حرية شخصية أم حق عام؟
من نافل القول أن لكل فرد حرية اختيار أسلوب لباسه بما ينتاسب مع ذوقه ويعكس رؤيته لذاته وللحياة وللآخر. ومن غير المقبول، من وجهة نظر حقوقية، تقييد هذه الحرية بقانون. أما من ناحية أخرى فإن المجتمع يعمل من خلال آلياته الخاصة على وضع حدود المسموح وغير المسموح في هذا المجال. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الحدود غير ثابتة بل تتغير مع تغير الزمان والمكان وتخضع لاتجاه الحركة الثقافية والفكرية، بالمعنى الحيادي للكلمة. والزمان هنا بمعنى التاريخ أو الحدث، والمكان بمعنى الجغرافية أومكان الحدث. حيث تختلف هذه الحدود من فترة تاريخية إلى أخرى، وتختلف من منطقة جغرافية إلى أخرى وتختلف بحسب المناسبة والحدث.
من هذا المنطق، وبعد أخذ التغيرات التي طرأت على المجتمع وتحديداً فيما يخص عمل المرأة وتعليمها، نستطيع أن نتساءل عن حدود حق المرأة بارتداء النقاب؟
سوف نناقش الإجابة بغض النظر عن اختلاف الفقهاء حول فرض النقاب في التشريع الإسلامي. وأيضاً بغض النظر، في هذه اللحظة على الأقل، إن كانت المرأة المنقبة قد اختارت النقاب بإرداتها أم أجبرت عليه.
لاتضطر المرأة المنقبة في الشارع وفي الأماكن العامة من التواصل مع الآخرين، إلا بما يخدم مصالحها هي، وإن أعاقها عدم التواصل هذا، في حالات معينة، من تحقيق مصالحها فهي لا تطلب من أحد تحمل النتائج عنها، أي أنها ماتزال ضمن نطاق حريتها الشخصية. أما العمل فجوهره وأساسه التواصل إن كان مع المدير أو مع الموظفين الآخرين أو مع العملاء، وإن لم يتحقق التواصل بصورة طبيعية فمن شأن هذا أن يسبب إعاقة في أداء المهام مما ينعكس سلباً على العمل. ومن أهم أعضاء التواصل الظاهرية الفم والعينين، وبالتالي لتستطيع المرأة أداء عملها بأمانة يطلب منها أن تكشف عن وجهها. وإحدى مقتضيات التواصل أيضاً أن يستطيع المرء التعرف على هوية الموظف الذي يتعامل معه لتحقيق مصلحة جماعة أو خاصة (ليست مصلحة الموظف هنا)، ولأن الوجه هو من يقوم بهذه الوظيفة فيصبح تعدياً على حقوق الآخرين أن ترتدي المرأة النقاب في موقع العمل، مهما كانت طبيعة هذا العمل. ونفس الأمر ينسحب على التعليم مع بعض الاختلاف في التفاصيل.
أي أنه من واجب المرأة المنقبة، والتي يفترض أنها اختارت النقاب بمحض إرادتها والتي تصر على حقها فيه، ألا تدخل أماكن العمل والدراسة، لأنها إن رفضت ذلك فهي تتجاوز حق الآخرين. وهذه الدعوة موجهة بنفس القدر إلى المرأة التي تريد أن تظهر مفاتنها للآخرين وتحول وظيفة التواصل من الوجه إلى أماكن أخرى من جسدها.
رمزية النقاب
لم نكن نسمع قبل عقد من الآن هذا الجدل حول النقاب في سوريا، إلا في بعض الجلسات الخاصة التي يتم فيها تبادل الآراء الشخصية بين الناس، بالرغم من أن النقاب ليس بغريب عنا وإن اختلف بالشكل. إلا أن المجتمع السوري بدأ مرحلة من التحول لمّا تتضح معالمها بعد. وأحد أهم هذه التحولات هو تغلل التشدد الديني في المجتمع السوري، والذي من أحد مظاهره زيادة عدد المنقبات في أماكن العمل والدراسة! ليست المسألة في عدد المنقبات بحد ذاته، بل يجب أن نبحث في ماهية هذه الزيادة لنستطيع تحديد فيما إذا كانت طبيعية أم أن هناك أمراً آخر يتجاوز مسألة النقاب.
