هكذا أصبح الجولان «نظيفاً من العرب»
إسرائيل تعترف بـ «الترانسفير السوري» وبكذبة الهجرة الطوعيّة
محمد بدير – الأخبار اللبنانية
كان أكثر من 130 ألف مواطن سوري يسكنون عشرات القرى في الجولان عشية احتلاله عام 1967. في أعقاب الحرب، لم يتجاوز عدد من بقي فيه 6 آلاف نسمة، توزّعوا على 4 قرى هي مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية. الفرار من الحرب لم يكن السبب الأساسي لحصول ذلك، بل سياسة ترحيل مارسها الاحتلال
روّجت إسرائيل، على مدى عقود، رواية مفادها أنّ سكان الجولان هجروا قراهم فراراً من المعارك إلى داخل سوريا، وأنهم لم يعودوا إليها بعد الحرب. رواية وضعت صحيفة «هآرتس»، في تحقيق مطوّل نشرته أمس، علامات استفهام حولها، وفنّدت زيفها بالوثائق.
وكشفت الصحيفة عن سياسة «ترانسفير» ممنهَجة مارسها الاحتلال بحق سكان الهضبة السورية فور السيطرة عليها، لتكون «نظيفة من العرب»، على حد تعبير أحد الأوامر التي أصدرها جنرال إسرائيلي في حينه.
ويستند تحقيق «هآرتس»، الذي أعدّه الكاتب شاي فوغلمان، إلى شهادات شهود عيان ووثائق عسكرية تؤكّد أن عشرات الآلاف من المواطنين السوريين تعرّضوا لعمليات إجلاء قسري من جانب القوات الإسرائيلية بطريقة «تذكّر بما حصل مع سكان اللدّ والرملة عام 1948».
يروي فوغلمان كيف انطلقت الدولة العبرية في صناعة روايتها عن الهجرة الطوعية للمواطنين السوريين من الجولان. البداية كانت مع وزير الدفاع في حينه، موشيه ديان، الذي شرح في مقالٍ بعنوان «اليوم السابع»، نشره بعد شهرين على انتهاء حرب 67 في مجلة «لايف» الأميركية، كيف أنّ الجيش السوري «سحب معه (أثناء تراجعه) السكان المدنيين» الذين خافوا من تعرضهم للقصف الإسرائيلي. بعد ذلك، تبنّت الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية هذه الرواية، فقدمتها أمام المحافل الدولية على أنها حقيقة ما حصل إبان الحرب. وهكذا ردّ سفير دولة الاحتلال لدى الأمم المتحدة في حينه، جدعون رفائيل، على المذكرة التي توجه بها نظيره السوري إلى الأمين العام للمنظمة الدولية احتجاجاً على طرد المواطنين السوريين من الهضبة بالقول إنّ «معظم سكان الجولان هربوا قبل انسحاب القوات السورية». ويستشهد الكاتب بمقتطفات صحافية إسرائيلية من تلك الحقبة، تعتمد الرواية نفسها، ليدلّل كيف تسلّلت أدبيات المؤسسة الرسمية إلى وسائل الإعلام وأقلام الكُتّاب الصحافيين. حتى إنّ تلك الرواية المزيّفة أطبقت حتى على عقول المؤرخين والباحثين، وهو ما وصل إلى الكتب المدرسية.
ويشير فوغلمان إلى أنّ بعض الكتّاب والمؤرّخين كانوا على علم مسبّق بعدم موضوعية ما يكتبون، إلا أنهم آثروا الالتزام بالرواية الرسمية لأسباب مختلفة. وينقل الكاتب عن أحد المؤرخين قوله إنّ مسايرته للتيار القائم كان بسبب الخوف من تصنيفه «مؤرّخاً يسارياً».
وفي عرض مفصَّل، لا ينفي فوغلمان حصول عمليات نزوح طوعي لسكان الجولان أثناء الحرب، إلا أنه يلفت إلى أنها لا تشمل كل السكان. ويستشهد في هذا الإطار بشهادات لجنود وضباط إسرائيليين شاركوا في الحرب، يؤكدون فيها أنّ عدداً لا بأس به من المواطنين السوريين بقوا في أرجاء الهضبة خلال الحرب. وينقل عن أحد قادة الجيش قوله إن سكان القرى في الجولان خرجوا من بيوتهم تجنباً للقصف، وانتظروا في محيط القرى من أجل العودة إلى بيوتهم بعد انتهاء المعارك. وأضاف الضابط، الذي شارك في احتلال الضفة الغربية خلال الحرب، «هذا هو السلوك الذي واجهناه في شمال الضفة، وقد كان شائعا جداً. الناس يهربون من بيوتهم لكنهم يبقون على مسافة تسمح لهم برؤية بلدتهم لمراقبة تطور الأمور».
وإذ يؤكد فوغلمان أنّ عسكريين آخرين، أخذ إفاداتهم، يوافقون على صحة ما قاله الضابط، يعود ليلفت إلى أنه، وفقاً للإحصاءات السورية التي جرت في أعقاب الحرب، بلغ عدد النازحين من الجولان نحو خمسين ألفاً، ما يعني أن عدد الذين طُردوا وهُجّروا قسراً بعد الحرب يتجاوز السبعين ألف مواطن سوري.
وعن كيفية ممارسة سياسة «الترانسفير»، يروي الكاتب أن القائد العسكري للمنطقة، العقيد شموئيل أدمون، أصدر في 16 حزيران 1967، أي بعد أربعة أيام على انتهاء الحرب، أمراً يعلن فيه الجولان منطقة عسكرية مغلقة يُمنع دخول أو خروج أيّ شخص منها وإليها إلّا بإذن خاص منه، تحت طائلة معاقبة من يخالفه بالسجن 5 أعوام.
هكذا قُيِّدَت حركة المواطنين السوريّين، واستحال دخولهم إلى قراهم بعدما بدأ الاحتلال يعترض عودتهم، ويطلق النار ويأسر كلّ من يحاول دخول الجولان.
وبحسب الكاتب نفسه، فإن وثائق الحكم العسكري عن تلك الفترة تُظهر كيف جرى اعتقال عشرات الأشخاص يومياً ممّن حاولوا العودة إلى بيوتهم، وأفادوا، عند تقديمهم للمحاكمة في القنيطرة، بأنهم جاؤوا ليأخذوا أغراضهم، لكنهم طردوا جميعاً».
في موازاة ذلك، بدأ الجيش الإسرائيلي بهدم القرى ليفرض واقعاً يحول دون عودة الناس إلى منازلهم. وينقل فوغلمان عن إلعاد بيليد، قائد الفرقة العسكرية الـ36، التي تسلمت مسؤولية منطقة الجولان خلال فترة عشرة أيام بعد الحرب، أنّ وحدات خاصّة تابعة للجيش كانت مهمّتها «تنظيف» المنطقة من سكّانها العرب. وبحسب تحقيق «هآرتس»، فإنّ «نحو 20 ألف مواطن بقوا في هضبة الجولان في الأيام الأولى للحرب، لكنهم هُجِّرُوا وهربوا حينما رأوا الجرافات تدمر القرى، ولم يكن لديهم أيّ مكان يعودون إليه».
ويؤكد تسفي رسكي، الذي كان قائداً لأحد القطاعات العسكرية داخل الجولان بعيد الحرب، ما صرّح به بيليد. ويقول في هذا السياق، «لقد فجّرنا البيوت فور انتهاء المعارك، تقريباً في كلّ مكان استطعنا فيه ذلك». ويروي جنود آخرون أنهم كانوا يرون السكان المحليّين يزرعون حقولهم في الأسابيع التي تلت الحرب، وكانوا يطلبون إليهم مغادرة المكان باتجاه الداخل السوري، ويصطحبونهم إلى القنيطرة. وهكذا لم يبقَ، حتى نهاية صيف عام 1967، سكان سوريون في أرجاء الجولان، إلى أن أصدر قائد المنطقة، في 27 آب، أمراً صنّف فيه مئة قرية وقرية في الجولان في خانة المهجورة وممنوع الدخول إلى نطاقها».
وفق فوغلمان، «لم يحصل الجيش على الهضبة نظيفة من العرب» مثلما أراد أن يحصل نائب رئيس شعبة العمليات في حينه، الجنرال رحبعام زئيفي، «إلا أنه اهتم بأن تصبح كذلك».