صفحات ثقافية

في عولمة وتفاعل الثّقافات وتحاورها

null

ماجد الشيخ

لنتّفق بداية على أن ليس هناك من ثقافة ضدّ الحياة؛ إنّما هناك سفسطات غيبيّة تتمظهر على شكل تديّن شعبوي وتقاليد متوارثة، وإرثا يتداور بين أجيال الأمم بطرائق شمولية، حتّى نال شيئا من «القداسة»، وقد أمسى لدى قطاع عريض من السّلفيّة التّقليديّة من «الدّين الحق» بينما الدّين منه براء، لكن إذا ما صادفنا أناسا يجاهرون برأي أو بموقف ضدّ الحياة، كبعض المغرقين تديّنهم الخاص بتهويمات صوفيّة منذورة للخرافة، أو المنتمين إلى تيّارات دينيّة بعينها، انحيازا لأفضليّة «الموت المقدّس» ضدّ «الحياة المدنّسة»، كإنحياز يعتقدون أنّه يناصر الإلهيّات المفارقة. مثل هذه الثّقافة ليست وليدة عقل مدرك أو العقل الصّانع، إنّها أيديولوجيا خالصة معادية للثّقافة؛ بما هي نتاج العقل المدرك والفاعل. من هنا فإنّ ما يعادي الدّولة أو الحداثة أو حتى الثّقافة ذاتها، إنّما هي تلك الأيديولوجيا الخالصة لا ثقافة ما، ولو أطلق عليها بدائيّة، الثّقافة واحدة من بنى المعرفة الرّئيسية المتخطّية للبدائيّة؛ بما هي باكورة عقل طفلي لم يدرك بعد مآلات وجوده المتحقّق.

من هنا فإنّ الطّبيعة الإنسانيّة ليست متشاركة على الدّوام، كما هي ليست متطابقة، بل إنّ الاختلافات الثّقافيّة مسألة بديهيّة، طالما أنّه على نقيض المعارف العلميّة المطلقة بحدود أو إلى حدّ ما، فإن معارفنا الثّقافيّة وفي أعمق رؤاها تبقى أكثر نسبيّة بالضرورة. لهذا امتلكت الدولة نسبيّتها من كونها ليست منجزا علميّا إطلاقيّا؛ لا لجهة ماهويتها ولا لجهة هويّتها لا الماضويّة ولا الحديثة، كون الثّقافة بالنّسبة للدولة أكثر موضوعيّة من إمكانيّة إكسابها حكمة ذاتيّة. وكما يلاحظ آدم كوبر (كاتب من جنوب افريقيا) في كتاب له بعنوان «الثّقافة.. التّفسير الانثروبولوجي» (عالم المعرفة/الكويت)، فإنّه على المدى القصير وقفت الثّقافة أو أشكالها الجنينيّة الأولى (التّقاليد والإرث التّاريخاني) عائقا في سبيل الحداثة (أو التّصنيع أو العولمة) إلا أنّ أشكال الحضارة الحديثة في النّهاية ستتخطّى أشكال التّراث المحلّي الأقل فاعليّة، فقد استحضرت الثّقافة عندما برزت الحاجة إلى تفسير سبب تمسّك البشر بالأهداف غير المنطقيّة وباستراتيجيّات تدمير الذات، وطوّحت المقاومة الثّقافيّة مشاريع التّطوير، وانهارت الدّيموقراطيّة لأنّها كانت غريبة على تراث أمّة ما، ولم تستطع نظريّات الخيار المنطقي تبرير ما أطلق عليه الاقتصاديّون يأسا «اللزوجة» لوصف الأساليب الفكريّة والأفعال الرّاسخة التي تصمد في وجه أقوى الحجج.

لذلك كانت الثّقافة هي الملاذ من أجل تفسير السّلوك غير المنطقي ظاهريّا، كذلك كانت الثّقافة هي السّبب وراء النّتائج المخيّبة للآمال لكثير من الإصلاحات السّياسيّة، وكانت التّقاليد هي الملجأ للجهلة والخائفين، أو المعين للأغنياء والأقوياء المدافعين ضدّ أيّ تحدّ لإمتيازاتهم الرّاسخة.

العولمة تاريخيّا، وكعمليّة تاريخيّة، ليست نتاجا عصريّا حديثا لتطوّر المجتمعات والدّول، بل هي نتاج عصور قديمة كذلك، قبل أن تتحدّد الدّول في نطاقات جغرافيّة محدّدة، ولم تكن وقفا على امبراطوريات معروفة، قدر ما كانت ولادتها نتاجا لسيادة حضارة ما؛ ونشرها لتأثيراتها ومفاعيلها على مساحات أوسع من إقليمها، أو الأقاليم التي خضعت لسلطانها، ذلك أنّ العولمة في أبعادها غير الحصريّة، لم تكن كراهنتها اليوم، ضربا من ضروب الفرض القسري والإكراه غير المباشر، إكراه الدّول والمجتمعات وهوياتها المتنوّعة على الخضوع لمركز العولمة الفاعل، خدمة لمصالحه، المصالح الضّيقة للقائمين على عمليّة التّعولم السّوقيّة، تلك التي تخطّت الحدود، حدود الدّول والقوميّات؛ وجعلت من دول عدّة مجرّد أسواق تخضع لأنساق هيمنت عبرها قيم السّوق، تلك التي عولمتها عمليّة هجينة لم تكن للعديد من الدّول يد فيها لا من قريب ولا من بعيد.

إنّ العولمة التي تتجاهل ضرورة تفاعل الثّقافات وتحاورها، إنّما هي تحكم بالفشل على ذاتها، وبدفع أبناء الثّقافات؛ وحتّى أبناء الثّقافة الواحدة، للقفز إلى أتون المنازعات والصّراعات القوميّة والعرقيّة والطائفيّة، وحتّى المذهبية أو الفئوية والجزئيّة الأصغر أو الأضيق.

إنّ عولمة لا تقود أو لا تجعل من غاياتها ومآلاتها الحاضرة والمستقبليّة هدفا مركزيّا لإسهامها الفاعل في عمليّة تخليق تعبيرات ثقافيّة عن الهويّات الجماعيّة /الوطنيّة، إنّ عولمة كهذه على ما بتنا نراها في أيّامنا هذه، هي التي قادت وتقود إلى تناسل الحروب الأهليّة وتغليب منطقها في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وانقلاب المجتمع ضدّ الدّولة في قسم من العالم، وفي أقسام أخرى انقلاب الدّولة ضدّ المجتمع وطغيان واستبداد سلطويّتها، دحرا للعلاقة المتوازنة، وتحوّلا نحو الوقوف في وجه الإصلاحيّة الليبراليّة تغييبا للعلاقة الدّيموقراطيّة، وتخليق علاقات عسكرة مجتمعيّة، تغييبا للسّياسة بمعناها الثّقافي، أي بالمعنى القائل بأنّ كلّ ثقافة هي بالضرورة متعدّدة الثّقافات، وأنّ كلّ سياسة هي بالضرورة كذلك متعدّدة السّياسات. إلاّ أنّ العولمة المتعدّدة بتعدّد مراكزها الفاعلة، هي وحدها ما يمكنها من احترام تعبيرات الهويّة المتعدّدة بتعدّد الثّقافات وتنوّعها. هذا التّنوّع، وما تتقاسمه الثّقافات في ما بينها هي ما ينتج الاختلافات في ما بيننا ـ بحسب ليفي شتراوس ـ وهذه الاختلافات بدورها تعتمد على العلاقات المتداخلة. ذلك أنّ التّنوّع هو عامل أقلّ تأثيرا في عزل المجموعات عن العلاقات التي توحّدها. رغم ذلك هناك أكثر من تعبير عن الهويّات الجماعيّة التي وضعتها العولمة الرّاهنة أمام تضيّق لا بأس به في تعبيراتها.

للأسف لقد تكشّفت «ثقافة» الممانعات عن أيديولوجيا إقصائيّة، احتكاريّة، استبداديّة في جوهرها وجوهر ممارستها العملانيّة في الواقع السّياسي والمجتمعي، ومثل هذه الأيديولوجيا الغيبيّة قلبا وقالبا، حتّى وهي ترتدي لبوسا علمانويّا؛ لا يمكنها أن ترتقي سلّم الحداثة؛ طالما هي لا تسعى إلى إنتاج ثقافتها العصريّة الخاصّة، أو يمكنها الانتماء إلى نوع المقاومة المحبّذة وطنيا، المنتمية إلى مشروع الدّولة الوطنيّة، اللهم إلا إذا كانت همومها بالأساس لا تتجاوز هم الهويّة الصغرى الجزئيّة. أمّا الهويّة الكبرى الوطنيّة فهي ليست أكثر من وسيلة؛ يجري اعتمادها وصولا إلى المبتغى التّسلّطي أو السلطوي لثقافة ليست ثقافة، ولمقاومة ليست تقاوم إلا دفاعا عن سرديّاتها الخاصة، الفئويّة.

إنّ احتكار وظيفة أو وظائف الدّولة من قبل تكوين طائفي أو فئوي لا يسهم في الحفاظ على هويّة الدّولة، بل يحيل هويّتها إلى عنصر تجاذب بين مكوّنات المجتمع ـ مجتمع الدّولة ـ وتماهيها مع هويّة جزئيّة قد تكون مهيمنة فعليّا أو عرفيّا أو بحكم الأمر الواقع. رغم أنّ الهويّات الصّغرى مكوّنات مجتمعيّة لا دولتيّة، فالمكوّن الدّولتي الحقيقي هو الهويّة الوطنيّة الجامعة، وكل محاولة لتماهي الهويّات الجزئيّة ورفع ذاتها إلى مصاف الهويّة الوطنيّة ومزاحمتها، هي محاولة بائسة لوسم الدّولة واحتكارها بميسم البدائيّات القديمة إياها؛ التي شكّلت وتشكّل العائق الكؤود أو السّياج الحاجب أمام مهمّة بناء الدّولة العصريّة الحديثة التي يراهن عليها، للانتقال من الدّولة الرّيعيّة أو الزّبائنيّة أو الرّعويّة، إلى دولة المواطنة أو الدّولة ـ الأمّة.

كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى