صفحات الناس

ماذا تريد الأجهزة الأمنية السورية من استدعاءاتها المتكررة للكتاب والصحافيين؟

null
سكايز
يقول جان-بول ماري نقلا عن “لونوفيل اوبسرفاتور” الفرنسية: “ورث بشار الأسد 7 أجهزة استعلامات يديرها منذ أربعين سنة رجال لا يعرفون الشفقة ومقتنعون بشرعيتهم ومتشبثون بممالكهم الشخصية،
أقواهم جهاز الاستخبارات العسكرية وجهاز أمن وزارة الداخلية – الأمن السياسي – وجهاز أمن الطيران – القوى الجوية – وجهاز أمن الدولة ويوجد أيضا الحرس الجمهوري”. أما كثير من السوريين، فيقولون يوجد أكثر من ذلك بكثير ويصلون بأرقامهم الى حدود الثلاثين جهاز أمني الا أنهم يتوقفون عند جهاز الاستخبارات العسكرية و”ذراعه الضاربة” كما يقولون “فرع فلسطين”.
يُطلق عليه البعض: “باستيل سوريا والعرب”، انه “فرع فلسطين” 235 التابع للمخابرات العسكرية. تم تأسيسه في بداية حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد وخصص بداية لاحتجاز الجواسيس السورين والفلسطينين والعرب المتهمين بالتعامل مع اسرائيل. وروى كثير ممن اعتقلوا في هذا الفرع، أنّهم التقوا بسجناء سعوديين ولبنانيين وقطريين ومغاربة وأردنيين. حاليا، يقول أحد الكتاب السوريين: “لا يمكن تحديد نوع الاتهامات التي يتم إحالتها الى الفرع، حيث تجد فيه من جميع أنواع التهم، من معتقلي الرأي الى جرائم الاغتصاب والسرقة، كذلك يوجد فيه الإسلامي والشيوعي والناصري وكذلك يوجد العربي والكردي والأثوري”.
يذكر السيد نزار نيوف الصحفي والناشط الحقوقي بعد خروجه من السجن، في مقابلة مع الصحفي محمد علي الأتاسي، أنه لاقى أشد التعذيب في المخابرات العسكرية فرع فلسطين وقال: “… وبقيت مدة 15 يوماً داخل فرع فلسطين، حدثت المواجهة الأكثر دموية وشراسة، واستخدم معي الكرسي الألماني بشكل وحشي، هذا بالإضافة إلى الصعق الكهربائي والحرق بالسجائر …”.
ويروي مواطن جزائري يدعى فريد عميروش كان قد جاء الى سوريا بقصد السياحة قصة اعتقاله في ذلك الفرع لأيام معدودات بتهمة أنه يحضّر للذهاب الى أفغانستان فيقول: “أنزلوني إلى تحت وهناك وجدت سبعة عساكر ومعهم الكلبشات… وصرخ أحدهم: اشلح ولا!.. لم أفهم ما يعني فلم أتحرّك وظنّوا أنّي عنيد فهجموا عليّ جميعهم وجرّدوني من ملابسي وراحوا يضربونني في أيّ مكان بكلّ قوّة حتّى أغمي عليّ…”.
أما الروائية الفلسطينية مي عبد القادر الحافظ التي اعتقلت ثلاث مرات في السجون السورية فتسمي فرع فلسطين “فرع الفقدان والولادة”، كذلك تقول: “كان الفرع مسلخا للبشر” وتوثق ما تعرضت له من تعذيب في روايتها “عينك على السفينة” حيث تقول: “تسابقوا على دحرجة جسدي على الأرض كما لو أنهم في ملعب كرة قدم، كانوا منتصرين في كل الأشواط”. وفي مكان آخر من روايتها تقول: “كم مرة داس الضابط على صدري، كان يحزّ السكين على عنقي من طرفها غير الحاد”.
كاتب سوري ومعتقل رأي سابق يقول: “الصيت – يقصد الشهرة – لفرع فلسطين، إنّما كل الفروع الأمنية متشابة”.
استدعاءات استدعاءات، ما هو المطلوب؟
كاتب سوري رفض الكشف عن اسمه قال ل”سكايز”: “بعد استلام الرئيس بشار الأسد لمقاليد الحكم في سوريا، وفي سنوات حكمه الأولى، حدث تغيّر ملحوظ في طريقة تعامل تلك الأجهزة مع بعض كتاب ونشطاء المعارضة السورية”، ثم يتابع قائلا: “هو تغيّر في الشكل وليس في المضمون، بمعنى أصبحت القفازات مخملية، انّما بقي العقل السائد لتلك الأجهزة هو هو لم يتغير والاعتقالات استمرت بعد ذلك، لا بل إن تلك الأجهزة استشرست أكثر ولم يعد في عهد الرئيس بشار الأسد شئ اسمه “جناح سياسي” في السجون السورية كما كان في عهد أبيه”.
ماذا تغيّر؟ سؤال “سكايز” هذا أجاب عليه الصحفي السوري أحمد مولود الطيار المقيم حاليا في لبنان حيث روى الكيفية التي تم استدعاؤه فيها الى فرع فلسطين يقول: “تمّ استدعائي الى فرع فلسطين عن طريق التسلسل” ولما استوضحنا منه كيفية الاستدعاء “عن طريق التسلسل”؟ قال: “كل فرع يسلّمك الى الآخر، فأنا من محافظة الرقة، حيث تم استدعائي أولا الى “مفرزة الأمن العسكري” فيها، ومن ثم الى فرع المخابرات العسكرية في محافظة دير الزور، وهناك أعطوني مغلفا مختوما وأوصوني بعدم فتحه ويجب أن أسافر الى محافظة دمشق حيث فرع فاسطين”. يتذكر أحمد بطرافة الآن سفرته تلك فيقول: “كان القلق والخوف ينهشني طوال مسافة ال 600 كم وهي مسافة الطريق بين دير الزور ودمشق، وتذكرت المملوك جابر الذي حمل الحكم باعدامه في وسائل متشابهة”.
لماذا استدعوك؟ سأله “سكايز” فقال: “بسبب مقال كان بعنوان “الرقة وغزة تغرقان في الظلام” حيث آنذاك – لا يزال – الحصار الذي يفرضه العدو الإسرائيلي على قطاع غزة وانقطاع التيار الكهربائي إحدى العقوبات التي كان يطبقها العدو بحق سكان غزة، وبنفس الوقت كانت الرقة تغرق دائما في الظلام رغم أن سد الفرات لا يبعد عنها سوى 50 كم”.
ماذا كانوا يريدون منك؟ فأجاب: “قال لي المحقق بالحرف: “أنت كاتب – باستهزاء – وتفهم بالضمّة والفتحة أليس كذلك؟ فأجبت مطأطأُ نعم، فقال بكل شراسة: “ضم وإلا سنفتحك”.
كاتب آخر مقيم الآن في سورية ولا يمكن الكشف عن اسمه قال: “كل مقال أكتبه، يليه استدعاء الى جهاز أمني، ما يضطرني الى الاستعارة واللعب على اللغة وأكاد أتوقف تقريبا عن الكتابة في الشأن العام”.
الكاتب والمفكر السوري ياسين الحاج صالح وفي مقال له بعنوان “من يهين سوريا” يلخّص سبب تلك الاستدعاءات، وهي وان توقفت عنده هو شخصيا بسبب من ذيوع اسمه وشهرته، إلا أنها مستمرة كما أخبرنا كاتب آخر أقل منه شهرة. يفتتح ياسين مقاله بالقول: “لم يخطر لي على بال أنه سيطلب مني خلال آخر استدعاء إلى أحد أجهزة الأمن في دمشق “التعاون”، أي الوشاية بأصدقائي إلى المخابرات و”كتابة التقارير”، ثم يتابع: “قال الضابط الذي قابلني إن “التعاون بيننا هو لخير الوطن” “.
تستحضر ذاكرة ياسين عبر المقال المشار إليه ما كان يجري معه وزملاءه في المعتقل فيقول: “لقد ذكرني العرض بـ”المساومات” الأمنية التي كنا نتعرض لها في السجن على يد لجان مختصة، تتعاون معنا مقابل الإفراج عنك. كان الخيار المطروح علينا أن نكون سجناء أو أذلاء”.
ويقول ياسين في مقاله: “كان استدعاء 29/1/2005 هو العاشر إلى فرع أمن في دمشق منذ أيلول 2001 منذ خروجي من السجن آخر عام 1996”.
