أزمة النقاب في سوريةصفحات من مدونات سورية

منع النقاب في الجامعات: لم يكن البتر أول الحلول يوماً و لا أفضلها

ليس غريباً أن تكون جميع المسائل الاجتماعية المتعلّقة بالمرأة و قضاياها محطّ نقاشٍ محتدم و ساخن أكثر من أي مسائلٍ أخرى, حتى المصيرية منها, بغض النظر عن إمكانية إرجاع هذه الحماسيّة إلى وجود رأي ديني (أو كهنوتي) فيها رغم أن هذا الأمر يزيد من عنفوانية النقاش و مفرداته, و ربما يعود هذا الأمر إلى تركيبة نفسية مشرقية ترى في المرأة محطّ “شرف” الرجل القريب منها, و كلّما تعصّب “لشرفه” أكثر كلّما كان رجلاً أكثر بغض النظر عن سويته الأخلاقية في أمور أخرى ستكون حتماً ثانوية و عديمة الأهمية أمام مسألة “عورته”.. و على اعتبار أن كهنوت جلّ المعتقدات الدينية الموجودة في المشرق هم من الرجال فإن لهذه النظرة تأييد ديني منقطع النظير لا يتعلّق فقط بالدين الإسلامي, فشهيرةٌ هي الأزمات و الصدامات التي تولّدت عن زواج فتاةٍ من دين معيّن من رجلٍ من دينٍ آخر بمحض إرادتها الكاملة, لكن المجتمع لم يحترم هذه الإرادة و فرض الحواجز بالقوة فوق أي حقٍ و حرّية إنسانية.. لا بل هناك حالاتٌ تكفّلت فيها شرطة أحدى الدول العربية بالقبض على فتيات من هذا النوع و سلّموهن لمرجعياتهن الدينية “الولادية” و كأن هذه المرجعيات جهة قضائية أو أمنية يحق لها استلام “المقبوض عليهن”و حبسهن في دور الدين و العبادة.. بأي سلطة, بأي شرعية؟
احتدم الجدال في المواقع الإخبارية و المدوّنات و الشبكات الاجتماعية حول قرار وزير التعليم العالي بمنع المنقبات من دخول الجامعات العامة و الخاصة, و كان الجدل قد بدأ بعد قرار وزارة التربية بنقل أكثر من ألف منقّبة من السلك التدريسي إلى وزارات أخرى, و توزّعت الآراء بشكل أساسي بين رافضٍ بشدّة و موافق بشدّة, كلٌّ حسب منطلقاته الفكرية, و وصلت الكثير من الآراء بعيداً في تعصّبها إن كان مع أم ضد, و في كثيرٍ من الأحيان تشاركت في الأساس الذي تحدّثت عنه في المقدّمة: الرجل يقرر عن المرأة, الرجل يفرض على المرأة, بغض النظر إن كان القرار و فرضه يعودان إلى المحافظة و التقليدية أم التقدم و التطور و “العلمنة”.
يبدو أن سبب القرار و خلفيته يعودان إلى أسباب أعم و أشمل من مجرّد حسن مسير العملية التعليمية الجامعية في سوريا, و التي علينا للأمانة أن نقول أن عدد المنقبات في قاعات محاضراتها قد يكون أصغر مشكلاتها إن كانت مشكلة أساساً, لكن ليس للقرار و حيثياته أهمية بالنسبة للنقاش الذي تحوّل تماماً نحو مسألة النقاب بشكل عام بعيداً عن القرار بحد ذاته.
لا أعفي المؤسسة الدينية الإسلامية (و أقصد مجموع رجال الدين, خصوصاً المؤثرين منهم) في ضبابية شأن النقاب و مكانه في العقيدة الدينية, هل هو فرض؟ هل هو أمر مستحب؟ هل هو تطرّف؟ قليلةٌ هي الأصوات التي تحدّثت بهذه المسألة و اعتبرت أن النقاب مجرد عادة لا علاقة لها بالشرع الإسلامي, لكن هذه الأصوات حوربت من قبل أصوات أخرى ربما أعلى منها.. أين الصعوبة في مقاربة و تحليل هذه المسألة شرعياً؟ هل يعقل أن يعجز جمع رجال الدين (المرتبطين أغلبهم بالسلطات في مختلف الدول بشكل أو بآخر) عن البت و الحسم في هذه المسألة في حين يبرزون قدرات خارقة على استصدار الآراء و الفتاوي اللازمة لتبرير قرارات سلطوية سياسية (مثل فتوى فرض معاملة إسرائيل بالحسنى لأن الرسول الكريم أوصى بالجيران!!!) أو لمساعدة “السي سيّد” على ركوب عنان الحياة دون حدود قريبة.. في كثيرٍ من الشؤون السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية نجد طبقة كهنوت تُظهر مرونة منقطعة النظير.. إلا في ما يتعلّق بالمرأة؟! هل يُعقل غياب الإجماع و الاتفاق و الحسم في مسألة كهذه؟ لماذا هذا الغطاء الديني للذكورية؟ لماذا تم اختطاف مفهوم الأخلاق و تحويله إلى رديفٍ لمقاربة الأمور الجنسية فقط؟ أليست السرقة و الخداع و الأنانية و العنف و الجهل و التخلّف مشاكل يجب أن تواجهها كلّ منظومة أخلاق بغض النظر عن مرجعيتها؟ لماذا نجد أن الأغلبية الساحقة من آراء رجال الدين لا تتحدّث إلا عن المرأة و لا تعاملها إلا كعورة (بما فيه حمّى الفتاوي)؟ ألم يبق في العالم مشاكل إلا المرأة؟!
سمعتُ أن الرأي السائد هو أن الحجاب مفروض, لكن النقاب هو زيادة في الحشمة مطلوبة و مستحبّة.. لا أريد أن أدخل في محاولة تفسير و تحليل مباركة زيادة الفرائض, و لماذا تتعلق هذه الزيادة فقط بالمرأة! فقط سأقول أنني أتمنى لو أن هذه الحمية (سواء كانت دينية أصيلة أو متلبسة بلباس الدين) المفرطة تجاه كل ما يخص حبس المرأة و التضييق عليها موجودة أيضاً في قضايا اجتماعية أخرى يوجد توجيه ديني صريح تجاهها مثل الإحسان و البر و إغاثة الملهوف و مساعدة المحتاجين و الأمانة و الصدق و العدالة…
لا أعني بالطبع أن المشكلة هي مشكلة مشايخ و القرار هو قرار مشايخ, لكن أقصد أن ضبابية الرأي الديني الواضح في هذا الشأن كما في غيره من الشؤون الخاصة بالمرأة (و التي لا تقدّم بخصوصها غالباً سوى خطب إنشائية عن مكانة المرأة في الإسلام دون أن تدخل في مضمون القضية و لا في سياقها الزماني و المكاني).
لماذا لا أتفق مع هذا القرار:
أولاً: لأن قرارات المنع لم تنفع في مجتمعات كانت ظاهرة النقاب مستجدّة و حديثة لديهم, فكيف يمكن أن تنفع في مجتمع تواجد فيه النقاب طوال قرون؟ لقد زادت ظاهرة النقاب بشكل أكثر من ملحوظ ضمن سياق صعود المد الديني في المنطقة ككل و لأسباب كثيرة و طويلة و معقّدة و ليس فقط في سوريا ( بل أن الوضع في سوريا أفضل بما لا يقاس من كثير من المجتمعات القريبة جغرافياً), لكن النقاب موجودٌ منذ عصور طويلة. لا يعني هذا بالطبع أنه يجب المحافظة على النقاب فقط لأنه من عادات الأجيال الفائتة فكثيرٌ من العادات الأخرى التي كانت موجودة في أزمنة أخرى انتهت غير مأسوفٍ عليها من أحد. هذا مفهوم تقليدي و محافظ لا أتفق معه بتاتاً طبعاً, لكن أعتقد أن مقاربة المسألة يجب أن تكون مختلفة تماماً.
ثانياً: لأنني أعتقد أن المنقبات, بشكل عام و بصورة أو بأخرى, لسن إلا ضحايا, و الضحية لا تعاقب..
هناك الكثير من الآراء التي طالبت باحترام الحرية الشخصية للمنقّبة, و كثيرٌ منها (و ليس جميعها, أشدد على هذا الأمر) يتحدّث عن الحرية الشخصية و يقيم لها وزناً و يدافع عنها لأول مرّة. شخصياً لا أعتقد أن النموذج العام للمرأة المنقبة في مجتمع شرقي هو لامرأة تمارس حرّيتها الشخصية. علينا أن ننظر إلى كامل الصورة و نأخذ بعين الاعتبار أن أغلب الحالات (كي لا أقول جميعها) تحوي عنصر إكراه من قبل المحيط الاجتماعي و العائلي التقليدي يعود في كثيرٍ من الحالات إلى تطرّف ذكوري أكثر من عودته لالتزام ديني. أيضاً علينا أن نأخذ الالتباس في فهم الأمر الديني (الذي تحدثت عنه سابقاً) بعين الاعتبار. و قد يبقى لدينا جزء من المنقبات قررن بأنفسهن إخفاء أنفسهن و هويتهن (و هن أقلية مطلقة باعتقادي), و هنا أيضاً لدينا مشكلة حول نظرة هؤلاء السيدات و الآنسات نحو المجتمع و نحو شقّه الرجولي خصوصاً. هل تعتبر أن رجال مجتمعها عبارة عن حيوانات جنسية شرهة ستنقض عليها عند رؤية وجهها؟ كيف تتعامل إذن مع هذا المجتمع و كيف تنتظر أن يعاملها المجتمع؟ لا شك أننا أمام مشكلة في هذه الحالة و ليس مشكلة خاصة بهذه السيدة أو الآنسة و إنما مشكلة اجتماعية شاملة و مقلقة.
السؤال هو الآتي: هل يتم تهميش المنقبات أم أنهن مهمشات بالتعريف انطلاقاً من وضعهنّ كمنقبات و تعاملهن مع المجتمع عبر قماشة سوداء؟ و هل يحلّ مشكلتهن زيادة تهميشهن؟
ثالثاً: لأن التعلّم حق أساسي يجب أن تتوافق معه جميع الشؤون الأخرى بما لا يمس هذا الحق.
أعتقد أن المراهنة على التعلّم يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار من قبل رافضي النقاب و ما يرافقه. الفرضية الرئيسية هي أن المنقبة مجبرة من قبل وسطها على إخفاء نفسها خلف ستار.. ألا يمكن اعتبار التعلّم فرصة للفتاة للحلم باستقلالية مادية و فكرية تسمح لها بتكوين كيانها و تحريرها, و لو جزئياً, من إجبار وسطها و تزمّته؟ هل من المنطقي إغلاق هذا الباب مهما كانت فرص فتحه ضئيلة؟
أقول عن فرص الفتح أنها ضئيلة لأن مجتمعنا لا يقبل استقلالية الكيانية الأنثوية.. لا يتقبّل فكرة امرأة مستقلة و صاحبة قرار مهما اكتسبت من العلم و مهما علت في وظائفها.. فالطبيبة و القاضية و المحامية و المهندسة و المعلّمة و و و.. الخ مهما عملت و ارتقت مهنياً فـ “مرجوعها لمطبخها و مكنستها” كما يُقال أحياناً.. و لعل في هذا الشأن المؤسف و المؤلم حقل عمل اجتماعي يجب العمل فيه بهمّة بدل اعتبار منع المنقبات من التعلم و نقل المشكلة إلى الحبس في البيوت انتصاراً للتقدم الاجتماعي!
رابعاً: لأن مسألة النقاب و زيادة وجوده كجزء من مد ديني يأخذ في كثيرٍ من الأحيان طابعاً شعبوياً متطرفاً هي مسألة اجتماعية ثقافية, و لذلك فإن معالجتها يجب أن تكون اجتماعية ثقافية و ليس بإجراءات إدارية طارئة. هناك وسائط اجتماعية و ثقافية دينية و غير دينية يجب أن تتصدى لمسألة التطرّف بأدواتها الخاصة و بعمل متواصل يشمل كل أوساط المجتمع, و يجب أن تُدعم هذه الوسائط و يقدّم لها المساعدة كي ترتقي بالثقافة الاجتماعية العامة بعيداً عن تأثير الخطابات المتطرفة و النارية و المليئة بالحقد و الكراهية. إن قراراً كهذا قد يساهم في إذكاء خطاب متزمّت مبني أساساً على اللعب على وتر شعور الضحية لدى الطبقات المهمّشة (اقتصادياً و سياسياً و اجتماعياً), و لذلك قد تكون له نتائج عكسية خطيرة و مؤلمة على المدى المتوسط و الطويل.
خامساً: لأنني كعلماني لا أعتقد أن وجود المنقبات في الجامعات يشكّل مشكلة و خطر علي كعلماني.. ربما أستطيع أن أعدد عشرات المسائل التي أفضّل أن تُعالج لضمان حقوقي قبل مسألة وجود المنقبات في الجامعات مثل حقي بأن أدير أحوالي الشخصية وفق نظام مدني و ليس بقانون أحوال شخصية يُفرض علي من مرجعيات الدين الذي ولدت عليه, أو مراجعة و تحديث القوانين الموجودة و التي أكل الزمان و شرب على أغلبها لضمان ممارسة الحياة بناءً على القناعة الشخصية و الحرّة و ليس على المرجعية, أو معالجة مناهج التعليم و إدخال عناصر المدنية و التعايش و المواطنة إن كان في مواد مستقلة أو في المواد الموجودة و توفير بديل (مثل التربية المدنية أو التربية من أجل المواطنة أو الأخلاق العامة) لمن لا يرغب بأن يدرس ابنه التربية الدينية و معالجة المناهج الدينية بحد ذاتها و العناية بمن يُكلّف بإعطائها و ضمان مستواه الثقافي و قدرته على القيام بمهمته بطريقة حضارية, أو القيام بجهود ترفع السوية الحضارية لليافعين و الشباب مثل الدورات و المعسكرات و النشاطات لتكوين الشعور بالمسؤولية تجاه المواطنة و الحضارة و الانفتاح و التعايش و المساواة و حرية الفكر و الاعتقاد و الحفاظ على البيئة لحمايتهم من تأثير دعاة الكراهية و الانغلاق و التعصّب و العنف.
ربما علينا أيضاً, بعيداً عن موضوع النقاش بحد ذاته, أن نبدأ بالاعتياد على المناقشة و المقارعة الفكرية تجاه مختلف المسائل دون استخدام العصبيات, رأيي قد لا يعجب أحداً كما أن آراء الأغلبية الساحقة ممن قرأت لهم لم تعجبني… هل يرى أحدٌ جريمة في ذلك؟؟! اذن لماذا هذه العدوانية في جميع المناقشات؟

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى