مدينة البهجة
علي زراقط
عندما يهبط عليك المساء وأنت ظامئ الى أحلامك، تبقى مستيقظاً كي لا تأتي الأحلام فلا تجدك. تنام متأخراً بعد أن ينهكك التعب فلا تريد أن تستيقظ. تحتسب أن الأحلام التي لم تأتِ في اليقظة قد تأتيك في النوم. تستيقظ عندما لا يعود جسدك يتحمل النوم. وهكذا. في يقظتك رغبةُ النوم، وفي نومك رغبةُ اليقظة، وفي الاثنين لا تمتلك إلا الانتظار.
أتذكر أحد الأفلام الأميركية. عنوانه “مدينة البهجة” (Pleasantvile)، ويحكي قصة شاب لا يعرف إمكاناته ويعيش في انتظار حلمه الآتي من التلفاز، في برنامج يدعى “مدينة البهجة”. البرنامج بالأبيض والأسود ويبدو فيه الجميع سعداء. في يوم من الأيام، يدخل الشاب إلى البرنامج، فيبدأ باكتشاف التناقضات الخاصة بهذا المكان. حيث لا شيء يخرج على إطار المسموح. الكل يعمل بجد ونشاط ورضا، وفق ترتيب ونظام مسبقين. كل خلل في سياق الأمور قد يؤدي إلى خلل في ترتيب بهجة المدينة. مدينة بلا أخطاء، بلا جنس، بلا ألوان، بعدد محدد من أنواع الطعام الصحي، بكتبٍ أوراقُها بيض، بلا حرائق، بلا مطر، حيث الحرارة مستقرة على درجة 22 مئوية طوال السنة. هذه هي أحكام البهجة: أن يكون كل شيء مستمراً كما اتُفق عليه، وكما عرفه شعب يسكن المدينة. إلا أن دخول الشاب مع شقيقته إلى هذه المدينة يغيّرها برمتها. تبدأ الألوان بالظهور، الكتب تستعيد كلماتها، الأجساد تكتشف الجنس، والمطر، والحرائق، والفشل في إصابة السلة في لعبة كرة السلة، والخسارة، والجمال، والحب، والشجاعة، والكراهية…
أعود إلى هذا الواقع قليلاً. ها نحن هنا، على شفير التفاؤل الذي يقع على بلادنا كشائعة نصدّقها. نلاقي أنفسنا في مكان حيث لا شيء يتغير. الوجوه نفسها تتقاسم السلطة نفسها، ومهرجانات الأغاني ذات المعاني الفضفاضة على غير هدىً. الرضا يحكم الجميع الذين يتناتشون بعضهم بعضاً لأجل حصص تضمن تحقيق هذا الرضا لهم. ننسى أنه في كل يوم منذ “اتفاق الدوحة” يسقط جريح على أقل تقدير. لقد استمر الاختلاف لمدة أكثر من ثلاث سنوات، إلا أن الخوف من انهيار بهجة الطوائف الحاكمة حياتنا بالأبيض والأسود، يفضي بنا إلى الرمادي، إلى توافقٍ ساذج يكتفي بأن ندّعي أن الحياة عادت الى ما كانت عليه كي تعود الحياة لما كانت عليه. هذا الرأي ينكر كل المطر، والجنس، والحرائق، والفشل في إصابة السلة في مباراة كرة السلة، ويقول إنه يكفي أن نتناسى هذا كله لتعود الحياة الى ما كانت عليه، وتعود الصيغة والوطن والتوافق!
إلا أن الفيلم نفسه يحكي عن مؤتمر تعقده سلطة المدينة البهيجة ويتقرّر فيه “منع الأغاني غير البهيجة، منع المكتبة، منع ملتقى العشاق، منع شراء المظلات، منع شراء الألوان على رغم توافرها”. ويدّعي الفيلم أن هذا الاتفاق الذي تم التوصل إليه سوف يؤدي إلى عودة الحياة كما اتفق عليها، بالأبيض والأسود. إلا أن ما يحصل في النهاية، أن أمراً ما قد تغيّر عندما أدرك الناس أنه في استطاعتهم أن يكونوا بالألوان، وأن يغنّوا، ويرقصوا، ويمارسوا الجنس. لقد تغير شيءٌ ما في داخل الشعب، وتغيرت أمور كثيرة في نظم حياتهم، ولم يعد في الامكان الاستمرار في ما كانت الحياة عليه. في الفيلم ذاك، أقروا بأن الحياة تتغير، وبأن العلاقات بين الجماعات والطوائف (أعتذر، فهم لم يتكلموا عن طوائف، فهذه من عندنا) تتغير، وبأن نفسيات الشعوب تتغير كما تتغير حاجاتهم. الشعوب تتعب بحقّ، وتبتهج بحقّ، وتغضب بحقّ، وتقتل بحقّ وتموت بحقّ! فبأيّ حقّ يستطيع زعماء الطوائف أن يلغوا هذه المشاعر بمجرد شحطة قلم، وبابتسامات صفراء رديئة في تمثيلها، كتلك الابتسامات التي رأيناها في الدوحة (تستطيع أن تحصل على أوسكار أسوأ دور ثانوي)؟!
لقد حل علينا التفاؤل كعدوى سريعة الانتشار، أسرع من الجيش السوري عندما أعاد انتشاره نحو سوريا في 2005، وأسرع من الجيش الاسرائيلي في انسحابه المزمن من لبنان منذ 1983 حتى 2000، إلا أن هذه العدوى هي بالتأكيد أبطأ بكثير من الرصاص الذي يطير فرحاً، ويهبط على الأبرياء موتاً “جميلاً”. كي يقال لهؤلاء، بلسان من يقول، “هم ضحايا ونحن شهداء”. ليس في الأمر كراهية للتفاؤل أو ابتعاد عنه، بل قسوة في استشراف الأمل. إلا أن الأمل لا يكون بأن ننتظر أن تحلّ علينا عدوى التشاؤم أسرع من عدوى التفاؤل. فإذا كان من أمل فهو ليس في الرقص مع هيفاء وهبي في الساحة العامة، وليس بتعليق الصور. إذا كان من تفاؤل، فلنبدأ بأنفسنا كي نتذكر شيئاً عن كيفية العيش في زمن السلم. العيش في زمن السلم ليس ابتهاجاً (ورصاصاً في العلالي)، بل ألم طبيعي، وحزن بسيط، وفرحٌ على قدر كل فرد، وسعادةٌ لا تُوزَّع بل تُحَسّ. هذه الأشياء البسيطة، هي ما يحتاج اللبنانيون الى أن يتذكروه فعلاً. أن يقولوا كفى للابتهاج الأكبر والغضب الأعظم اللذين يحكمان الطوائف والبلاد منذ ثمانين سنة ويزيد. علينا أن نحلم بأن يوماً ما قد يأتي نرانا فيه شعباً منتجاً، لا للموت، بل لأفكار يبيعها للعالم، بل لمشمش بعلبك، ولتفاح قنوبين، ولأشياء أخرى جديدة.
كل يوم، عندما يهبط عليَّ المساء وأنا ظامئ الى أحلامي، أبقى مستيقظاً كي لا تأتي الأحلام فلا تجدني. أنام متأخراً بعد أن ينهكني التعب فلا أريد أن أستيقظ. فالأحلام التي لم تأتِ في اليقظة قد تأتيني في النوم. أستيقظ عندما لا يعود جسدي يتحمل النوم. وهكذا. في يقظتي رغبةُ النوم وفي نومي رغبةُ اليقظة، وفي الاثنين لا أمتلك إلا الانتظار.