يختم ياسين مقاله بمرارة فيقول: “لست مواطنا وليس هذا وطني! وطني يقيم في الزنازين لا في المكاتب الفخمة، ويمشي على قدميه أو ينحشر في “السرفيس” ولا يركب المرسيدس والهامر، ويعيش من جهده لا من سلطته الامتيازية، ويسكن بيوتا بائسة لا في فيلات ومزارع!” ثم يتساءل بنفس المرارة: “من يهين سوريا ومن يصونها ويحفظ كرامتها؟”.
مها حسن، روائية سورية كوردية حصلت على جائزة هيلمان/هامت التي تنظمها منظمة “هيومان رايتس ووتش” المتخصصة في الدفاع عن حقوق الانسان، استطاعت الإفلات من قبضة المخابرات السورية، التي شنت حملة اعتقالات شرسة ضد الكثير من المثقفين والحقوقيين الأكراد وهي تعيش كلاجئة سياسية منذ عام 2004 في فرنسا.
تقول مها: “أنا كوردية ضمن وسط لا يؤمن بحقي القومي وكاتبة في بلد لا يحترم حرية التعبير”، كذلك تقول: “أحلم بالديموقراطية المطلقة لكل الشعوب، أحلم أن يسمع الكورد موسيقاهم ويدرسون في مدارس كوردية”. تتساءل مها مستنكرة في مكان آخر: “هل يعقل أن يتم اعتقال أشخاص بسبب قيامهم بتدريس اللغة الكوردية !” وتجيب: “أنا أعتبر هذا الاعتقال لا جريمة فحسب بحق مسائل الحريات والثقافات بل وبحق الحضارة، فكيف نحاسب أشخاصا لأنهم يعلّمون لغة! واللغة معارف والمعرفة حق”.
خولة غازي اعلامية سورية تعيش الآن في الامارات وتخشى العودة الى سوريا مخافة الاعتقال، كتبت في الصحف الرسمية والخاصة في سوريا إضافة إلى أنها من أهم من كتبوا في الاعلام الالكتروني السوري، وكانت مقالاتها تلقى صدى طيب، كونها تعنى بالشأن الداخلي وتكتب هموم المواطن، وهي كاتبة قصة قصيرة ولها مجموعة بعنوان “الخروج من جسد النص”.
وتقول عن الاستدعاء الأمني: “سواء كان لطيفا ام لا فهو بغيض، لانه استدعاء لجهة امنية يذهب الفرد فينا مصحوبا بإرث كبير من الحكايات والقصص التي ليست بالاساطير بالتأكيد… وعلى هذا فكل مرة كان يتم استدعائي بها اشعربأن حركة الهواء ثقيلة وبأن الالفية الثانية لم ندخلها بعد”. وعن عدد المرات التي تم استدعاءها فيها الى الفروع الأمنية وكيف تم التعامل معها تقول: “لقد تم استدعائي لاكثر من مرة لفرع المعلومات في امن الدولة، والتعامل مهما كان لطيفا فهو وصائي على العقل وعلى الفكر… وفي غير اختصاص لانه منطقيا نحن تابعين لوزارة الاعلام، وهي من المفترض ان تعاقبنا اذا اخطأنا حسب تعبيرهم… لذا كان الصدام مع هذا الفرع حول هذه النقطة، اذا ليس من المستحب ان يناقشني في قضايا اعلامية ضابط امن… اي انني من المفترض ان اذعن له، وفي حال لم يتم ذلك، فالمصير هو ما انا عليه الان”.
مقالا الكاتب ياسين الحاج صالح المشار اليه
مـن يهيــن سوريــا؟
ياسين الحاج صالح : 31/1/2005
لم يخطر لي على بال أنه سيطلب مني خلال آخر استدعاء إلى أحد أجهزة الأمن في دمشق “التعاون”، أي الوشاية بأصدقائي إلى المخابرات و”كتابة التقارير” عنهم. كنت أتخيل أن ذهنية التعامل مع المعارض عدوا والعمل على إبادته معنويا وسياسيا وأخلاقيا، على طريقة معاملة عشرات ألوف السوريين خلال العقدين الأخيرين المظلمين من القرن العشرين، قد آلت إلى ما تستحق: نفايات تاريخنا. قال الضابط الذي قابلني إن “التعاون بيننا هو لخير الوطن”، ما يعني ان عملي الحالي، الذي لا أعرف إن كان السيد الضابط يعلم عنه شيئا، لا “يخدم الوطن”، أو على الأقل لا يخدمه مثل الوشاية والتلصص على الناس وبذل الجهد للإيقاع بهم وكشف سرائرهم وتسطير التقارير عنهم.