ليست هناك إحصاءات يستطيع المرء البناء عليها، ولكن يمكن للعين الفاحصة للواقع أن تلاحظ أن نسبة كبيرة من هذه الزيادة لم تأت من دخول المنقبات اللواتي عرفهن المجتمع سابقاً حقلي العمل والدراسة، فنقابهن بالأساس هو نتيجة العادات والتقاليد وقوة السلطة الذكورية في بيئات معينة ومعروفة. بل العكس هو الصحيح هنا، فقد جاءت الزيادة في معظمها من دخول المتعلمات والمثقفات أو بناتهن إلى عالم النقاب. ومثل هذا الإقبال بالعشرات لا يأت بين ليلة وضحاها وهكذا بشكل طبيعي دون تدخل من أحد. وسوف نشهد في السنوات القليلة القادمة زيادة مطردة في عدد المنقبات المتعلمات واللواتي مازلن اليوم في مراحل التعليم الأساسي والثانوي! ومن الخطأ أن نقول أن المنقبة هي متشددة دينياً حكماً، لكن من الصحيح أن نقول أن غالبية المتشددات دينياً هن منقبات. وهنا بالضبط مربط الفرس. حيث أن الدلائل كثرت حول وجود تيار أو تيارات متشددة دينياً وتكفيرية تعمل في سوريا في الظل ضمن حلقات تدريس خاصة بالكبار وضمن مدارس التعليم الأساسي والثانوي للأعمار الأقل. من المبالغ به القول أن هناك يداً خفية تحرك كل ذلك مثل لعبة الشطرنج، فالجماعات والتيارات تختلف إلا أن الفكر واحد. وهذه التيارات تمكنت حتى الآن من اختراق الطبقات الغنية والنافذة في المجتمع، وربما في بعض مراكز القرار، وكثفت نشاطها هناك حتى أنها في كثير من الأحيان تقيم حلقاتها الدينية في جو من الترف المادي، كما أن معظم المدارس، إن لم يكن جميعها، التي تتميز بالتعليم الديني المتشدد يدخلنها بنات تلك الطبقات بعينها. هذا التعليم الديني إن كان في الحلقات الخاصة أم في المدارس المستهدفة، يختلف بشكل جوهري عن التعليم الديني الأكاديمي في المعاهد المتخصصة مثل معهد النور. إن السائد في النمط الأول هو التركيز بشكل متشدد على الشكل دون المضمون، كما أنه يلغي تماماً شخصية الفرد ويجعله مجرد تابع وخاضع ومنفذ للتعليمات وفق تراتبية مشيخية وصولاً إلى المركز الأعلى الذي يرتفع إلى مقام العصمة والقداسة. وهذا ليس كلاماً إنشائياً بل هو واقع تحدث عنه الكثيرون ممن خبروه ورفضوه، وكاتب هذه السطور من أحدهم. كما أن هذا التعليم يعلي من شأن الشعائر على حساب العمل الصالح والعمل المنتج، ويعتمد على الترهيب من عذاب الله بطرق تقشعر لها الأبدان وهي مرفوضة بالمطلق عندما يكون المتلقي مجرد طفل! كما أنه يرفض الآخر المختلف ويضعه في موقع الجاهل أو المفسد في الأرض أو الكافر. وعندما تتضافر مدخلات التعليم هذه فمن المحتمل أن تتحول النظرة إلى الآخر من حيز القول البيني إلى القول العلني لتخرج أخيراً إلى حيز الفعل في اللحظة والظرف المناسبين.
القرارات والمرأة المنقبة
صدرت القرارات والتعليمات وتعرض لها الجميع بالنقاش وقلبنا وجهات النظر حول النقاب من مختلف الزوايا، والغائب دائماً هي المرأة الإنسان، نعم صاحبة العلاقة غائبة ومغيبة!
ماهي أهمية مبررات هذه القرارات وماهي أهمية كل تلك التحليلات والمناقشات والأخبار السرية والعلنية إن كانت كلها تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب؟ بينما الحقيقة الوحيدة الواضحة للعيان أن هكذا قرارات، إن صدرت حقاً أم مجرد شائعات، تحرم المرأة من المعرفة وتحرمها من العمل!
