حسن داوود في “مئة وثمانون غروبا”: التواطــؤ الروائــي
مها حسن
ليس من السهل ولوج عالم حسن داوود الروائي، مع أنه ليس صعبا، ثمة نوع من السهل الممتنع، أو الصعب المتاح. حيث استغرقت في قراءة هذه الرواية ستة أسابيع، وأنا أعتبر نفسي قارئة جيدة، معتادة على قراءات صعبة من عوالم أحبها لديستويفسكي أو كافكا أو فوكنر، أو غيرهم.
الفصل الأول من الرواية، هو الفصل الأكثر صعوبة فيها، وكأن الروائي «يجاكر» القارئ، عبر تواطؤ بينه وبين البطل الثخين، الذي يصر داوود على تركه من دون اسم حتى نهاية الرواية. يأتي «الجكر»، أو التحدي أو التواطؤ، في أن حسن داوود يَعد قارئه بمتعة السرد، بعد الانتهاء من فصل الراوي الثقيل أو الثخين.
كنت أتساءل، ماذا يحدث لو أننا نسفنا صفحات الرواية الأولى، الصفحات الأربع والستون، التي مسك السارد الثخين بها، وحيث يرهق القارئ في سرد بطيء، طويل، متعمدا خلق حالة الضجر، لينقل لنا هذا الضجر «الزهراني»، نسبة إلى تلك المدينة النائية، المنسية… التي ترمز بجزئيتها الصغيرة، إلى مدن كبرى، تقتل إنسانيتنا، عبر الضجر…
شخصيا، قرأت الصفحات الأولى من الرواية لأكثر من خمس مرات… كنت أحاول في كل مرة فتح نافذة تواطؤ مع الروائي لأدخل عوالمه، فأجد أحدنا عاجزا عن لعب دوره، إما أنا كقارئة مستعجلة، أو هو كروائي يتفنن بالبطء…
ذلك البطء هو تيمة الفصل الأول، ولكن وإجابة على سؤال حذف هذا الفصل، يتبين أنه لابد من هذا الثقل في الروي، البطء المتعمد، الذي يسير في روح القارئ وجسده، ليصبح أحد أبطال «الزهرانية» المصابين بالعطالة… لا شيء يحدث ولا شيء يغير يوميات الشخوص، حتى أن «الثخين» وأخيه وليد، يسكنان في البناية نفسها التي يعملان فيها، لاشيء يتغير في يومياتهما،
الوجوه، الأشخاص، الأحداث، الأشياء… كل شيء هو ذاته، حتى الهواء يكاد لا يكون يتكرر… ثابت إلى درجة الملل الذي تتم الأشياء داخله، كأنها لا تتم…
يدخل القارئ في عطالة الزهرانية، ومجانية الحياة وسطحيتها… عبر راو يقف إما أمام باب محله لبيع الألعاب، أو خلف الواجهة الزجاجية، يزيل الغبار عن الألعاب، في حركة روتينية يومية «يذكرنا بعقوبة بينيلوب»، ولا يثير هذه الرتابة، أكثر من مرور شخص، أو سيارة…
يحضر بعض الشخوص عملية الروي «التي تتم دوما على لسان الثخين»، كما أبو عاطف الذي يرقب الشارع من بلكونه، وكما لو أن الأبطال عاجزين عن الحركة لنقل المشاهد… حيث اختار كل منهم ركنا ثابتا ينقل منه مشاهداته، الثخين من محله، أبو عاطف من بلكونه، ثم الزوج الشبح، الذي لا نعرف عنه كثيرا سوى لقب الطويل، جالسا في كرسيه كأنه لا يتحرك أبدا، وسلمى، من بلكونها.
إنها أبدية السكون، لا شيء يحدث، كما أن لو الأخ الثخين قد غاب في الزمن، وظل ممسكا ببيد بممسحة الغبار، في حركة لانهائية، وهو قابعا في حالة «إزالة الغبار عن الألعاب»، ثمة تذكير يشعر به القارئ، أو ربما بعض القراء، بأننا أمام العطالة ذاتها، التي حياها أبطال ماركيز، متمددين في أراجيحهم، وسط الحر والرطوبة، بانتظار خبر ما، أو حركة ما، حتى ولو أن «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه».
أشباح الرواية
في القسم الثاني من الرواية، تأتي المكافأة، التي يقدمها حسن داوود لقارئه المجتهد، المخلص، عبر سلمى، ثم ترتفع درجة المكافأة عبر تيسير، الديستويفسكيّ الرائع. إذ يصعب علينا ألا نحب تيسير، ويصعب أن نمحوه من ذاكرتنا. إنه أحد أشباح الرواية، أشباح الحرب، الذين يتشبثون بذاكرة القارئ، حتى بعد الانتهاء من قراءة الرواية، لأن تيسير لا يحمل فقط البذور المجانية لاستقدام الحرب، بل للحالة الديستويفسكية المعقدة التي يتصف بها، وأنا أعتقد أن تيسير يستحق أكثر من مقالة عابرة، لأنه القاتل العبثي، حامل صفات شخوص ديستويفسكي، ذاهبا بها إلى عوالم كامو، وعبثية الوجوديين.
تيسير، الساذج، الذي كان كل همه بيع عصافيره، تيسير الذي ينهمّ بجوع عصافيره وعطشهم، يهتم باللحظة التي يغافل فيها مضيفته، حين تتركه لحظة، حتى يفرغ حصة العصافير من كوب الماء، حرصا عليهم من العطش، فهل يصدق أحدنا، أن شخصا محبا للعصافير، ملازما لها، قادر على القتل؟ إنها عبثية كامو، ولكن ليس لأن الشمس اخترقت عين ميرسول، بل لأن تيسير كان واثقا، أنه إن لم يقتل ميخا، فسوف يكون مقتولا على يده.
في تفسير العلاقة الداخلية لصيرورة تيسير الفكرية، ثمة عمق وتحليل مهم، من دون تدخل من الكاتب. تيسير الساذج هذا «أبله ديستويفسكي مثلا»، يستطيع أن يميز وبدقة، حين يتحدث والده إليه ويأمره بفعل شيء، جدية كلام والده، إذ غالبا ما يقول والده أشياء، اعتاد على ممارستها كأب، ولا يهمه كثيرا نتائجها. تيسير يحلل وبدقة كل رد منه، وكل صمت أو تجاهل على أي سؤال، يحلل ويقلب ردوده، أكثر مما يطلقها، ثمة حراك داخلي، وتفكير وتحليل لأبسط المواقف: ينصرف من أمام والده حين يطلب منه أو لا يفعل، يضع الأقفاص على الأرض أم يحملها، يجيب على سؤال والده، أم يبقى ساكتا وكأنه لم يسمع، منتظرا أن يسخط عليه والده أو يلتقط يده ويهزه ويصرخ به…
تيسير الذي يستحق وقوفا أطول، يماثل وقوفه الطويل تحت شرفة سلمى، التي تعبث به، ملمّحة بفتح أزرار قميصها، وهو يتسمّر بانتظار فتح الزر الأخير… هذا التواطؤ بين الصبية والشاب، حيث المكافأة الكبيرة، فقط في أن يرى نهديها… سلمى التي دفعت حريتها ثمنا لتلك الألاعيب، حين تزوجت رغما عنها، فقط للتخلص من الفضيحة، سلمى التي لم تكن تفعل للمتعة، بل لإرضاء زوجة أخيها، التي كانت تتفرج على المشهد من خلال ما ترويه سلمى، مختبئة خلفها، تسمع ما ترويه سلمى، وبعد أن تُنهك كلتاهما تيسير، سلمى وكوثر، سلمى الظاهرة في الصورة، وكوثر المختبئة خلفها، ترهقان تيسير، فتصل كوثر إلى قمة إثارتها، عبر زج سلمى في إثارة تيسير، تغلق الفتاتان باب الشرفة، وتنخرطان في لعب خاص بهما، تقوده كوثر، وتستسلم له سلمى، التي لا هم لها في النهاية، سوى إرضاء زوجة أخيها.
ثمة عبثية في مصير سلمى، التي خاطرت بسمعتها، وتزوجت مبتعدة عن عائلتها وبلادها، لتشتغل كخادمة في الدانمرك، حيث يستغل زوجها ماضيها، ويحولها إلى أداة لمتعته، وجلب المال…
عالم البطء هذا، الرتابة، تحركه شخصيات ضجرة، تخلق متعتها، عبر شباب يتلهّون بالوقوف أمام عمود الكهرباء، حركات صبيانية، وتصرفات حمقاء، ألاعيب تفضح الخوف الكامن، وتفجر الحقد الطائفي المبطن. كل شيء بدأ باللهو، سخرية الصبيان من تيسير، ميخا وطوني والآخرين، لهو سلمى مع تيسير… إلا أن بدأ اللهو يأخذ طابعا جديا، يميل إلى العنف، عبر معاقبة والد تيسير لجميع سكان الزهرانية من أصحاب البيوت تحت الشارع، وهو يسحب ميلاد أمام الجميع ويحبسه في داره، عقابا له على التهكم من تيسير، والإصرار على مضايقته، إذ كادت تلك المضايقات تودي بحياة تيسير، حين دهست السيارة أقفاصه وعصافيره… حتى في تحول سلمى من عبث بريء، إلى علاقتها مع وليد، تلك التي كانت سبب فضيحتها.
رواية «مئة وثمانون غروبا» هي رواية «محزونين وحمقى ولا مبالين وأنقياء» كما ذكر الراحل بسام حجار على غلاف الرواية، ومن هنا يأتي وصف عباس بيضون للرواية بأنها عمارة روائية، لأن الرواية متعددة المستويات في الأسلوب السردي الذي يختلف باختلاف الراوي، من الثخين الماركيزي، في الصيف الممل، الدبق، المغبر، أو سلمى، ضحية العادات، وتسلط الأزواج، أو تيسير الديستويفسكي الملامح، العبثي في الوقت ذاته، ميخا الاستفزازي، الذي شكل مقتله، بداية اندلاع الحرب، تلك التي كانت تشتعل في نفوس أهل الزهرانية بصمت، وكان معظم سكانها يتهيأ لها، عبر الرحيل وترك البيوت فارغة، أو عبر شراء البواريد… كل كان يستعد للحرب على طريقته، بصمت وسرية وخوف لا يفصح عنه أحد. إنها عمارة روائية، عمارة تنوع أساليب بنائها، فجاءت قطعة متكاملة، أنيقة، تحمل بصمات داوود الذي يصر على هاجسه الكبير، عبر إخلاصه للغة، وإن كان لصالح الحدث، على أناقة العبارة، حتى ولو ضحى بحيوية السرد، مؤثرا قارئا يستمتع بالعبارة، على قارئ يستمتع بالقص.
(روائية سورية ـ باريس)
السفير