صفحات ثقافية

إممم… المحللون السياسيون

null
سامر أبو هوّاش
“لا أسمع كثيراً فاغنر، لئلا أشعر برغبة جامحة في غزو بولونيا” (وودي ألن)
إنه صديقي. يتصل بي كل مرة: “هل سمعت الأخبار؟”. أو “فلان يتكلم على التلفزيون الفلاني”. أو: “يا ألله (هكذا مع الهمزة على الألف) أكيد ثمة حرب”. “متى؟”، أسأله. يصمت قليلاً: “ما بعرف بالضبط. بس أكيد في حرب”. “حسناً، لا تعرف بالضبط، هل تعرف على وجه التقريب؟ لأنه، كما تعرف، هذا موسم الإجازات، ولا أريد…”. “لا، لا”، يسارع إلى القول – “من هذه الناحية اطمئن”. ثم يصمت قليلاً ليقول: “ذكِّرني، متى موعد إجازتك؟”!
لا بدّ أنه نوع من الإدمان. إدمان نشرات الأخبار. ولا سيما إدمان ترقّب الحرب واستشرافها.
صديقي الآخر إنكليزي، “فيتشي”، غريب الأطوار (لكن مَن من أصدقائي ليس كذلك؟)، يربّي الصراصير كحيوانات أليفة، ويحتفظ بكتب فنية مصوّرة عنها كأنها كتب حدائق. حيث يجلس، أينما كان، في بيته، في مكتبه، في المقهى، هناك دائماً نبتة ما ترتطم وريقاتها بوجهه. أحياناً يحدّثك من وراء الوريقات: “هكذا أتواصل مع الطبيعة”، يقول لي. المهم، هذا الصديق يتابع الأخبار أيضاً، والأخبار “المحلية” تحديداً. ولكي تعرف مدى بؤس الحديث في الأخبار، ما عليك سوى مناقشتها مع إنكليزي مولع بالصراصير. ليس هناك مناقشة بالأحرى، لأن الأخبار ليست موضوع نقاش غالباً. لكن هناك دائماً، في كل خبر، مساحة لـ”في رأيي الشخصي”. “إسمع”، أقول لصديقي – الشجرة الإنكليزية (ليس نباتياً في المناسبة)، “صدقاً، آخر مرة فتحت فيها التلفزيون على محطة إخبارية، رأيت جنرالاً سابقاً يناقش على شاشة عملاقة على الجدار خريطة التنافس النيابي في منطقة لم أسمع بها من قبل في لبنان. الغريب في الأمر أنني جلست ثلاث ساعات أتابع مجريات الأمور التي لا تعنيني في شيء، على الأقل كرمى لتلك الشاشة العملاقة المليئة بالأسهم المضيئة. لذا أرجو أن نغيّر الموضوع”. يقاطعني: “ولكن ماذا عن موقف العماد فلان؟”. أكاد أشهق: “وما أدراك أنت بالعماد فلان. ما همّك موقفه هذا؟”. لو لم أكن متأكداً من العكس، لظننت أنه يقابل سراً صديقي الآخر المتأكد من وقوع الحرب. أغيّر الموضوع: “إسمع، ما هي أفضل طريقة لتربية صرصار منزليّ؟”.
بلى، شاهدتُ الأخبار مرةً بعد ذلك، خلال أحداث “قافلة الحرية”. لكنني طبعاً كنت شديد التقشف.
على كل حال، روى لي صديق ثالث: “لا أستطيع، عند الثامنة من كل يوم يجب أن أفتح التلفزيون على نشرة أخبار “الجديد”، كأن هناك منبهاً داخلياً يدفعني إلى ذلك”.
–  وهل قابلت طبيباً في هذا الخصوص؟
يتابع: “ثم أقوم بجولة أفق لساعة أو ساعتين، “الجزيرة” قليلاً، “العربية قليلاً”، برنامج “توك شو”، أرى الأوضاع…”.
– جولة أفق؟ وهل تحسب نفسك جنرالاً ينهض في الصباح لكي يشنّ الحرب. خفّف قليلاً يا رجل، لم يبق إلا بضع شعرات في رأسك بسبب عاداتك السيئة هذه، ومعظمها صارت بيضاء في المناسبة.
– لكن، يجب أن نعرف متى تندلع الحرب…
– عزيزي، الوضع كله في لبنان وجواره والمنطقة يتلخص في جملة اسمية واحدة من خمس أو ست كلمات، والأسوأ أن معظمها أسماء بلدان. كل ما يفعله أولئك المحللون السياسيون أنهم يقلبون كلمات هذه العبارة وفقاً لآخر المستجدات أو حتى في غياب أيّ مستجدات. هم يتكاثرون. صدِّقني، إنهم يتكاثرون بفضل أمثالك وأمثالي سابقاً. الأمر بهذه البساطة، لقد شكّلوا من أنفسهم طبقة حقيقية، ينهض أفرادها في الصباح، يشربون النسكافيه، يقرأون خمس أو ست صحف إقليمية وعالمية، يشاهدون نشرة الأخبار، ثم تراهم يبدأون بالظهور على نشرات الأخبار المتتالية. طوال الوقت يحدّثوننا كيف تندلع الحرب ومتى ولماذا، ثم عندما تندلع الحرب حقاً، يخبروننا كيف تتوقف ومتى ولماذا، وعندما تتوقف يبدأون بإخبارنا كيف تندلع الحرب المقبلة ومتى ولماذا.
– لا حاجة إذاً الى مشاهدة نشرات الأخبار؟
– أكثر تحديداً، لا حاجة إلى مشاهدة نشرات الأخبار، وكل هذه البرامج السياسية، لفهم شيء مما يجري، ولا سيما مسألة الحرب هذه. ثم إن التجربة خير برهان. انقطع مثلي عن مشاهدة الأخبار تماماً. وبعد ثلاثة أشهر حاول – إذا استطعت الاحتمال – أن تشاهد خمس دقائق من أيّ نشرة أخبار، فستجد أن العبارة التي حدّثتك عنها لا تزال على حالها، ربما مع إضافة اسم أو اسمين، أو حذفهما.
– ولكن ماذا عن الحرب؟ الحرب يا رجل…
– ربما تندلع الحرب الآن، وربما غدا. إنها كالموت، كالمرض، لا يمكن توقعها. ثم إنها بالتأكيد ليست مسألة “الحرب التي ستنهي كل الحروب”، إنها شيء يشبه المسلسلات المكسيكية، أو الأفلام الهندية. بالنسبة إليّ انتهيتُ من كل قضية إدمان المحللين السياسيين هذه. عوّضت عن ذلك كله بمحطة إذاعية تبثّ باستمرار الموسيقى الكلاسيكية، وبين رحمانينوف وتشايكوفسكي قد تسمع أحياناً نشرة أخبار بيئية سريعة. آخر خبر سمعته أن قارة أفريقيا ستنشطر قارتين بفعل تحولات جيولوجية بدأت بالحدوث الآن. لكن الانشطار نفسه لن يحدث إلا بعد ملايين السنين. صدِّقني ليس أجمل ولا أفضل لرفع المعنويات من أن تسمع خبراً تفصلك عن وقوعه ملايين السنين ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى