صفحات ثقافية

القتل بالمحمول!

null

أمبيرتو إيكو

الفكرة الأولى: قرأت الأسبوع الماضي في الصحيفة خبراً غريباً مفاده التالي:”في روما، أنقذ رجال الشرطة شاباً مغربياً بعدما كان ابتلع هاتفاً خلوياً”. بعبارة أخرى، شاهد رجال الشرطة في ساعة متأخرة من الليل شاباً ممدداً على الأرض يبصق الدماء ويحيط به رفاق من بلده. فساعدوه كي يقف على رجليه ونقلوه إلى المستشفى حيث تم انتزاع هاتف خلوي من طراز “نوكيا” من حنجرته.

يذهلني هذا الخبر لغرابته، إلا إذا كانت حقاً دعاية تنظمها شركة “نوكيا”، لأنه لا يمكن لإنسان مهما كان سكراناً أو مُخدراً أن يبتلع هاتفاً خلوياً. ويعتقد الصحافي أن هذه الحادثة تمت أثناء شجار جرى بين تجار مخدرات. ويبدو أنه تم حشر الهاتف الخلوي عنوة في حنجرة الشاب، ليس لأن طعمه لذيذ، بل للثأر منه (فربما أن هذا الرجل قام بمكالمة هاتفية وقال كلاماً لم يكن يجدر به قوله).

ففي محيط المافيا الإيطالية، تقوم العادة على حشر حجر في فم الجثة كدليل على أن الضحية قد أفشت أسراراً لأشخاص من خارج المجموعة. ومن المفاجئ جداً أن تكون مجموعات إثنية أخرى قد اعتمدت العادة نفسها. ومن جهة أخرى، تشكل “المافيا” ظاهرة عالمية لدرجة أنه منذ سنوات عديدة، قام أحد الأشخاص في موسكو بالاستفسار من مترجمي المتخصص في اللغة الروسية عن مرادف كلمة “مافيا” في اللغة الروسية.

غير أن هذه المرة، لم يكن الحجر الوسيلة المعتمدة للقتل، بل الهاتف الخلوي. ويذهلني هذا الأمر لأنه ينطوي على معنى رمزي في غاية الأهمية. فجرائم هذا العصر لم تعد ريفية وحسب بل أصبحت “مدنية” وتكنولوجية. فمن الطبيعي إذاً ألا نجد الضحية مقتولة وفقاً لـ”تقنية المافيا الإيطالية”، أي مكبلة الأيدي والأرجل وراء الظهر كالمعزاة بواسطة حبل يلتف حول العنق أيضاً، فأي حركة تؤدي بها إلى شنق نفسها بنفسها. ففي يومنا هذا، استبدلت هذه التقنية، إذا صح التعبير، بتقنية “الروبطة“.

ولكن لا يختصر الأمر على هذا، فالهاتف أصبح من أكثر الأشياء الحميمة والخصوصية التي يمتلكها الإنسان. فهو تكملة لطبيعته الجسدية وهو امتداد لأذنيه وعينيه. وبالتالي، يعتبر خنق أحد بواسطة هاتفه الشخصي بمثابة شنقه بواسطة أحشائه. بمعنى آخر، ابتلع هاتفك واحصل على الرسالة.

الفكرة الثانية. اقترح سيناتور في تحالف بيرلسكوني إعادة النظر في الكتب المدرسية وفي النصوص الأدبية أيضاً على ما أعتقد. فقد بدأت بجمع بعض المقتطفات التي من المفترض أن تشكل جزءاً من أدبيات المستقبل. ولفت انتباهي صديقي “دييغو ماركوني” إلى المقتطف الرائع من الكتاب العظيم “الديمقراطية في أميركا” لأليكس دي توكفيل”، الذي لا يزال يشكل موضوعاً جيداً للقراءة مع أنه كتب منذ 173 عاماً. ويتضمن المقتطف ما يلي:

على الرغم من هذا، في بعض الأحيان يمكن أن يؤدي الميل المفرط للممتلكات المادية إلى دفع الناس لوضع أنفسهم بين أيدي أول قائد يقدم نفسه. وفي الواقع، تواجه حياة كل شعب ديمقراطي تحولاً خطيراً. فعندما يتطور حس الرفاه المادي بصورة أسرع من تطور الثقافة وعادة الحرية، يأتي وقت يترك فيه الناس أنفسهم تًُساق، ويفقدون عقولهم تقريباً عندما يرون الممتلكات التي يوشكون الاستيلاء عليها“.

وبما أنه لا يهمهم إلا صنع الثروة، فلا يستطيعون إذا الحفاظ على الصلة الوثيقة الرابطة بين رفاه الفرد الواحد ورخاء المجموعة ككل. وفي حالات من هذا النوع، ما من ضرورة لانتزاع الحقوق التي يتمتعون بها منهم، فهم سوف يتخلون عنها بملء إرادتهم على حسابهم الشخصي“…

وإذا نجح فرد قادر وطموح في الحصول على السلطة في مثل هذه المرحلة الدقيقة، يجد الطريق مفتوحاً أمامه للقيام بأي عمل تعسفي. ويكفي أن يتعب نفسه في البحث عن المصالح المادية لكي لا يطالبه أحد بتلبية الباقي. فليحقق الأمن قبل أي شيء آخر…”أما الأمة التي تطلب من سلطتها تحقيق الأمن فقط، هي أمة مستعبدة في قلوبها، أمة يستعبدها رفاهها المادي. والرجل المقدر له استعبادها يمكن أن يصل عاجلاً أو آجلاً. وعندما لا يرغب القسم الأكبر من المواطنين إلا بإدارة مصالحه الخاصة فقط، يمكن للأقلية أن تستولي على الحكم“.

وبالتالي، ليس نادراً أن نرى على المسرح العالمي الضخم أعداداً كبيرة من الناس تمثلها حفنة من الرجال تتحدث باسم حشود غائبة أو غير صاغية. فهؤلاء الرجال يعملون وسط جمود عالمي ويتحكمون بكل شيء لتلبية نزواتهم. فهم يعدلون القوانين ويستبدون بالعادات على هواهم. لدرجة أنه من غير المفاجئ أن نرى شعباً عظيماً يسقط بين أياد ضعيفة وعديمة القيمة.

فربما تساعد كتاباتي الأدبية القراء في مرحلة من المستقبل على استعادة الإدراك بعد فوات الأوان، فسوف يرون هذه المرة أن الأقوياء المتحكمين على كافة الأصعدة، بدأوا يحكمون سيطرتهم، ليس فقط على وسائل الإعلام، بل أيضاً على وسائل الاتصال.

روائي إيطالي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز

جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى