حكمة النفاق الأمريكية: لكلّ نزاع مقام و… مكيال
صبحي حديدي
في أعقاب الإجتياح العراقي للكويت، وعشية بدء القوّات الأمريكية في الإعداد لعملية ‘درع الصحراء’ التي ستسبق العملية الأمّ ‘عاصفة الصحراء’، كتب المفكّر الأمريكي الكبير نوام شومسكي مقالة حول نفاق سياسات الولايات المتحدة تجاه مفهوم الإجتياح العسكري للجوار، والكيل بمكاييل شتى لا يحكمها ناظم قانوني، أو أخلاقي، سوى ترجيح كتلة مصالح على كتلة أخرى. ولقد قارن شومسكي بين الموقف الأمريكي من احتلال العراق للكويت، والموقف الأمريكي من احتلال اندونيسيا لأراضي تيمور الشرقية سنة 1975: في المثال الأوّل هبّت القوّة الكونية الأعظم للدفاع عن سيادة الكويت، وحشدت الجيوش والحلفاء وأشباه الحلفاء، قبل حشد مجلس الأمن الدولي؛ وفي المثال الثاني كانت القوّة الأعظم ذاتها (وبإشراف من أبرز نطاسيي سياستها الخارجية: هنري كيسنجر، دون سواه) قد أغمضت العين والأذن عن الإحتلال من جهة، كما ألزمت المواطن الأمريكي، دافع الضرائب، بسداد كلفة الإحتلال الاندونيسي من جهة ثانية.
والرجل في الواقع كان قد جعل قضية تيمور الشرقية مثالاً دائماً على السياسة الأمريكية، العتيقة، في اعتماد حلول متباينة للمعضلات المتشابهة المتطابقة؛ وموقف ‘الحضارة الغربية’ من أقدار المستعمرات السابقة، التي مُنحت ذلك النوع العجيب من ‘استقلال وطني’ استبدل هويّة المستعمر، دون أن يبدّل طبيعة الإستعمار. كذلك كانت تيمور الشرقية مثال شومسكي على ‘لعبة الأمم’ المكرورة ذاتها: ثمة أهمية استراتيجية ـ عسكرية واحدة تتمتّع بها هذه الجزيرة الصغيرة (هي أنها ممرّ عميق المياه، يسمح للغواصات النووية بالرسوّ على مسافة قريبة)؛ ولكنها أهمية فائقة بالنسبة إلى بلد مثل أستراليا. وثمة، أيضاً، ذلك ‘الدلال’ الخاص الذي حظي به جنرالات أندونيسيا من جانب الولايات المتحدة والغرب إجمالاً، فلم يتمثّل في السكوت عن الإحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية فحسب، بل اتخذ صفة الاعتراف الرسمي بإلحاق هذه الجزيرة أيضاً.
غير أنّ نفاق عقود الحرب الباردة تواصل هنا وهناك في العالم، بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها، وكانت تدور على مستوى المخيّلة وحدها في واقع الأمر. وهكذا، بات في وسع المرء أن يتابع النفاق الغربي تجاه ما جرى في تيمور الشرقية، وكأنه لا يتابع أيّ جديد. أو كأنّ الإستفتاء الذي نظمته الأمم المتحدة، وأسفر عن رغبة 87.5 بالمئة من أبناء تيمور الشرقية في الإستقلال عن أندونيسيا، لم يكن أكثر من رياضة عابرة مارستها المنظمة الدولية ذات نهار، لكي يحلّ النهار التالي فتحوّلها الميليشيات الإندونيسية المدعومة من الجيش الإندونيسي إلى باطل وقبض الريح.
ولكي لا ينقطع ماضي تلك السياسة الأمريكية عن حاضرها الراهن، وتمتلك الإنسانية برهاناً جديداً على أنّ النفاق الأمريكي أزل لا يزول، بادرت إدارة الرئيس باراك أوباما إلى اتخاذ خطوة تجاه عسكر اندونيسيا، كانت مفاجئة صاعقة بقدر ما هي وقحة بغيضة، لم يتجاسر الرئيس السابق جورج بوش الابن على اتخاذها، رغم أنّ لعاب الكثيرين من مستشاريه الصقور والمحافظين الجدد بخاصة، سال شهوة إليها. فقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس، في أعقاب لقاء مع الرئيس الإندونيسي سوسيلو بامبانغ يدويونو، في جاكرتا، استئناف تدريب وتسليح ‘قيادة الوحدات الخاصة’، المعروفة بالاسم الرهيب Kopaus. وهذا قرار يكسر حظراً أمريكياً دام 12 سنة، وفُرض استناداً إلى ‘قانون ليهي’، نسبة إلى عضو الكونغرس باتريك ليهي، الذي يحظر تسليح أو تدريب وحدات عسكرية أجنبية تنتهك حقوق الإنسان (وهو القانون الذي جعل إدارة بوش تتردّد، ثم تمتنع، عن إعادة تدريب الـ Kopaus).
وكانت هذه الوحدات الخاصة قد تأسست سنة 1952 لتكون جيشاً خاصاً داخل الجيش، يتولى مهامّ التدخل المباشر في العمليات العسكرية غير التقليدية، وأعمال قمع العصيان والتظاهر، ومحاربة الإرهاب، وجمع المعلومات الإستخبارية، فضلاً عن ‘المهام المستورة’ القذرة، مثل الإعتقال والتحقيق والتعذيب والتصفيات الجسدية. وسجلّ الـ Kopaus ليس حافلاً بانتهاك مختلف تصانيف حقوق الإنسان في إندونيسيا فحسب، بل لا يكاد أيّ انتهاك شائن للحرّيات والحقوق يخلو من بصمات تلك الوحدات. هذا فضلاً عن دورها في قمع أعمال التمرّد أواخر الخمسينيات، والحملة العسكرية ضدّ غينيا الجديدة سنة 1960، والمواجهة مع ماليزيا خلال سنوات 1962ـ1966، وتنفيذ مذابح الشيوعيين سنة 1965، وغزو تيمور الشرقية سنة 1975… وما يضيف بُعداً بالغ الخطورة على خطوة إدارة أوباما هو حقيقة أنّ استئناف تدريب وحدات الـ Kopaus يشكّل انحيازاً صريحاً إلى صفّ العسكر، على حساب المدنيين والسياسة عموماً، في معركة قديمة متجددة لا تخمد نيرانها حتى تستعر من جديد. وكانت تلك المعركة قد تبلورت، واتخذت وجهة عملية وعملياتية، منذ اصطفاف الرئيس الأسبق يوسف حبيبي مع الجنرال ويرانتو ضدّ غالبية أحزاب المعارضة والمجتمع المدني. ولم يفلح انتخاب الرئيس عبد الرحمن واحد، وعزل ويرانتي نفسه وتقديمه إلى المحاكمة بتهم إساءة استخدام السلطة وانتهاك حقوق الإنسان والفساد، في تقريب الهوّة بين العسكر والمدنيين، فهي في حال متفاقمة تشهد عليها سلسلة المآزق الراهنة التي يواجهها الرئيس الحالي. وكان البرلمان الإندونيسي قد صوّت على إحالة نائب الرئيس ووزيرة المالية ومسؤولين آخرين إلى القضاء، في قضية إنقاذ مصرف ‘سنتشري’ من الإنهيار عن طريق استخدام الأموال العامة، بمعرفة الرئيس وموافقته. وفي سابقة تصلح للقياس، كان البرلمان الإندونيسي قد أقال الرئيس واحد لتورّطه في فضيحة ‘بلوك غيت’، لمخالفة مالية بقيمة مائة مليون روبية، في حين أنّ مخالفة مصرف ‘سنتشري’ تبلغ 6.5 مليار روبية (قرابة 725 مليون دولار أمريكي).
والشقاق بين المدنيين والعسكر يدور حول السياسة والاقتصاد والمجتمع، وحول هوية إندونيسيا بعد الرئيس الأسبق سوهارتو، وكان محض تفصيل طبيعي أن يجد الكثير من تعبيراته في موقف العسكر الرافض لإنهاء نحو ثلاثة عقود من الإحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية. كذلك حرص العسكر على ضرب تيمور الشرقية أمثولة قصوى لكلّ مَن تسوّل له نفسه أمر الخروج عن الإتحاد الإندونيسي المقدّس، إذْ من المعروف أنّ البلاد تتألف من 13 ألف جزيرة، وتقوم بنيتها على فسيفساء معقدة (اجتماعية واقتصادية وإثنية ومذهبية ولسانية) لأكثر من 230 مليون نسمة، كان سوهارتو قد أحسن ضبطها بوسيلة القمع والإنضباط العسكري تحديداً. وليس خافياً على أحد أن هذه الأمّة ـ الأرخبيل، كما يحلو لبعض المراقبين الغربيين وصف البلاد، عانت وتعاني من هيمنة الأقلية الجاوية التي ساندها سوهارتو وأدام سلطتها طيلة 32 سنة من الدكتاتورية العسكرية.
من جانبها، لا تبدو أحزاب المعارضة الإندونيسية وكأنها تملك إجابات بديلة عن بعض الأسئلة الحاسمة، بينها هذه على سبيل المثال:
1 ـ نجاح سوهارتو في فرض ‘النظام’ و’الإنضباط’ و’الإستقرار’ بقوّة السلاح، كان قد اقترن بتحقيق نجاحات كبرى في حقل الاقتصاد وتوطيد الوحدة الوطنية على وجه الخصوص، فبِمَ ستضحي المعارضة: بالاقتصاد، الذي ظلّ مزدهراً ويمكن أن ينهض من كبوته؛ أم بالديمقراطية الغائبة، التي قد تولد هشّة قعيدة؟ بالوحدة الوطنية، ضمن أعراف ‘الضبط’ و’الإنضباط الذاتي’ التي سنّتها الدكتاتورية السوهارتوية؛ أم بمرونة فيديرالية في فكّ الخناق عن الثقافات والإثنيات، وهذه قد لا تغيب عنها كوابيس البلقنة في مثالها اليوغوسلافي الأقرب؟
2 ـ هل ستفلح المعارضة في تقديم، وترقية، رئيس مدني يكون بديلاً عن رجل حكم إندونيسيا طيلة فترة تفوق نصف عمر تأسيس الأمة الإندونيسية نفسها؟ ومَنْ سيتمكن من الحلول محلّ ‘الأب الرائي’ و’الأب المعلّم’ و’الأب المخلّص’، كما كان يُلقّب سوهارتو؟ هل ترى المعارضة بديلاً ديمقراطياً للصيغة الدستورية ذاتها، التي تحكم العمل السياسي في البلاد؟ وهل تملك بديلاً عن عقيدة ‘البانكاسيلا’ الخماسية، التي أصرّ سوهارتو على التذكير بها حتى ساعة خطبة الوداع؟ هل توافق على أن نظام انتخابات ‘مجلس الشعب’ هو نظام قانوني وديمقراطي بالفعل؟ وهل ترى أن المجلس يمثّل الشعب في الأساس؟
3 ـ كيف ستكون موازين القوى القادمة بين المؤسسات المدنية والجيش أولاً، ثم بين قطعات الجيش العامة النظامية والوحدات الخاصة التي تظلّ جيشاً داخل الجيش؟ وكيف ستنضوي مختلف الوحدات العسكرية في الثكنات، وقد تربّت قياداتها على ثلاثة عقود ونيف من التنعّم بالمزايا الخاصة؟ وهل سيفلح اختراق الـ’بنتاغون’ لهذه القيادات، في المستويات اللوجستية والتدريبية مثل تلك العقائدية والثقافية، في ‘تحييد’ الضباط ضمن سيرورة الإصلاح الحتمية القادمة؟
4 ـ وأخيراً، لماذا وحتامَ تسكت فصائل المعارضة عن الإستعمار الإندونيسي الإستيطاني لجزر تيمور الشرقية، بل ولا تتورّع بعض فصائلها عن امتداح فضائله؟ لماذا انقلب الموقف من شعب تيمور الشرقية إلى أنبوب الاختبار الأول الذي مكّن الجيش من استنباط ‘كيمياء’ قوموية شوفينية، تذهب بتسعة أعشار الروحية التعددية التي يتوجّب أن تتوفّر في إندونيسيا الجديدة؟
اليوم يبدو السؤال الرابع وكأنه بؤرة تجمع الأسئلة الثلاثة السابقة، فالجيش الأندونيسي لم يتوقف عن استنباط تلك الكيمياء القوموية الشوفينية بالذات، وجنرالات الجيش هم الذين أشرفوا على تشكيل ميليشيات موالية لإندونيسيا في تيمور الشرقية، لم يكن يُعرف لها أيّ وجود قبل بدء الأمم المتحدة في تنظيم الإستفتاء على الإستقلال. كذلك أشرف الجيش على تسليح تلك الميليشيات، وتدريبها، ونشرها في العاصمة التيمورية ديلي، على نحو لوجستي يسمح بممارسة الضغط المادّي على التيموريين، والضغط الأدبي والإعلامي على المنظمات الدولية وممثّلي وسائل الإعلام العالمية. والأرجح أنّ هدف الجيش من تخطيط كهذا كان، ويظلّ، توجيه رسالة إلى القوميات الأخرى التي انتظرت نتائج استفتاء تيمور الشرقية قبل ابتداء أيّة خطوة ملموسة على طريق المطالبة بحقوق مماثلة.
وقبل عقد من الزمان كانت إدارة أمريكية ديمقراطية أخرى، سيّدها الرئيس الأسبق بيل كلنتون، هي التي اختارت الإنحياز إلى العسكر في معظم الملفات التي تخصّ ماضي، وحاضر، ومستقبل إندونيسيا، فاستمعنا إلى مستشار الأمن القومي ساندي بيرغر يقول التالي، في تمييز إندونيسيا عن سواها: ‘إنها رابع أكبر دولة في العالم. وهي تمرّ في مرحلة انتقال سياسي واقتصادي هشّ ولكنه هائل الأهمية. والولايات المتحدة تدعم بقوّة ذلك الإنتقال. وحلّ هذه الأزمة لا يهمّ تيمور الشرقية وحدها، بل يهمّ إندونيسيا بأسرها’. وكان تشخيص بيرغر يستبطن الرسالة التالية: ما يجري في تيمور الشرقية من تنكيل بالتيموريين مسألة تتصل مباشرة بالصراعات السياسية الداخلية في إندونيسيا، قبل أن تكون مسألة ذات صلة بحكاية حقّ التيموريين في تقرير المصير.
فماذا عن حقّ وحدات الـ Kopaus بالتمتع، مجدداً، بالعتاد والتدريبات الأمريكية، على نقيض من رغبة المجتمع المدني الإندونيسي في غالبيته، وضمن استهتار فاضح بعشرات الملفات التي تعجّ بها أدراج منظمات حقوق الإنسان ضدّ تلك الوحدات، وكبار ضباطها؟ لا جديد تحت الشمس، كما سيردّد شومسكي، الذي شبّ واكتهل وشاب على حكمة كبرى في نفاق السياسات الأمريكية: لكلّ نزاع مقام، ولكلّ مقام… مكيال!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –