صفحات الناس

من أجل دورات في حقوق الإنسان لعموم المجتمع

null

بكر صدقي

بالتعاون بين وزارة الداخلية السورية ومعهد جنيف لحقـوق الإنسان، أقيمت في دمشق دورة تدريبية على حقوق الإنسان، شارك فيها ضباط وأفراد من أجهزة الشرطة، كما أفادتنا الصحف المحلية (تشرين 26/5/2008). فإذا تجاوزنا البلاغة اللفظية المعتادة حول احترام الدستور والتشريعات السورية لحقوق الإنسان، على ما جاء في الخطاب الافتـتـاحي لمدير إدارة الأمن الجنائي والذي يعطي الانطباع بأن الدورة هــذه نافـلة، ما دام كل شيء بخير في ميدان احترام السلطات لحقوق الإنسان، بل ربما كان الأصح أن يقيم ضباطنا دورات في حقوق الإنسان لزملائهم في بلدان الغرب

أقول إذا تجاوزنا هذه البلاغة اللفظية المحفوظة سليقةً على ألسنة كل مسؤول سوري بمن فيهم النواب المستقلون في مجلس الشعب، يبقى لدينا أن إقامة دورة من هذا النوع هو إنجاز حقيقي يشكر عليه معهد جنيف لحقوق الإنسان، من غير أن توحي كلمة إنجاز بأوهام عن تقدم ملموس، مهما كان صغيراً وبطيئاً، يمكن أن نتوقعه في مجال احترام الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ذلك أن دورات أخرى مكلفة أنجزتها مؤسسات وأجهزة سلطوية في الدول الأوروبية لتدريب بعض العناصر على وسائل حجب المواقع الإلكترونية أو التنصت على الهواتف النقالة حتى في وضعية الإغلاق التام.

وهذه، والحق يقال، دورات ذات طبيعة تكنولوجية متقدمة بالقياس إلى دورات القرن الماضي التي كانت تهتم بوسائل التعذيب البدائية لانتزاع الاعتراف بأي جريمة.

لعل الإنجاز يكمن في الخبر ويقتصر عليه، ذلك أن ضباطنا الأمنيون أكثر ذكاءً من أن ينساقوا وراء «كلام نظري»، في الوقت الذي تعلمهم فيه حياتهم العملية أن الممارسة هي الأساس. وتقول فلسفة الممارسة، في المجال الذي نتحدث فيه، إن «هذا الشعب ما بيجي غير بالعصاية» وإن «الزيتون ما بيحلى إلا بالرص»… فيأتي خبر الصحيفة الرسمية ليعلن أن ثمة «إنسانا» وأن له «حقوقاً» يجب أن تحترم، ويذكّرنا بالدستور السوري الذي يتوافق في كثير من بنوده المنفردة، مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، برغم تقييدها جميعاً باشتراطات تلغيها عملياً، وبرغم أنك لن تجد نسخة من ذلك الكراس الذي صدر في 1972 في أي مكتبة، وكأنه البيان الشيوعي في عهد المكارثية في الولايات المتحدة.

فالخبر يقوم على افتراضات ضمنية، منها تمتع مفهوم حقوق الإنسان بقيمة إيجابية، وهذه ليست بديهة عندنا: في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي تم إعدام خمسة أشخاص في مدينة حلب، أدانتهم محكمة عسكرية بارتكاب سلسلة من عمليات السطو المسلح والقتل في صيف العام 2007. وقد تم تنفيذ حكم الإعدام في ساحة عامة على مرأى من جمهور، ضم فيمن ضم أهالي ضحايا العصابة.

سجلت وسائل إعلام إلكترونية وغيرها «ارتياحاً شعبياً عاماً» لتنفيذ عقوبة الإعدام، بل سجل كثير من متصفحي أحد المواقع الإلكترونية السورية أن الإعدام شنقاً «لا يشفي الغليل» وطالبوا باستخدام الخازوق أو تقطيع الأوصال، وسجل هجوم عنيف على مفهوم حقوق الإنسان وتبجيل بقانون الطوارئ

الهدف من هذا الاستطراد هو أن مفهوم حقوق الإنسان كقيمة إيجابية ليس بديهياً في ثقافتنا العامة، بل الأصح أنه مفهوم غريب و«دخيل»، ومثله بل قبله، مفهوما «الحق» و«الإنسان». لدينا فكرة عن «حقوقنا المغتصبة» في فلسطين والجولان، وأخرى عن «حقوق العمال والفلاحين» أو «الطبقات الشعبية» كما يفضل البعض هذه الأيام، ولكن ليس لدينا مفهوم حقوق الإنسان أو الفرد.

مفهوم الفرد مرذول لدى كل من الماركسيين والطغاة والعشائر، ومفهوم الإنسان ينتمي إلى الفلسفة المثالية المرذولة من الطائفة الأولى، في حين تجهلها الطائفتان الأخيرتان، ويكاد الإنسان يغيب تماماً في العقيدة القومية خلف بخور «الأمة» ومصالحها وحقوقها و«مشروعها» و«أرضها».. ويجمع مفهوم «الأرض» خاصةً حساسيات فلاحية إلى الحساسية الإيديولوجية القومية، إلى يسار يزداد رثاثةً بتفاقم معاندته أمام تيار التاريخ الجارف، لينبت طبقات من الشِعْر والتخلف والاستبداد… أما التيار الديني فالفرد عنده عبد ينقسم إلى مسلمين وأهل ذمة، يتفاوتان بداهةً في الحقوق

إلى ذلك يمكن إلقاء نظرة إجمالية سريعة على الممارسة الفعلية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان عندنا، وهي ظاهرة جديدة نمت في سنوات العقد الأول من القرن الحالي، بعد إرهاصات صعبة في تسعينات القرن العشرين.

لقد ساد في ممارسة المنظمات المهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان وجه يكاد يقصر نشاطها على الميدان السياسي، فبات بؤرة استقطاب لطامحين بلعب دور سياسي تحت يافطة حقوقية، فضلاً عن مثالب جانبية أخرى لدى بعض أفراد تلك المنظمات، ليس هذا المقال معنياً بالخوض فيها.

كاد الوجه المشار إليه أن يحوّل العمل الحقوقي إلى مجرد امتداد للعمل السياسي المعارض، خاسراً بذلك فرصة توطين ثقافة حقوق الإنسان لتصبح جزءاً من الثقافة العامة للناس. صحيح أنها مهمة شاقة وتتطلب صبراً وزمناً طويلاً، لكن البداية الخاطئة تزيد الأمور تعقيداً وصعوبة.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى