قصائد الجسد والوحشة والصبر والعنف
علي جازو
أيتها الخطوط المهانة في ركبتي الخرساء، يا جعدات المدفن العظمي. ماذا يحدث لتلك العجوز المتنهدة القاسية التي أكلت عقلك بحبها الأملس البارد؟ أما تزال ـ يا وجهي الأخرق ـ ترى الفتيات النضرات المسحوقات بأنظار الشعوب السوقية؛ من هناك حيث يبتكر الخوفُ مذلاتك الرقيقة؟ ! إني أشرب لهباً من النحـاس ومن الحقد نحو البشر، ويدُ الله على كتفي مثل قلبي الميت مثل عيني اليابسة.
والخلاصات الخليعة ـ عن سهول كردستان الجنوبية الغربية الملوثة بالأحزاب المرخصة والممنوعة على السواء ـ تطعنُ بسهام القمح وأكواع الفلفل سربَ طيور برتقالية تتفجَّرُ بنهمٍ حول روحي الساقطة كقلب حيوان مريض! . أنا مسلولٌ كهذه المرأة المنفية المترملة على رصيف بلدية عامودا حيث تزدهر الأكاذيب والعطالة والأفكار كلها، ولا يتحرك غير صدأ داخل عيون جاحظة متجمدة! سوف أرميكم عنوة في بساتين زجاج صلب لعقول لامعة كالياقوت. إني أرى تاريخ اللحم البشري المقرف الذي عثرتم عليه فوق أسرة عشقكم الأبله الخائر، وأرى ما سوف يتلف ذرى الأشجار. هدوئي محتَقَرٌ كوجه الكذاب، رجاحةُ عقلي سقْطُ لعابُ المدير البدين! ! . بوْمْ بُمْمْ. . ما هو صمتي إزاء الرعبُ الذي ينهشُ أرجلَ أطفالكم؟ ! تراكْ ترَكْ تِرَكْ هيلا هيلا. . ما هي لعبتي وأنا بينكم مثل شحاذ على فم مدفع، مثل نرجسة هي الخوف، هي النفاق، هي الأزمنة الحديثة المثيرة للقيء! !
2
اليأس أفضل من يخترع براز المستقبل النقيّ. بل إن الغضب يعثر على أشهى لحظات الحب، والسماء الخفيضة جيب على صدري الأبيض الأبله كأحجية ريفية هاذرة. من يحاول سبي الشيخوخة إلى قلبي الهارب؟ آه إني أتدرب على العهر كل يوم، كأن لا شمس فوق رأسي الفارغة، كأن لا ريح حول يدي! وما تكون مواثيقي الرديئة، عسفي وضعفي، وحدي أمدحهما على مرأى من خشونة أبنية الرب الجديدة؟ يا لهذا الهواء الحار الشرس بين سويقات الشعير المجزوز. روحي مختنقة بهذه المقاطع المديدة الساخنة، وأنا أحلم بأماسي الشرور القادمة كأني أنتصر لملائكة الحصادات الخضراء المغرورة ذوات الجباه الضخمة العالية المقامرة. !
3
سوف أبلغ الطريق المهجور قرب التلة الخربة وعيناي في قلبي مثل قنبلتين منزوعتي الريش. جئت لأصرخ أني عبدُ التراب المرتفع القديس، حيث يسقط الجرف تلو الآخر مثل كلمات الرب عن ألاعيب المآذن الصــدئة. في ســاعات القسوة المريضة أسمع خوار العانســات البدينات كمومسات يتهيأن للشيــخوخة الكدرة. لا شيء بين أفخاذهن سـوى عظات عجائز هلعات بعيون كفتحات الآبار المتهدمة. وتحت لساني شجرة قزمة وبين يدي آلام الخوف والذل والصبر. ها أنذا أعبر قلب مدينتي كرفات فوق نعش يقطع سوق العرصة المعلقة بكلاليب القصابين ذوي السواعد الزيتية المفتولة اللامعة، وأســفل أحذيتهن السوداء جلود بقرات مسلوخة، تضحك الشهوة وترتعش في لحمهن الأحمر الندي.
4
أيتها الأرصفة الوعرة المتدلية مثل مسابح الملالي الناعمة تنعس بين أصابع ذات جلود رطبة خاملة، وأنتن أيتها العتبات الترابية اليابسة المعضوضة بنعل أحذية أجيال العنف الصابرة، إني أحضن حرارة لفحات العصر المتبخرة عن صدوركن المركولة اللاهثة. لقد رأيت فتاة نحيلة متحسرة بقميص وردية يضيق صدرها مثل قبضة حديثة محكمة، وعيناها تذروان في وجه جارها الحليق ابتسامة مزرقة بخفاءٍ عكر كنفحة هواء مغبر على أرجوحة صدئة فارغة. أي حديد يلجم فمها عن كلمات صدرها المنتصب المزدحم برائحة جذعها المنحني على ركبتيها المنثنيتين وحنكها يضغط على يديها القابضتين برق سجنها اليومي العابس؟ ولمَ تتفادى صوتها المعلول كأنها تسحب حبّها المتلصص من زاوية رملية معتمة؟ يا لوساعة أجنحة عينيها الطويلتين وهي ترفع رأسها عن بركة زهور بلون سماء صيفية غارقة؟!
5
أيتها الحوانيت المستطيلة الباكية الثملة العفنة، يا باعة الهدوء الجهنمي المتفوق العنيد، وأنتن أيتها الابتسامات الثقيلة المرعبة، إني أمنحكِ الفرصة الوحيدة لموت ذي طاقة خارقة؛ موت دون حد الجريمة ودون حق الحرية الكاذبة. موت ذو أسنان ذهبية دامعة بلا فعل وبلا دعاء؛ لأنك فقدت بهاء أصابع الباعة الجوالين، وأقفلت قلوبك الوحيدة صحبة نغمات الفجر الحمراء المنعشة ولا شأن لك مع الأحجار ولا مع الجواهر الذابلة، لا شأن لك مع الموسيقى ولا مع صمت الشوارع الليلية الهانئة الفارغة كزمن المعاول الصلدة الحانية على رقاب الأرض العارية. لا أحد يراقبك سوى الأبالسة ولا أحد يعملك سوى الجثث. إني أتبول على عتباتك أيتها المصائب المفتوحة الشرهة. إني أتنازل عن بهجتي كلها لقاء قصفك بالمدافع ذوات الفوهات الدائرية المرحة لقاء دعوتك إلى الأبدية الزاحفة قرب ميثاق النجوم!
6
هذه اليد الفتية الغاضبة النادرة، كم بحرقة شاحبة، تدرك عظمها الأبيض المتألم الشفاف المنير؟ إنها تسكر وتصفو وهي متصلبة تحت عمر الثلج والحصى البائسين! من يتذكرها سوى بشرتها اللحمية الخفيفة كالريش، كنظرة عصفور خاوية؟ هذه اليد قلبٌ ذو شوك وردي حادّ، ضجرُ ساعة عقيم. لكنها ممسوخة بطرق العذاب المتألقة الصافية الباردة، ومن يقبلها بفم الريح كلها فإنما يبسط على روحه أكثر الأجنحة سخونة وثقلاً وطراوة؛ أكثرها نأياً عن الأرض الشنيعة حيث المكان قفصُ منيٍّ بلا أحلام مرتعشة كأوراق الصفصاف! هذه اليد ممحوّةٌ بفراشة، بقتلة مبتسمين، وهذه الكلمات المتعثرة الخائبة سماء مغلقة منوّمة متفتقة بنجوم كالفئران، محصنة مقهورة بأكاذيب سحرية غادرة.
7
عيناي تشهدان قبور الفجر الناهدة. آه؛ أيها الفجر يا بياض ضلعي الخجولة، وأنتِ أيتها السهول المسنة المحتضرة: إنني، مذلولاً ناقماً، أرفع تلالك الذبيحة بين أسناني الشرهة مثل روح مشوّهة تمزق لحم دمي الخائف الظامئ بصمته الرتيب المعاق! من يولم هذه الينابيع الجاحدة الحذرة المتخثرة حول جفني المذهولتين بألف رقدة مرعبة عاتية؟ ! إني معوزٌ تهمزني أنياب السحالي الملفوفة اللينة وملوكٌ من حشرات زرقاء يانعة تلتهم نملَ الربّ الزاحف كخط أسود ناتئ على جبهتي التي صنعها أبي وهو ينظر بلهفة خائبة في حبة شجرة زيتون قاحلة. الزمن يمر، الزمن يتساقط وحباته تصقع فوق أنفاسي، وهي تمائمُ رضيعة داخل عينيّ!
8
أنا خَنِثٌ كقمر ناعظ في تلاوة ذهبية عاقرة. بل إنني ظفرتُ بجنس البغل ذي الحافر القوسي الجامد. وهو في قلبي مثلما بلا عبء أرى الفجر والغروب. هذه القرى المنحطة لزجة متسولة. وأنا أبحث لها عن كارثة حاسمة أرضها المطعونة بالكسل والأظافر الطويلة القذرة. بعض الوقت لا أجادل عقلي العنيد الذي أثمر كآباتي الساحرة كلها. لا أرغمه على العمل أو الحب الدائم أو تبادل الرأفة مع الألم. لستُ مالكاً عقلي، لكنني نذرتُ نفسي لتحطيم القرى ذات الهواء الشحاذ المنافق؛ لأن رغبتي خشنة مثل جدرانها مثل شجراتها العسكرية الفقيرة، مثل شفاه أطفالها وصوف بهائمها المحبب المبصوق على الصفحات الأولى للصحف المحلية الميتة!
9
أيتها الدواليب المجرَّحة؛ ذوات الأسنان الممحوّة المحاصرة، يا دوائر جلود الطرق المسلوخة بصمت ظهيرة من آب المتعرّق اللاهث، سريعة حين تعبرين جسر«حمدوني» الخفيض، لا تمرري عيونك المكفوفة سريعة لئلا تفقئي دمامل المقابر المطوقة. انظري جهة مزار «أبو جرادة» الملفوفة عواميده بخرق الأمنيات الخضراء ومعادن النقود الظليلة المتوحشة. ثمة حقول القطن المنحدرة ـ في كآبات الريف الكردي البائس ـ أسفل صخور الحواف السوداء، أسفل صخور الحواف السوداء! وفوقهم محارس الجنود الأتراك رمتهم أقدار مجنونة مثلما تُقذف فؤوس موحلة من أيدي ملائكة قساة؛ حوّلهم الصبر والعنف والخوف إلى آلات غيوم بنية مرعبة. ولا أحد يتأملك أيتها الاسورة المطاطية الرقيقة السوداء المضنية، ولا أحد يغفر أيتها القرى الساقطة، يا جحيم اقتصاد السوق الاجتماعي المخادع.
(شاعر سوري)