كان استدعاء 29/1/2005 هو العاشر إلى فرع أمن في دمشق منذ أيلول 2001. لكنها المرة الأولى التي يعرض علي “التعاون لخير هذا الوطن” منذ خروجي من السجن آخر عام 1996. لقد ذكرني العرض بـ”المساومات” الأمنية التي كنا نتعرض لها في السجن على يد لجان مختصة: تتعاون معنا مقابل الإفراج عنك. كان الخيار المطروح علينا أن نكون سجناء أو أذلاء، إما أن تخسر حريتك أو كرامتك، ولا مجال لأن تكون حرا وكريما في الوقت ذاته في بلدك، “الوطن”. وكانت “المقدمة النظرية” الدائمة لتلك المساومات هي أن المرحلة حرجة والأخطار محدقة في البلاد..، وأن “التعاون” والوشاية ببعضنا بومواطنينا هو دورنا، نحن السجناء، في المعركة الوطنية.
قبل ثلاثة اعوام استدعيت إلى الجهاز الأمني ذاته. كان الشخص (الأرجح أنه برتبة مساعد) الذي قادني إلى مكتب أحد الضباط هو ذاته الشخص الذي قادني هذه المرة إلى مكتب رئيس قسم الأحزاب في الجهاز المذكور. وقتها أعاد علي “المساعد” بالنبرة ذاتها وبالكلمات ذاتها وباليقين ذاته جملة “نتعاون لخير هذا الوطن”. أعادها مرات وهو يضع يده في جيبه ويشدد على عبارة “هذا الوطن” إلى درجة تبعث على الظن أن ما في جيبه هو الوطن بالذات، وأنه ربما يظهره في أية لحظة لعيني المتشككة. والواقع أنه في العهد الذهبي لأجهزة الخوف السورية كان كل شيء يقول إن “الوطن” هو شيء لا يلتقيه المرء إلا في غرف التحقيق أو في أقبية التعذيب في تلك الأجهزة. المعادلة الضمنية هنا: الوطن هو المخابرات، والوطنية هي القدرة على التعذيب مع الحصانة التامة من اي عقاب، والوطنيون هم الجلادون. هذا القلب التام للقيم منبع ثر ودينامي لخراب الوعي والرابطة الوطنية.
لكن في ذلك “الاستدعاء” قبل ثلاث سنوات، وقد كان الثالث بعد أيلول 2001، امتنع الضابط عن عرض “التعاون” علي، ربما شعر بأن من غير اللائق أن يعرض على سجين سابق أن يبيد نفسه أخلاقيا وسياسيا. فضباط الأمن وعناصره يعرفون جيدا مغزى عرضهم، ولذلك بالذات يعرضونه علينا، كمثقفين وناشطين وسياسيين معارضين. لسان حالهم يقول المثقف الجيد هو المثقف الميت.
هذه المرة وفي بداية عام 2005 لم يمتنع الجهاز عن عرض “التعاون لخدمة هذا الوطن” علي، تاركا لي ان استنتج أن “وطني” يستفيد مني واشيا بينما قد يتضرر مني مثقفا، يحتاجني ميتا أخلاقيا وسياسيا وليس حي الضمير مستقل الرأي.
لكن ربما اتساءل: ما هذا الوطن الذي يستفيد من كتابة التقارير أكثر من كتابة المقالات والدراسات؟ وما حال الوطن الذي يتقدم فيه الواشي على المثقف؟ بل لا يثبت المثقف أهليته الوطنية إن لم يكن واشيا؟ وهل مثال المواطن الصالح الواشي معدوم الضمير و”كتيب التقارير”؟
لست مواطنا وليس هذا وطني! وطني يقيم في الزنازين لا في المكاتب الفخمة، ويمشي على قدميه أو ينحشر في “السرفيس” ولا يركب المرسيدس والهامر، ويعيش من جهده لا من سلطته الامتيازية، ويسكن بيوتا بائسة لا في فيلات ومزارع!
من يهين سوريا ومن يصونها ويحفظ كرامتها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى