نحن والقراءة والانترنت
منى فيّاض
هل تعانون مثلي قلقاً وإحساساً مبهماً بالتقصير في القراءة؟ أطرح هذا التساؤل على الرغم من أنني أمضي ساعات يومياً أقرأ! ما السبب إذاً في هذا الشعور الغامض الذي يتملكني في أنني لا أقرأ كما يجب، لا أقرأ كما أرغب، وباختصار لا أقرأ كما اعتدت أن أفعل في ما مضى.
فمنذ أن أفتح عينيّ وأقوم بالأفعال اليومية الروتينية الضرورية، أجلس أمام الكومبيوتر وأتصفح بريدي وأردّ عليه، الأمر الذي يستغرق أوقاتاً متفاوتة بين يوم وآخر. بعد ذلك أتصفح عدداً من الصحف والمواقع الالكترونية لا تقل عادةً، عن خمسة، وأقرأ حول موضوع يشغلني أو أبحث في الـ”غوغل” عن مرجع أو موسوعة أو فكرة. الوقت آنذاك، يمرّ مثل لمح البصر، فالقراءة تأخذك إلى قراءات أخرى وأخرى. وهكذا.
النتيجة: تتكدس الكتب، على الرغم من الحرص في انتقائها، فأمكنة الحفظ تضيق. تقبع رزم الكتب بقربي، في البداية تنظر إليّ كلما مررتُ بها. بعد مدة أضعها في مكان أبعد، “أرتّبها” يعني. وعندما يتسنى لي الوقت المناسب للاستغراق في القراءة كما كنت أفعل من قبل، أقرأ كتاباً من كل عشرة وضعتها على لائحة القراءة المستعجلة.
ما المشكلة التي أعاني منها؟ يبدو أنه “ساندروم الأنترنت”، الذي سحر مستخدميه في بداياته في منتصف التسعينات، فلقد صار في مقدورهم، فجأة، الحصول على المعلومات التي يريدونها بسهولة فائضة بواسطة محركات البحث الأولى، وصار إمكان تبادل البريد السريع والكثيف في المتناول. كما بدأوا الشراء على النت، وعقد لقاءات، أو البحث عن نصفهم الآخر، أو تبادل الأحاديث. إن سرعة تبادل الاتصال والمعلومات هذه، جعلت العالم أصغر فأصغر، ما أثّر كثيراً في طريقة سلوكنا الشخصي والمهني.
صار النت للكتّاب مثل الأنبوب الذي يصلهم بجميع أنواع مصادر المعلومات عبر عيونهم، أو آذانهم. فوائد النت أكثر من أن تحصى، لا يثمّن هذه الإمكان في الوصول مباشرة إلى هذا الكم من المعلومات. لكن يبدو أن لهذه النعمة ثمناً مقابلاً. فقد أعلن منظّر الاتصال الشهير، ماك لوهان، أن الميديا ليست قناة فاترة للأنباء توصل إلينا قواعد للتفكير، لكنها تشكل أيضا سياق هذا التفكير. ويرى كثيرون أن النت يضعف القدرة على التركيز والتفكير. فالفكر ينتظر عبره الحصول على المعلومات بحسب الأسلوب الذي يوزعه لنا النت: كتيار من الجزيئات تسيل بسرعة. قبله كان الفكر يغوص في الكلمات، لكننا الآن نجده يشقّ السطح كما يفعل متزلج الجت – سكي.
يتطلب الأمر انتظار التجارب النيرولوجية والفيزيولوجية الطويلة المدى لكي تتوضح الصورة النهائية لكيفية تأثير الإنترنت في قدراتنا المعرفية. لكن دراسة بريطانية حديثة حول عادات البحث على الإنترنت قامها بها اختصاصيون في جامعة لندن توحي أننا نعاني تغيرات عميقة في طريقتنا في القراءة والتفكير.
أكد البحث ما يأتي: “من المؤكد أن المستخدمين لا يقرأون السطور بالطريقة التقليدية. إذ يبدو وجود إشارات إلى أن هناك أشكال “قراءة” جديدة تظهر، وأن المستخدمين يتصفحون أفقياً بحسب العناوين ومحتويات الصفحات والملخصات للوصول إلى خلاصات سريعة.
ربما صرنا نقرأ أكثر من السبعينات والثمانينات، حين كان التلفزيون هو الوسيط الإعلامي المفضل، بفضل الحضور الدائم للنصوص على الانترنت وبسبب قراءتنا لرسائل الهاتف النقال. لكنه نوع مختلف من القراءة. وكما تقول عالمة النفس ماريان وولف: “نحن
لسنا ما نقرأه فقط، فهويتنا تتأثر بطريقة قراءتنا أيضاً”. ان قراءة الانترنت تعطي الأولوية للفاعلية والمباشرة فوق كل اعتبار، مما قد يضعف قدرتنا على القراءة المعمقة التي انبثقت من تقنية أقدم تعود إلى اختراع المطبعة، وجعلت من قراءة الكتب الطويلة والمعقدة شيئاً عادياً. عندما نقرأ على الويب، نصبح بحسب وولف مجرد “مفككي شيفرة المعلومات”.
والقراءة ليست مقدرة غريزية عند الكائن الانساني كما هي اللغة. إذ يجب أن نمرّن فكرنا ليترجم الحروف المرمّزة التي نراها للغة التي نفهمها. وتبرهن التجارب أن قراءة الايديوغرام (كاللغة الصينية) تنمّي دورة ذهنية مختلفة جدا عن تلك التي تستخدم في قراءة اللغة الألفبائية. تبدأ التغيرات من المناطق الدماغية وصولاً إلى الوظائف المعرفية الأساسية كالذاكرة والتأويل البصري والسمعي. بالطريقة نفسها، يمكن توقع أن تكون الدوائر التي ينسجها استخدامنا للنت مختلفة عن تلك التي تُنسَج جراء قراءاتنا للكتب والمطبوعات الأخرى.
فوق هذا وذاك، تبيّن تجربة نيتشه تأثير أداة الكتابة في الفكر. فلقد اشترى في عام 1882 آلة طباعة بسبب بصره الذي صار يضعف وتعبه من التركيز طويلاً على الصفحة، ما صار يتسبب له بأوجاع متكررة في الرأس. وأجبر على الكتابة أقل، وخاف من ألا يعود في استطاعته الكتابة مطلقاً. أنقذته الآلة الكاتبة عندما سيطر عليها، وصار يكتب مغمضاً عينيه وبواسطة أطراف أصابعه فقط. وصار في إمكان الكلمات أن تسيل من فكره مجدداً على الصفحة.
لكن كان للآلة الطباعية تأثير آخر في كتابته. لاحظ أحد أصدقائه، وهو مؤلف موسيقي، تغيّراً في أسلوب كتابته. فنثره الذي كان مقتضباً ازداد إيجازاً، وصار برقياً: “ربما بسبب الأداة الجديدة سوف تحصل على لغة جديدة”، كتب له صديقه الموسيقي، مسجلاً انه بحسب تجربته، يجد أن أفكاره حول الموسيقى، ولغته غالباً ما تتعلق بنوعية الورق والقلم اللذين يستخدمهما”. “معك حق”، أجابه نيتشه: “أدوات كتابتنا تشارك في تفتح أفكارنا”. وسجل فريدريك كيتلر المختص بالميديا الالماني أن أسلوب نيتشه تغيّر مع استخدامه الآلة من الحجة والبرهان، إلى الحكمة، ومن الأفكار إلى اللعب على الكلمات، ومن البلاغة إلى الأسلوب التلغرافي.
في الخلاصة، غيّر ظهور الساعة من تعامل البشر مع الوقت، كذلك فعلت المطبعة والهاتف والآلة الحاسبة والراديو والتلفزيون. والانترنت “سيستم” للأنباء، لها قدرة مذهلة، يجمع معظم هذه الوسائل التقنية الفكرية. لقد أصبحت هي مخططنا وساعتنا ومطبعتنا وآلة الكتابة والحاسبة والتلفون والراديو والتلفزيون.
لا بد أن النت ليس الألفبائية، حتى لو استطاع الحلول مكان المطبعة، فسوف ينتج من ذلك شيء مختلف تماماً.
العبرة منذ الآن: “أنا موصول، إذاً أنا موجود” ¶
ملحق النهار الثقافي