صبحي حديديصفحات العالم

نقيض البهلوان

صبحي حديدي
لأنه يغرّد خارج السرب في معظم ما يكتب، فإنّ الصحافي الكندي ـ الأمريكي إريك مارغوليس يخاطب الأمريكيين بنبرة قاسية قارسة قُدّت من صقيع الحقيقة: ليس ما فعله أبناؤكم في سجن ‘أبو غريب’ جديداً أيها السادة! عودوا إلى تاريخ، بل تواريخ، علاقتكم بالشعوب ما وراء المحيط، واهنأوا بالاً… لا جديد تحت الشمس! ولا تعللوا النفس بآمال كاذبة من النوع الذي يزيّن لكم أنّ أبطال مباذل ‘أبو غريب’ هم حفنة شاذة لا تمثّل الجيش الأمريكي، ولا الأخلاق الأمريكية، ولا ‘الحلم الأمريكي’ دون سواه… ثمة نظام كامل متكامل يقف خلف ما جرى ويجري في العراق من فظائع، يتابع مارغوليس، وذلك النظام هو المتهم الأوّل.
والحال أنّ الرجل لا يتوقف عن كيل ‘الصدمات العلاجية’، إذا جاز استخدام هذا التعبير بالطبع، عن طريق إثقال الضمير الأمريكي بالمزيد من المعلومات والتفاصيل التي ينبغي أن تهزّ الجلمود:
ـ الأمريكيون اعتقلوا بين 15 إلى 20 ألف سجين عراقي أكثر ممّا اعتقل صدّام حسين!
ـ أنماط التعذيب التي استُخدمت في ‘أبو غريب’ وسواه من السجون والمعتقلات، اقترحها مستشارون إسرائيليون تحديداً، واستوحوا في تصميمها تقنيات التعذيب ذاتها التي تعتمدها أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين. والمرء، في هذا السياق، يتذكّر صورة امتنعت ‘واشنطن بوست’ عن نشرها، رغم أنها لم تكن تنطوي على أي نمط من أنماط التعذيب: جندي أمريكي يقف أمام زنزانات ‘أبو غريب’، وقد شمّر عن ساعده، متفاخراً بالوشم الذي يمثّل… نجمة داود والعَلَم الإسرائيلي!
ـ أنماط التعذيب هذه، خصوصاً الجنسية منها، تستهدف إنزال أشدّ العقوبات النفسية بالسجين المسلم بصفة خاصة، خصوصاً حين يُجبر على الكفر أو الارتداد عن عقيدته و’الاهتداء القسري’ إلى ديانة أخرى.
ـ هي أنماط لا تسعى إلى انتزاع المعلومات بقدر ما تستهدف في الجوهر تحطيم إرادة المعتقل، عن طريق إهانته جنسياً ومعنوياً. وهي لا تُمارس في العراق فحسب، بل أيضاً في قواعد وسجون عسكرية أمريكية في دييغو غارسيا وأفغانستان ومصر وأمكنة أخرى، فضلاً عن غوانتانامو بالطبع.
وهكذا، يواصل مارغوليس التغريد خارج السرب، لكي يكون صوته ـ الصارخ، غالباً، في برّية محاصَرة عن سابق قصد ـ خروجاً صاخباً على عماء الرأي العام السائد، وانتهاكاً صارخاً لقناعات راسخة رسوخ الجبال، وتسفيهاً بليغاً ومُرّاً لآراء ثقاة العلم في شؤون السياسة والاجتماع والإقتصاد والثقافة. ويحدث مراراً (كما في أمثلة هذه الأيّام، حين يعلّق على القرصنة الإسرائيلية ضدّ ‘أسطول الحرّية’؛ أو حين يسخر من البلاغة الجوفاء التي يعتمدها الرئيس الأمريكي باراك أوباما بصدد كلّ الظواهر تقريباً، امريكية كانت أم دولية)، أن يكون تغريد مارغوليس الشاذّ أقرب إلى سيرورة الجَرْح المتعمّد لمشاعر السواد الأعظم من قرّائه.
ذلك لأنّ ‘آثام’ هذا الرجل تبدأ من انتقاده الدائم للسياسات الإسرائيلية، وموقفه الحازم ـ السياسي، ولكن الأخلاقي في الجوهر ـ المؤيّد لحقوق الفلسطينيين، وشجاعته المدهشة في توصيف العنف الإسرائيلي بما يليق بفاشيّة هذا العنف من مفردات وصفات. وهو يعتبر أنّ خيارات قمع الفلسطينيين، منذ إسحق رابين وحتى نتنياهو الراهن، مع تشديد على أرييل شارون بصفة خاصة، إنما تعيد إنتاج سياسات فرنسا أثناء ‘معركة الجزائر’ في الخمسينيات، وسياسات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في فييتنام أثناء أطوار تنفيذ ‘برنامج العنقاء’ السرّي، اللذَين تضمنا كلاهما ممارسة التعذيب وقتل المدنيين بأعداد كبيرة، واستهدفا فرض حلول سياسية عن طريق سفك الدماء.
‘الإثم’ الثاني أنّ مارغوليس يتابع القضايا العربية أوّلاً بأوّل، ومن منظار ينشقّ تماماً عن الأسلوب الأمريكي المعتاد في التغطية الواسعة، سيئة الطويّة، التي تضرب عشرات العصافير بحجر واحد؛ أو التغطية المحدودة، المحايدة البلهاء، التي لا تسعى إلى ما هو أكثر من رفع العتب. وعلى سبيل المثال انفرد مارغوليس بموقف متميّز في إدانة ما جرى في سورية بعد وفاة حافظ الأسد: توريث بشار، وتعديل الدستور بطريقة مسرحية أتاحت انتخاب الأخير رئيساً للجمهورية، أو ‘تتويجه سلطاناً على الجمهورية’ كما عبّر في مقالة لاذعة بعنوان ‘المجد للسلطان الجديد’.
‘الإثم’ الثالث أنه متعاطف مع المسلمين والعرب، وللمرء أن يتخيّل ما يمكن أن يجلبه عليه ذلك الانحياز من غضب وغيظ وتشكيك وتشنيع. وفي أيامنا هذه بالذات، تبدو آراء مارغوليس مثل حجر ثقيل يحرّك المياه الآسنة في مستنقعات الرأي العام السائد، في الولايات المتحدة والغرب عموماً. ذلك لأنّ هذه الأيّام لا تحتمل الكثير من الانشقاق عن المألوف، ليس فقط لأنّ مكارثية غير مباشرة أخذت تترسّخ رويداً رويداً في الخفاء، بل لأنّ ما يُسمّى ‘المشاعر الوطنية’ لا تبدو وكأنها تسمح بالكثير من الاختلاف، أو تتسامح عند الاختلاف.
والشيء بالشيء يُذكر، أو هو يذكّر بالنقيض في أقلّ تقدير. ولهذا فإنّ آراء مارغوليس هي النقيض الأقصى لكتابات من طراز آخر، سائدة مهيمنة، بائسة سقيمة، مطبّلة مزمّرة، يوقّعها المعلّق ـ الأفاق، والمحلّل ـ النصّاب، وكاتب الافتتاحيات ـ البوق، والمفكّر ـ البهلوان… غنيّ عن القول إننا، نحن العرب، لا يُشقّ لنا غبار في إنتاج مثل هذه البضائع!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى