحظ الفارق بين الأنظمة السياسية التي ساقها كشواهد والأنظمة السياسية العربية، إنه الفارق بين النظام الدكتاتوري والنظام الاستبدادي. إن التشابه الظاهري بين بعض سمات النظامين، خصوصا في الحقل السياسي، جعلت كثيراً من الباحثين والمفكرين والمثقفين العرب لا يفرقون بين الاستبداد والدكتاتورية.
الدكتاتورية نظام سياسي يتمحور حول الدولة، في حين النظام الاستبدادي يتمحور حول السلطة. في الحالة الأولى يعمل الدكتاتور على بناء الدولة، ولتحقيق هذا الهدف المركزي، فهو يكرس جهد السلطة لتنمية المجتمع في الحقل الاقتصادي والعلمي والعسكري والقانوني، وفي جميع الجوانب التي تجعل الدولة قوية ومهيبة. التنمية التي تنتهجها الدكتاتورية هي تنمية حقيقية تركز على الإنتاج وليس على الاستهلاك، على البشر بالتوازي مع الحجر، ولهذا الغرض فهي تعمل على خلق بيئة استثمارية جاذبة، تقوم أساساً على الحرية الاقتصادية والتنافس في بيئة تشريعية وقانونية مضبوطة. في مثل هذا النظام وبعد حد معين من التراكم التنموي الكمي، والتحول النوعي في البنى الاجتماعية بتراجع طابعها الأهلي، لصالح نمو طابعها المدني، يصبح التحول في المستوى السياسي أمرا لا مفر منه، وهذا ما حصل بالفعل في جميع الأنظمة الدكتاتورية، وهذا ما سوف يحصل في الصين في المستقبل. والتحول هنا عملية موضوعية وليس إجراء فوقياً، فالتراكم التنموي الجاري، يولد نظاما في المصالح، يتجاوز إمكانية الغلاف السياسي الخارجي الضابط للسلطة على احتواء التراكمات الحاصلة في المجتمع، فتدفعه للتحول إلى شكل من أشكال الديمقراطية.
أما بالنسبة للنظام الاستبدادي، فهو يتمحور كما ذكرنا حول السلطة، لذلك يكرس المستبد كل جهده، لتقوية السلطة، سواء بتقوية الأجهزة الأمنية وتمكينها، أو بإضعاف المجتمع بإنعاش جميع البنى الأهلية وتمكينها في حدود مواجهتها للبنى الأهلية الأخرى، وتحويل البنى المدنية إلى هياكل فارغة، تؤدي دور الأجهزة تجاه منتسبيها وتجاه السلطة. التنمية التي يقوم بها النظام الاستبدادي هي تنمية ريعية، تركز على قطاع الاستهلاك، وعلى القطاعات الخدمية سريعة الربحية، وكذلك على ما يسمى بمشاريع الأبهه، المستنذفة للتراكمات المالية. النظام الاستبدادي هو نظام فاسد، الفساد فيه هو أسلوب في إدارة المجتمع، وليس مجرد ظاهرة ترافق أي عمل تنموي. وفي المحصلة فإن نتائج هذا النوع من التنمية تصب في جيوب طغمة من بطانة المستبد، لترحل بعد ذلك إلى الخارج. النظام الاستبدادي تغلب عليه السمة الذاتية الإرادوية، تستنسخ فيه مستويات الإدارة المختلفة للسلطة صورة المستبد في التعامل مع موضوعاتها. في ضوء السمات السابقة الذكر يصبح مسار التحول من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي مساراً انفجارياً، في الغالب الأعم، يحتاج إلى بيئة دولية مناسبة. وحتى في هذه الحالة وخصوصا في الحالة العربية يرتد التحول الديمقراطي ليستند إلى البنى الاجتماعية الأهلية، أقوامية كانت أو أهلية، يحاول التوليف بينها بصورة توافقية، على حساب منطق الدولة. وسبب هذا الارتداد يكمن في البنية التركيبية الأهلية للمجتمع،و في الخوف من الدولة، الذي زرعه الاستبداد في نفوس الناس على مدى عقود من السنين، وتغييب فكرة المواطنة، لصالح فكرة الانتماء إلى الطائفة والعشيرة والعائلة وغيرها من بنى أهلية.
إن التفريق بين النظام السياسي الدكتاتوري، والنظام السياسي الاستبدادي، مسألة في غاية الأهمية لفهم طبيعة الأوضاع العربية، وصعوبة دخول العرب في الحداثة. وفي سياق التفريق بين النظامين تبرز أيضاً مسألة غياب عصبية عربية بالمعنى الخلدوني، على الرغم من الظروف الموضوعية، والتحديات الكبيرة التي واجهت ولا تزال تواجه العرب، في أمنهم وفي غذائهم، وفي مائهم، وفي ثروتهم، وبالتالي في وجودهم. والعصبية الخلدونية المقصودة في الظروف الراهنة ليست سوى مشروع نهضوي عربي عام، أو مشروع تنموي قطري يتمحور حول فكرة بناء الدولة الحديثة المزدهرة القوية، بأفق قومي. وإذا كانت المشاريع القومية قد جربت حظوظها في صيغتها الناصرية أو البعثية، أو في صيغة القومين العرب، وأفضت إلى أسوأ استبداد عرفه العرب منذ بدء ما يسمى بعصر النهضة العربية الحديثة، بسبب تجاهلها لأهمية الحرية والديمقراطية. فإن فرصة وجود مشاريع نهضوية قطرية ديمقراطية بأفق قومي لا تزال في حيز الممكن بالقوة.
لا نغالي إذا قلنا أنه لم يتهيأ لأمة من الأمم، في العصر الحديث والراهن، من مقومات النهوض والحداثة، مثلما توفر للعرب مجتمعين، أو مثلما تهيأ لبعض دولهم المركزية الأساسية. فالموقع الجيوسياسي بين القارات الثلاث فريد من نوعه، ، والثروة الريعية الوفيرة، والتراكمات المالية الناجمة عن الثروة الريعية كبيرة جداً، والقوة البشرية الكبيرة،وكثرة العلماء العرب المهاجرين والمقيمين، والثقافة والتاريخ المشتركين، يضاف إليها التحديات الكبيرة التي خلقها زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وبروز مشاريع إقليمية لا تخفي مطالبها تجاه العرب، جميعها عوامل للنهوض والتقدم وبالتالي للحداثة. وبدلاً من ذلك تحولت هذه المقومات، بفضل الاستبداد العربي إلى عوامل قوة للآخرين، وتخلف للعرب. هل سأل حاكم عربي نفسه، (فهو لا يسأل بالطبع) لماذا استطاعت إيران خلال نحو ثلاثة عقود أن تتحول إلى دولة قوية، علمياً وتكنولوجياً، واقتصادياً، وثقافياً، وسياسياً، على الرغم من الطابع الديني لنظامها السياسي، بل بسببه. لقد نجحت إيران المنهكة بسبب الحرب الظالمة التي شنها صدام عليها تلبية لمصالح غير عراقية، وغير عربية، أن تفتح نظامها السياسي على شكل من أشكال الديمقراطية، وان تجمع الإيرانيين في غالبيتهم الساحقة على عصبية خلدونية، يكثفها مشروع تنموي طموح لكنه واقعي، يقوم على العلم والثقافة، وتوظيف جميع ثروات البلد والمجتمع في خدمة هذا المشروع. بالطبع إيران تملك مقومات كبيرة للنهوض والتقدم، مثل الموقع الجيوسياسي، والثروة الريعية، والكتلة البشرية، وهي مقومات كانت متاحة لإيران في عهد الشاه، لكنها لم تستخدم لصالح نهوض إيران. فقط في عهد الجمهورية الإسلامية، استطاعت إيران أن تواجه التحديات التي فرضت عليها، من حرب ظالمة استنزفتها، وحصار غربي خانق، وتحولها إلى أسباب للتقدم والقوة والحداثة. ليس لدي أدنى شك في أن التراكمات النهضوية الجارية في إيران سوف تزيل مع الزمن ما يمكن أن يشكل إعاقة لها في المستقبل، سواء على صعيد المجتمع، أو على صعيد الفقه الديني، أو على صعيد النظام السياسي،و إن إرهاصات ذلك بدأت في الظهور. ثمة مغالطة كبيرة لدى بعض الدارسين والمهتمين بالشأن الإيراني، الذين يربطون بين الحراك السياسي الذي شهدته إيران، في الفترة الأخيرة، بين من يسمون بالإصلاحيين والمتشددين، والدخلات الخارجية. فالخارج بلا شك يحاول استغلال الأحداث، لكن ما يجري في إيران هو نوع من التنافس بين رؤيتين سياسيتين، كلتاهما تتمحوران حول فكرة بناء الدولة الإيرانية الحديثة، وإزاحة ما بدأ يظهر على السطح من معوقات لها في طبيعة النظام السياسي القائم.
ثم للنظر إلى تركيا، وهي نموذج نهضوي حداثي آخر، لكنه مختلف، ففي شطر منه حصل في ظل الدكتاتوريات العسكرية، وفي شطر آخر في ظل الديمقراطية، لكن بقي من حيث الجوهر مشروعاً متمحوراً حول فكرة الدولة. ما كان من الممكن ان تؤدي تركيا هذه الأدوار السياسية اللافتة في المنطقة، وتحديدا تجاه القضايا العربية، لولا رؤيتها الإستراتيجية لأهمية المجال الحيوي العربي لاستمرار مشروعها النهضوي. من هذا المنطلق وحده يمكن فهم حدة موقفها من إسرائيل، التي تربطها بها مصالح كبيرة ومتنوعة، ويمكن فهم خروجها عن بيت الطاعة الأمريكي، وتوجيهها رسالة ذات دلالة بالغة لأوربا بأنها لا تستجدي الانضمام إلى الإتحاد الأوربي، ولا ترض بأن تكون زيلا فيه، فلديها خيارات أخرى لا تقل أهمية عن الاتحاد الأوربي.
ثم للنظر إلى المشروع الصهيوني، المزروع في قلب الوطن العربي، كيف استطاع أن يحول الخرافة والأسطورة، إلى عصبية خلدونية، يترجمها على الأرض نهضة علمية وتكنولوجية واقتصادية لافتة، مكنته في أن يقف في وجه النظام السياسي الرسمي العربي ويهزمه. وإن القول في أن دعم الدول الغربية لهذا الكيان كان العامل الحاسم في نجاحه وبقائه، هو قول فيه الكثير من المغالاة. وعموما هذا سبب آخر، كان ينبغي توظيف التحدي الذي مثله أمام العرب، لنهوضهم وتقدمهم، وليس سبباً لتخلفهم وضعفهم. هذه نماذج نهضوية إقليمه مجاورة تتنافس على مجالنا الحيوي، وقد نجحت إلى حد بعيد، وهناك العشرات من النماذج الأخرى في مناطق مختلفة من العالم. ويبقى السؤال لماذا يفشل العرب وينجح غيرهم؟ لنبحث عن الجواب في طبيعة النظام السياسي العربي، لا في غيره، فما هو كامن في غيره يندرج في إطار التحديات التي ينبغي أن تحفز العرب على النهوض والتقدم وليس العكس.
في محاضرة الدكتور جور قرم كان لافتاً تركيزه على أهمية الحرية الفردية، كمدخل إلى الحداثة. ونحن بدورنا نوافقه على ذلك، كما نوافقه على رؤيته العامة للعلمانية.
الحرية صيرورة تكون إنساني، إنها عملية تحول من وضعية الكائن البشري إلى وضعية الكائن الإنسان، بما يعنيه ذلك تحول عميق في البيئة الموضوعية المادية والثقافية المحيطة بكلا الوضعيتين. لذلك تعد الحرية من جملة الحقوق الطبيعية للإنسان، مثل الحق في الأكل والشرب، والحق في العمل، والحق في بناء أسرة، وغيرها. الحرية عملية مولدة لغيرها من العمليات، فبدون الحرية لا مسؤولية، ولا محاسبة. وبدون الحرية والمسؤولية والمحاسبة تسود شريعة الغاب. في غياب الحرية يسلطن الخوف، وتموت إبداعات ومبادرات الناس، ويصبح الطريق إلى التخلف والضعف والهزيمة ذو اتجاه واحد.
لقد كتبنا الكثير حول اهمية الحرية بالنسبة للتطور العام لأي بلد، ولا نريد تكرار ذلك، باستثناء التأكيد على أن الحرية لا تشترطها سوى الحرية ذاتها، بغض النظر عما تولده في المجتمع من تفاعلات. إنها إطلاق لقوى المجتمع الخلاقة، التي من خلال تفاعلها تتحدد فاعلية أعظمية لقوى التقدم الاجتماعي.
إن تخصيص الكلام عن الحرية، وإبراز أهميتها هو من قبيل وضع المفتاح الأول والرئيسي للتقدم الاجتماعي باليد، أما المفتاح الثاني فهو الديمقراطية، وهي أيضا من الموضوعات التي اشتغلنا عليها كثيراً من أجل إيجاد الصيغة الملائمة لمجتمعنا. فإذا كانت الحرية ذات قيمة عامة، فإن الديمقراطية شديدة التميز. إنها بناء نظام في المصالح يتيح فرصا متكافئة لبروز جميع تناقضات المجتمع، وصراعها، وحلها بطريقة سلمية وقانونية. في إطار هذا النظام تمارس القوى الاجتماعية حقها في الاختلاف، وحقها في الدفاع عن كونها مختلفة. الديمقراطية، وعلى الرغم من ضرورة تكثيف حضورها في الحقل السياسي، فإنها تتجاوز ضرورة حضورها في هذا الحقل، إلى الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها من الحقول. إنها ببساطة ركن أساسي من أركان الحداثة، لا تكون هذه الأخيرة بدونه، ولذلك كان لافتاً تجاهل الدكتور جورج قرم في محاضرته عن الحداثة لأهمية الديمقراطية، واعتبارها نتيجة للحداثة، وليست سببا من أسبابها، في جوابه على أحد الأسئلة.
أما بالنسبة للعلمانية ورفض الدكتور قرم لدلالتها الاصطلاحية المتكونة في السياق الأوربي، والوظيفة التي أدتها في ذلك السياق، فهذا أمر نتفق به معه. غير أن الرفض لوحده لا يكفي، خصوصا وان العلمانية هي من الموضوعات المطروحة بكثافة في الحقل الثقافي والسياسي في البلدان العربية، وتشكل حداً معياريا لتمايز جميع أطياف الإسلام السياسي النشيط والفاعل في الوقت الراهن، وكذلك لجزء كبير ومهم من الجمهور العام. الموقف من العلمانية من وجهة نظرنا لا يتحدد من خلال فصل الدين عن الدولة، والمدرسة عن الدين، كما جاء في السياق الأوربي، فالدولة العربية ليست دينية، والدين لا يسيطر على المدرسة، بل على العكس، كان الدين ولا يزال يؤدي وظائف متنوعة في خدمة السلطات الزمنية، تستخدمه لتأمين الغطاء الأيديولوجي لسياساتها. العلمانية العربية إذا جاز التعبير، أو العلمانية المطلوبة في البلدان العربية، هي إتاحة فرصة للزمني أن يتنافس مع السماوي على قدم المساواة، إنها فتح خيارات أمام القوى الاجتماعية المختلفة لتجيب عن أسئلة الواقع بغض النظر عن منطلقاتها الفكرية والأيديولوجية. العلمانية المطلوبة هي إلغاء للأحادية في التفكير، وفي السياسة، وفي البناء الاجتماعي، وفي النظرات ومنظومة القيم. المشكلة لا تكمن في الدين ، بل في بعض القراءات المتطرفة للدين . بفضل هذه القراءات المتطرفة، وتلك التي تختزل الدين في جانبه الطقوسي ، تم القضاء على الروح النهضوية في الدين، وتحويله بالتالي من رافعة ممكنة وقوية للتقدم إلى أداة من أدوات التخلف، في يد بعض القوى السياسية الفاعلة. لقد استطاع حزب الله، وحركة حماس في فلسطين، كحركات تحرر وطني، أن تقدم نموذجاً من العصبية الخلدونية، وتوظيفها بصورة ناجحة ضد العدو الصهيوني. وأكثر من ذلك فقد قدم حزب الله نموذجا في الخطاب السياسي، وفي التعامل السياسي، زاوج فيهما بصورة لافتة بين التشدد العقائدي، والبراغماتية، وهو بذلك تجاوز الكثير من الأحزاب السياسية غير الدينية. مع ذلك، ورغم كل ما قدمه حزب الله من نموذج ناجح كحركة تحرر وطنين وكحزب سياسي، فهو لا يرقى إلى مستوى أن يشكل رافعة حداثية، طالما هو منغلق على نفسه كحركة وكحزب طائفي. من الأهمية بمكان أن يتحول حزب الله، أو تنظيمه المقاوم على الأقل، إلى حركة وطنية، تتجاوز غلافه الطائفي.
الدين هو معطى أصيل وعميق في حياة العرب، في ثقافتهم، وفي حياتهم الاجتماعية، وفي منظومتهم القيمية، وهو ينوس بين: وادفع بالتي هي أحسن، ولا إكراه في الدين، وبين واقتلوهم حيثما ثقفتموهم. وبالانحياز إلى الطرف الأول من هذه المعادلة وقراءتها بصورة نهضوية حداثية، كما هي في جوهرها، يمكن تشكيل عصبية بالمعنى الخلدوني، تدخل العرب في العصر بصورة ديناميكية. لكن لماذا تنجح القراءات السياسية للدين من موقع الطرف الآخر(واقتلوهم حيثما ثقفتموهم)، في حين تتعثر كثيراً قراءته من موقع الطرف الأول المعبر أساسا عن جوهر الدين؟ لنبحث عن السبب لا في الدين ذاته، بل في النظام السياسي الاستبدادي العربي. إن قتل الروح السياسية في المجتمع، وتعميم القمع، وتخريب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والإفقار الممنهج للأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع لصالح طغمة ضيقة من زبانية السلطات السياسية، ونهب الثروة الوطنية وتهريبها إلى الخارج، والفشل الذريع في المسائل الوطنية، خصوصا أمام العدو الصهيوني، والاذعان المذل للهيمنة الأمريكية، والمشاركة في حروبها الظالمة في العراق وأفغانستان، وغيرها كلها عوامل ساهمت في خلق بيئة ملائمة للطرف. النظام السياسي الرسمي العربي الاستبدادي، هو المسؤول أولاً وأخيراً عن التطرف الذي تشهده ساحة العمل السياسي في البلدان العربية، وإن المخرج الوحيد من كل ذلك يكمن بالضبط في تعميم مناخات الحرية والديمقراطية.
وبالعودة إلى محاضرة الدكتور جورج قرم الهامة، أود أن أشير إلى أن حوارنا مع ما تضمنته أو أغفلته، لا ينتقص من أهمية الدكتور قرم كمفكر وباحث عربي كبير، ومن أهمية وجدية ما قدمه للثقافة والفكرية العربية. وإن العديد من الأفكار التي بدت غير واضحة في محاضرة الدكتور قرم، أو بدت غير مقنعة، بدت واضحة ومقنعة في الحديث المطول الذي جرى على طاولة الطعام، حيث توضحت المقاصد، وكانت مشروحة بصورة جيدة في النص المكتوب، كما قيل على الطاولة.
كلنا شركاء