غاب عنا في كل مرة أننا بصدد الحديث عن إنسان، عن قصة حياة، أو ربما حيوات. ارتكبنا مرة أخرى نفس الخطئية التي يقع الإنسان فيها منذ آلاف السنين عندما كان ومازال يعلي من شأن المجرد على حساب الإنسان. نسينا أن هذا المجرد، إن كان فكرة أو إيديولوجيا أو دين، إنما جاء لخدمة الإنسان وسعادته ولم يوجد الإنسان قط لخدمته!
سقط من حساباتنا أنه وفي حال ثبوت شائعة قرار وزير التعليم العالي أنه سوف يحرم بعض الطالبات من التخرج بعد عام فقط، أو إن قامت باقي الوزارات باتباع نفس مبدأ وزير التربية لتم حرمان بعض النساء من متنفسهن الوحيد، أو لحرمت بعض الأسر من مصدر إعالتهم الوحيد.
هل بمثل هذه القرارات يتحقق العدل الذي غايته الإنسان أولاً وآخراً؟ هل نحقق بذلك العدل لبعض من أجبرن على ارتداء النقاب وإلا فلهن الويل والثبور؟
هذا تناقض فما هو الحل؟
يجب علينا حتى نستطيع الخروج بحلول مقبولة أن ننظر إلى الأمر من أربع زوايا مختلفة:
أولاً- نظرياً: يجب على المرأة الاختيار بين النقاب من جهة وبين العمل والدراسة من جهة أخرى.
ثانياً- إنسانياً: يجب علينا الوقوف والتفكير ألف مرة قبل التسرع والتسبب بمعاناة إنسان.
ثالثاً- استراتيجياً: من حق الأجيال القادمة على الدولة والمجتمع أن يحميها من نار التعصب والتشدد الديني والتيارات التكفيرية التي تدمر ولا تبني.
رابعاً- براغماتياً: مثل هذه القرارات تعمل بشكل معاكس تماماً لهدفها. فسوف يزداد الحنق على الدولة والمجتمع المنفتح على الآخر ويزداد الإنغلاق على الذات مما ينعكس على شكل ازدياد حدة التشدد. بالإضافة إلى جذب العديد من ذوي الميول الوسطية إلى التيارات المتشددة بسبب انعدام الأمان.
ليس هناك حل سحري ووحيد لهذه المسألة، إلا أنه ينبغي على الدولة العمل على تبني استراتيجية إصلاحية تغييرية تشمل جميع جوانب الحياة، كالنظام التعليمي على سبيل المثال لا الحصر، بهدف إخراج المجتمع إلى آفاق الحضارة الإنسانية المنتجة والفاعلة. كما يجب على المجتمع المدني تفعيل دوره بشكل عملي ومحاربة الإنغلاق والتشدد بمزيد من الانفتاح والتسامح مع الآخر، وعدم الانجرار إلى لعبة التخندق.
بترجمة هذه الكلمات القليلة إلى عمل على الأرض نكون قد بدأنا بمحاربة التشدد الديني، وليس النقاب بحد ذاته، لأن هذا الأخير ليس الهدف بل هو في بعض الأحيان مجرد مظهر لهذا التشدد. والواقع يقول أن هناك غير منقبات بل وغير محجبات أيضاً ولكنهن أكثر تعصباً لانتمائهم الديني والطائفي. أي أنه سوف يبقى هناك منقبات بالطبع، لكن بأعداد لاتشكل عبأً على العمل وعلى مقاعد الدراسة، والأهم من ذلك أننا سوف نضمن أنه لن يكون مظهراً من مظاهر انتشار التيار التكفيري.
ملاحظة هامة: هذا النص مخصص فقط لتحليل ظاهرة النقاب والتشدد الديني في سوريا. وعدم التطرق إلى المشاكل الاجتماعية الأخرى والتي ربما يكون بعضها أخطر من هذه القضية جاء بهدف التركيز على الهدف.
حسين غرير – مدونة الكاتب الخاصة