كيف قمنا بالثورة
عزيز نيسن
حقيقة, لو كنتم منصفين قليلاً, لأدركتم واعترفتم, بأننا الأصحاب الشرعيون للسلطة الحالية. وأما عن سبب عدم تواجدنا في السلطة وفي إدارة دفة الحكم فهذا يرجع لسوء حظنا من جهة, ولخطأ بسيط ارتكبناه من جهة أخرى.
لقد قمنا بالثورة واستلمنا السلطة, ولكن, ومع الأسف, لم يسمع بثورتنا أي إنسان, وكما هو معلوم, لا يمكن أن تنجح ثورة ما وتستمر ما لم تسمع بها الجماهير العريضة.
فكروا قليلاً واستنتجوا, كم هو مأساوي موقفنا, في ليلة واحدة قمنا بالثورة وسقطت السلطة في أيدينا, ولكننا لم نستطع إخبار أحد من الجماهير باستلامنا للسلطة.
ثقوا تماماً بأننا حسبنا كل شيء بدقة تامة, لدرجة أننا أخذنا بعين الاعتبار أصغر الأمور وأقل الاحتمالات, كما أنني واثق من أنه لم تدرس ثورة قامت قبل هذا التاريخ مثلما درسنا ثورتنا, إذ إنها تمت دون أخطاء. غير أننا نسينا أمراً بسيطاً للغاية … النظر إلى التقويم. نعم, لو أننا نظرنا إلى التقويم لما غاب عن أذهاننا بأننا في منتصف شهر تموز, ويعني ذلك أن الجو في هذا الوقت بالذات سيكون ماطراً في أوفريكا, ربما يكون الهيجان والاضطراب الذي أصاب الأصدقاء الذين في لجنة قيادة الثورة هو الذي منعنا نم الاستماع للنشرة الجوية من الإذاعة. ولم نفكر بالاتصال بإدارة الأرصاد الجوية لمعرفة أحوال الطقس.
هل تعلمون ماذا يعني هطول الأمطار ولو بشكل طفيف في أوفريكا في منتصف تموز ؟! إنه يعني توقف الحياة والشلل التام للبلد … حالما تهطل أول قطرة ماء من السماء, تتعطل الإذاعة وشبكة الهواتف وتقطع الماء والكهرباء والغاز وتتعطل حركة البواخر والقطارات والطائرات والباصات والسيارات. ولكننا ولسبب وجيه وجدنا أن الفرصة سانحة للقيام بالثورة في منتصف شهر تموز, وهذا السبب هو الحرارة العالية التي تعم أنحاء أوفريكا مما يجعل عاصمتنا متراك بوليس خالية من السكان إلا بعض الفقراء الذين يبحثون لقمة العيش. أما الوزراء ورجالات الدولة والشخصيات المعروفة في أوفريكا وعائلاتهم المحترمين الذين لا يتحملون حرارة الطقس, فهؤلاء يذهبون إلى المدن الجبلية أو المناطق الريفية ولا يبقى أحد في الدوائر الحكومية المتواجدة في متراك بوليس عاصمة أوفريكا إلا بعض البوابين النائمين على كراسيهم أمام كل دائرة. أي أن الدوائر الحكومية تكون خالية تماماً. في وضع كهذا لا يبقى على الثوار, كي يستولوا على الحكم, إلا فتح الغرف والدخول إلى الدوائر. يستطيع كل مواطن في وت كهذا – إن كان يشعر بالملل – القيام بثورة. إذ يكفي أن يقول “هيا يا أصدقاء لنعمل ثورة“.
مازالت الدهشة تصيبني, كلما تذكرت ما حدث, فكيف نحسب كل شيء وننسى هطول المطر في منتصف شهر تموز في أوفريكا … أي حماقة هذه يا إلهي؟!
وزعت المهام على أعضاء الثورة كما يلي: أنا والعميد عبد الحجاب والملازم أول عبد البوَّل سنهاجم الإذاعة. الفريق أول حسين ماتراكي باشا مع ثلاثة من أصدقائه سيهاجمون مطعم الطعام اللذيذ, القائم مقام محمد مرديباني مع أربعة من أصدقائه سيهاجمون مركز البريد وغرف نوم المدرسة الثانوية للبنات. أما الهجوم على الملعب البلدي والمسلخ فقد كلف به خيام باشا وفرقته العشارية.
باختصار, وزعنا مهام الاستيلاء على المراكز الحساسة على أعضاء مجلس قيادة الثورة. ولم ننس أن نكلف موظف سرية الأديب كور حميد /متقاعد الآن/ بمهمة الاستيلاء على السجن. وذلك كي يؤمن الأماكن الممتازة في السجن لأعضاء قيادة الثورة إذا ما فشلنا بمهمتنا. أي أننا أخذنا أدق الأمور وأصغرها بعين الاعتبار.
وفي ساعة الصفر, تحركنا للاستيلاء على الدوائر الحكومية, قال العميد شهاب الجناب, وهو من مجلس قيادة الثورة “يجب ألا نستولي على المصرف المركزي”. ولما سأله الفريق أبو الفضال “لماذا؟”. أجاب “كي لا نهدر قواتنا بتوزيعها على أماكن عديمة النفع”. وعندما قُبل هذا الاقتراح تراجعنا عن فكرة الاستيلاء على الأماكن عديمة النفع مثل وزارة المالية, البلدية, الدوائر العامة مثل النفوس والإحصاء, وبعد أن أحصينا الدوائر وعديمة النفع في بلدنا لم يبق أي دائرة ذات فائدة تستحق الهجوم عليها. فقال العميد أبو الحجاب “إذا كنا لا نريد الاستيلاء على الدوائر الحكومية بحجة أنها عديمة النفع, فلنتراجع عن القيام بالثورة”. فقال القائم مقام بهلول: “يا أصدقاء يجب ألا ننسى أننا نقوم بهذه الثورة لأن دوائرنا الحكومية لا تنفع لأي شيء” وبذلك حددنا الهدف الذي ستقوم الثورة لأجله.
اتفقنا على أن يتصل الأصدقاء بي هاتفياً فور استيلائهم على الدوائر الرسمية, وأنا بدوري سأخبر أهالي أوفريكا بنجاح الثورة عن طريق الإذاعة. وقد كلفني الأصدقاء بمهمة الحديث الإذاعي لخشونة صوتي.
وعندما قررنا التحرك قال الملازم أول ابن البوَّل “لنرَ إن كان الأمريكيون موافقين على قيام هذه الثورة. لأن احتمال نجاح أية ثورة لا يرضى عنها الأمريكيون معدوم”. فقررنا إثر ذلك تشكيل لجنة رباعية مؤلفة مني أنا شخصيا وثلاثة من الأصدقاء, وذهبنا لمراجعة السفير الأمريكي.
عندما دخلنا إلى السفارة شاهدنا خمسة أشخاص يخرجون من مكتب السفير, فاعتقلناهم على الفور, ولولا اعتقالنا لهم لقاموا بالثورة قبلنا واستلموا الحكم. استقبلنا السفير استقبالاً لائقاً. قال صديقنا الذي يتكلم اللغة الأمريكية “يا شباب, مصيبة وقعت على رؤوسنا لا أستطيع تذكر معنى كلمة ثورة باللغة الأمريكية. أيوجد بينكم من يعرف؟ “. في الحقيقة كنت أعرف معنى كلمة ثورة باللغة الأمريكية ولكني نسيتها بسبب الاضطراب الذي أصابني, قلنا للسفير أننا ننوي القيام بشيء ما. لكن لم نستطع شرح ما هو هذا الشيء. وحينما حاولت أن أشرح له معنى كلمة ثورة بإشارات من يدي, فهم إشاراتي فهماً خاطئاً وغضب كثيراً. المهم أننا استطعنا بعد عناء أن نشرح له مرامنا. فقال السفير:”إن نجحتم سندعمكم وإن فشلتم فإننا سنواصل دعمنا للحكومة الحالية“.
بعد أن أخذنا موافقة الأمريكان توزعنا على أعمالنا من أجل إتمام الثورة
دخلنا إلى مبنى الإذاعة ونحن نهز أيدينا إلى الأمام وإلى الخلف لأننا لم نواجه أي مقاومة. وبدأنا ننتظر الأخبار التي ستصلنا من الأصدقاء بواسطة الهاتف.
مر على موعد الاتصالات ثلاثة ساعات ولم يأتنا أي خبر فأصبنا بالقلق والاضطراب. لأننا إذا افترضنا أنهم اعتقلوا أصدقاءنا فيجب أن نعرف أنهم سيهاجمون الإذاعة ويعتقلوننا أيضاً. فقررنا بناءً على ذلك أن نجيب على قوات الحكومة إن سألونا: ” ماذا تفعلون هنا ؟! ” بأننا نريد تقديم حفلة موسيقية ونريد أن نعزف بعض الأناشيد الوطنية. ولكننا هنا أيضاً اكتشفنا مصيبة جديدة إذ لا يوجد بيننا من يتقن عزف أية آلة موسيقية. ومع ذلك فقد بحثنا في الغرف وأحضرنا الآلات الموسيقية الموجودة فيها.
أنا, وجدت طبلاً فأحضرته وبدأت أتدرب عليه ووجد أحد الأصدقاء دفأً, وآخر لا أعرف اسمه وجد بزقاً.
قلت للعميد أبو الحجّاب:
– اذهبوا واستقصوا الأخبار, ترى, هل استولى الأصدقاء على السلطة؟!.
مشى العميد بخطوات عسكرية وغاب في عتمة الليل, ولم يعد بعد ذلك. ولما لم يأتِ منه خبر أرسلت الملازم أول ولكن الآخر لم يعد أيضاً. صرت أرتجف خوفاً من احتمال فشل الثورة. لقد وجدت أفضل حلٍّ هو الذهاب إلى السلطة وإخبارها باندلاع الثورة وبذلك أكون قد أنقذت نفسي. وأنا في الدوامة قال لي آخر من بقي معي من الأصدقاء:
– لا شك أن الأصدقاء استولوا على الحكومة في هذه الساعة.
يجب عليك إخبار المواطنين بواسطة الإذاعة باستيلائنا على السلطة كي لا تحصل أي تغيرات تؤدي إلى حدوث الاضطراب عند السكان.
فقلت:
– إن إذاعة خبر كهذا, في غاية السهولة, ولكن ماذا سنفعل إن تم اعتقال أصدقائنا وأودعوا في السجن, ألن يكون إعلاننا عن الثورة شيئاً مثيراً للضحك؟
بعد قليل انقطع التيار الكهربائي, فظننت أنه قد حدث تماس في الدارات, ولكننا فهمنا بعد ذلك أن التيار الكهربائي قد انقطع فعلاً.
نزلت إلى الشارع فلم أرَ أي ضوء في المدينة, ولم أجد أية واسطة نقل, فاضطررت للذهاب إلى مجلس الوزراء مشياً على الأقدام. وجدت هناك العميد أبو الفضال. فسألته:
– ماذا حدث يا أبا الفضال؟
فأجاب:
– لقد اعتقلتهم.
فقلت:
– من ؟! الملك ؟!
– كلا, لقد اكتشفت لجنة ثورية أخرى تحاول قلب الحكومة, كانوا ينوون القيام بثورة في هذه الليلة, فاعتقلتهم قبل أن أعتقل هيئة أركان الحكومة. لأنه يتوجب علينا ألاَّ نسمح لأحد بأن يسبقنا للقيام بالثورة.
فهمت فيما بعد, نم الأخبار الواردة إلينا, أنه تم اكتشاف أربع لجان ثورية, غير لجنتنا, وكلهم كانوا يحاولون القيام بالثورة في نفس الليلة.
قلت للعميد زهروي:
– لِمَ لَمْ تخبروني عن نجاح الثورة بواسطة الهاتف ؟!.
فقال:
– وكيف سنخبرك والهواتف معطلة ؟
– كان يتوجب عليكم عدم قطع كل الهواتف.
– نحن لم نقطعها. هطلت في المساء, بضع قطرات من المطر أدت إلى قطع الخطوط الهاتفية.
– ألم تستطيعوا إرسال أحدهم بالسيارة؟!
– نقول لك: هطلت الأمطار … ألا تفهم؟ ألا تعرف أن حركة السير تتوقف في أوفريكا بشكل كلي عندما تهطل الأمطار.
– حسناً, وماذا سنفعل الآن؟ جماهير أوفريكا لم تسمع باستلامنا للسلطة.
بسط العميد زهروي خريطة الحركة فوق الطاولة ووضع فوقها أحجار الشطرنج وخاطب أبو الفضال قائلاً:
– لقد شل تفكيري, ولن أقوى على التفكير قبل أن ألعب قليلاً بالشطرنج, فتفضل إلى رقعة الشطرنج يا سيدي العميد.
أما بالنسبة لي, فقد استلمت الطريق متجهاً إلى دار الإذاعة من أجل إخبار الجماهير باستلامنا للسلطة. وفي الطريق قابلت المقدم حبيبي, كان يضع المسكين حذاءه تحت إبطه كي يستطيع السير في وحل الطريق, عندما رآني بادر قائلاً:
– انظر إل هذا المنظر, لقد أجبرونا على القيام بالثورة.
وبعد ذلك أخبرني بأنه استولى على وزارة المالية وعلى الخزينة, غير أنه وجدها فارغة فتركها دون حراسة واستولى أيضاً على وزارتين أخرتين.
وقال الفريق خيام باشا:
– لو كنت أعلم بأن القيام بالثورة سهل لهذا الحد لما انتظرت كل هذه السنين. بل كنت قمت بثورة مذ كنت برتبة وكيل ضابط, ورفعت نفسي مباشرة إلى رتبة مشير.
بدأت بترديد نشيد “أمن السهل خداع شعبي؟” مع الأصدقاء الذين التقيتهم في الطريق وذهبنا سوية إلى دار الإذاعة.
بدأت أتكلم بصوتي الأجش معلناً نبأ قيام الثورة للأوفريكيين, فقال القائم مقام:
– إنك تصرخ دون فائدة. يوجد عطل فني في محطة الإذاعة بسبب هطول المطر.
– حسناً, ولكن كيف سنخبر المواطنين بأننا استولينا على السلطة؟ من غير المنطقي إخبار المواطنين فرداً فرداً.
فقال أبو الحجاب:
– لقد عادت الخطوط الهاتفية للعمل, لنخبر البعض الأفراد بواسطة الهاتف وهم بدورهم يخبرون الآخرين.
وعلى الفور طلب رقماً لا على التعيين. وبدأ يتكلم يجب على كل عضو من أعضاء مجلس الثورة أن يكون تحت المراقبة ولهذا أمسك كل منا سماعة الهاتف وبدأنا نستمع للحديث الهاتفي الذي يجريه أبو الحجاب.
قال أبو الحجاب:
– نحن أعضاء مجلس قيادة الثورة.
فسأله الصوت النعسان:
– ماذا؟ مجلس ماذا؟
وبعد ذلك جرت المكالمة التالية بينهما:
– لقد استولينا على الحكم.
– يا إلهي … الله يوفقكم … كم انتظرنا شخصاً ما ليقلب هذا النظام ويخلصنا من مصائبه … من أنتم؟
– أنا العميد أبو الحجاب من أعضاء مجلس قيادة الثورة, نريد أن نخبركم باستيلائنا على الحكم, نرجو أن تخبروا أصدقاءكم.
– من أين تتكلمون؟
– من الإذاعة, … ومن أنتم؟
– أنا الصدر الأعظم مختار باشا.
فقال العميد أبو الحجاب “من ن ن …؟”. وسقط مغمياً عليه.
لقد حدث تماس في خطوط الهاتف فبدل أن يطلب أحد المواطنين طلب الصدر الأعظم وأخبره بقيام الثورة.
قال الملازم أول محمد:
– يا لسوء طالعنا, لن يسمع أحد باستلامنا للسلطة.
فقال خيام باشا:
– دعك من هذا … بعد قليل سيأتون لاعتقالنا.
فسألتهم:
– ولماذا لم تعتقلوا الصدر الأعظم
فأجابوا:
– لأن السيارات لم تستطع السير بسبب المطر.
وبعد ذلك افترقنا وذهب كل واحد منا إلى وظيفته, ذهبت إلى مكتبي في وزارة الدفاع, وغبت بين الأوراق والملفات. وبعد برهة طلبني السيد المدير إلى مكتبه وقال لي:
– يؤكد التقرير الذي قدمه مخبرنا السري أنه لولا هطول المطر ليلة أمس لاستطاع الثوار الاستيلاء على السلطة وقلب النظام الحاكم, هذا هو التقرير, أريد تحقيقاً كاملاً حوله.
سألته:
– هل نعتقلهم؟
فصرخ السيد المدير قائلاً:
– ولماذا؟ بالعكس تماماً, سنتصرف كما لو أننا لم نسمع بأي شيء. فقد ينجحون في المرة القادمة وينقذون البلد من مصائب هذه السلطة الحاكمة ولكن لا تنسوا تجهيز الطائرات التي سنهرب فيها.
ها قد مضى على قيامنا بالثورة خمس سنوات, حقيقة, يجب أن تكون قيادة البلد لنا, لأننا نحن الذين قلبنا الحكومة القديمة واستولينا على الحكم. ولكن ما نفع استلامك للسلطة ما لم تسمع بك الجماهير.
يا لشعب أوفريكا المسكين, إنه يعتقد بأن الحكومة التي تحكمه حقيقية, ولا يعرف بأنها مزيفة, لأن هذه السلطة انقلبت منذ خمس سنوات.
وصيتي الأخيرة لكل الذين يريدون القيام بالثورة في أوفريكا, أن يختاروا ليلةً غير ماطرة وأن يخبروا الحكومة بشكلٍ سري عن عزمهم على القيام بالثورة.