التنوير: قراءة اشتراكية
غياث نعيسة
تكاد لا تخلو أحاديث و كتابات عدد هام من المثقفين العرب، وحتى القوى السياسية المعارضة، من دعوة رائجة إلى التحديث والتنوير وضرورتهما في حياة مجتمعاتنا و مستقبلها، و ترقى هذه الدعوة إلى مستوى البرنامج السياسي لهذه الأحزاب والشخصيات . في سوريا، مثلا، نكاد لا نجد حزباً سياسياً معارضاً ولا مثقفا ، بل وتشاركهم أطراف يسارية بذلك، إلا ويعتبر أن الأفق السياسي المطروح والأمل المنشود لحل مشاكل البلاد والناس هو “الدولة المدنية الحديثة” القائمة على أفكار التنوير، فقد أصبح هذا المفهوم الغامض حلاً سحرياً لمشكلاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية و، بالتأكيد، الثقافية أيضا. بعبارة أو بأخرى، علاوة على فكرة التنوير التي ترافقها كضرورة تاريخية لبلادنا، فإن كتابات غالبية المثقفين والقوى السياسية في منطقتنا تطفح بمقولة “الدولة المدنية الحديثة”. والحال ، ثمة تساؤل يستحق الاهتمام عما يدفع بأصحاب أطروحات الدولة المدنية الحديثة والتنوير إلى الدعوة لها مجددا اليوم في القرن الحادي والعشرين، بعد عقود طويلة من بزوغ الدول الوطنية المستقلة إزاء خروج المستعمر منها وحصولها على استقلالها و بعد مضي أكثر من قرن على عصر التنوير في منطقتنا!
بالطبع، لا يمكن إغفال أن إعادة طرح أهمية التنوير من جديد وثيق الصلة بوقائع عاشها العالم و منطقتنا منذ السبعينات من القرن الماضي. وعلينا ألّا ننسى أنّ أعداداً كبيرة من السكان في مجتمعاتنا تعاني بشكل متزايد من حالة التفقير و التهميش. يترافق ذلك بوجود حكومات تضيف إلى ما سبق بتقليصها لهامش الحريات ومن ثم إغلاقه هذا إن لم نتطرق لحقيقة قيامها بذلك بشكل استبدادي صرف. وبالمقابل، يتزامن ذلك مع تراجع مريع لقوى اليسار في بلداننا بل و للديمقراطيين والعلمانيين عموما لصالح قوى سياسية ومنها جماهيري ترفع راية الدين. نعتقد أن أطروحة التنوير والدولة المدنية الحديثة قد برزت على هذه الأرضية كحل سحري لواقع مجتمعاتنا الذي تراه النخب المعارضة مستعصيا على الفهم و التغيير و مترديا في غياهب اللاعقلانية.
أفكار التنوير
لا ضير في تذكرنا أن التنوير في الغرب قد رافق الثورة المزدوجة: الديمقراطية (البورجوازية) والثورة الصناعية معا، أي انه كان ظاهرة اجتماعية و ثقافية نبعت من نمو الرأسمالية نفسها و ساهمت بنفس الوقت في تعزيزها و انتشارها. وتمحورت ظاهرة التنوير هذه – التي نشأت في الغرب في القرن السابع عشر بينما في بلداننا في القرن التاسع عشر و هما تاريخان مرتبطان باندماج المجتمعات المعنية مع نمط الإنتاج الرأسمالي- حول ثلاثة أفكار رئيسية ، يحددها نيل دافدسون،هي : أولاً، فكرة أن حقلي الطبيعة و المجتمع البشري هما حقلان قابلان للتفسير و الفهم من خلال العلم و بالتالي هذا يعني إمكانية التأثير عليهما و تغييرهما، الأمر الذي يعني الإقرار بسمو العقل البشري. والفكرة الثانية، تقول بان البشر منذ ميلادهم و باعتبارهم من الجنس البشري يمتلكون حقوقا بصفتهم كذلك بغض النظر عن دينهم أو عرقهم، و هو ما يعرف بعالمية و شمولية الحقوق الأساسية للإنسان. وأنا الفكرة الثالثة للتنوير فتقول بأن تاريخ البشرية له اتجاه محدد ليس معرضا للركود أو النكوص بل يتقدم، وهي فكرة التقدم.
إنها إذاً ثلاثة أفكار يروج لها التنوير: العقل و العالمية و التقدم.
تموضعت هذه الأفكار التي حملتها الرأسمالية في مرحلة نهوضها في المجتمعات الغربية من خلال ثورات عديدة قامت على أثرها ديمقراطيات تمثيلية تقوم على فصل الدين عن الدولة و نظام انتخابي يقوم على الاقتراع السري العام و المباشر ، مع خصوصيات في كل مجتمع وفق تاريخ الصراع الذي توج فيها بانتصار الرأسمالية سياسيا و ليس فقط اقتصاديا. أما في الشرق فان التنوير المذكور رافق أيضا اندماج – قسري و عنيف من خلال الاستعمار المباشر- مجتمعاتنا بالنظام الرأسمالي الظافر عالميا. و قامت في ظل الاستعمار حكومات و دول بأشكال أغلبها منسوخ عن الغرب ، بمعنى وجود انتخابات و برلمانات راعى فيها المستعمر شروط ديمومة استعماره و نهبه لهذه البلدان فلم يحصل فصل للدين عن الدولة و لا ديمقراطية “بورجوازية” حقيقية و لا تصنيع ،بل قدم لكل شرائح الطبقات المالكة حصة في السلطة.بينما قامت الدول الوطنية و خاصة الحكومات النابعة عن حركات التحرر الوطني بمحاولة إرساء أسس الدولة الحديثة.
لكن أفكار التنوير و الرأسمالية ليسا توأمان. فقد وضح منذ البداية أن هنالك تناقض (بالأحرى انفصام) أساسي بين السمات السياسية و الاقتصادية للثورات البورجوازية، ما بين الوعود بالحرية و المساواة والأخوة و ما بين حقيقة اللامساواة والاستغلال للرأسمالية الصناعية. و في الواقع، فان الحركة الاشتراكية الحديثة برزت أصلا من هذا التناقض.
لكن ارتباط البورجوازية –في الغرب- بأفكار التنوير(التي تحمل في طياتها شحنة التحرر الإنساني) لم يدم طويلا بعد انتصار الرأسمالية، بل إن البرجوازية أعادت طرح أيديولوجيا تقوم على اعتباره مجرد خرافة و وهم من يعتقد بوجود شيء آخر غير رأس المال، و لم تعد القضية بالنسبة للبرجوازية أن هذا المفهوم أو ذاك هو صحيح بقدر ما يكون مفيدا لرأس المال أم لا!
و لذلك فان الحركة العمالية منذ القرن التاسع عشر هي التي تنطحت للمحافظة و حمل راية التقاليد التنويرية (التحررية) التي تخلت عنها البرجوازية حقا و لم تعد تعيد استخدامها إلا عندما يخدم ذلك مصالحها، أي مصالح رأسمالها.
عقلانية رأس المال !
لقد هضمت البرجوازية أفكار عصر التنوير و أعادت ضخها بما يطابق مصالحها و مصالح رأس المال، فالتقدم التقني للرأسمالية، مما يفسح في المجال للاشتراكية، و تطور قوى الإنتاج ليست بالضرورة تقدمية بل الأهم هو معرفة طبيعة العلاقات الإنتاجية التي تشكلها ، فكل “تقدم على المستوى التقني ضمن علاقات الإنتاج الرأسمالية إنما يخفي تقدم اجتماعي و اقتصادي ولكن لصالح طبقة وحيدة- هي البورجوازية- تفرض مصالحها و رؤاها الأيديولوجية باعتبارها التقدم العالمي الهام للبشرية جمعاء”.
أما في ما يتعلق بالعقل ، فان الرأسماليين عندما يأخذون قرارات ويقومون بخيارات تبدو عقلانية لأي فرد رأسمالي من طبقتهم من منظور مصلحة راس المال، فقد تكون لاعقلانية مرعبة لأي شخص آخر من خارج الطبقة الرأسمالية يعيش تأثيراتها الكارثية على حياته.(لنتأمل في ما يتعلق بالوقود النووي والاحتباس الحراري و معالجة الأوبئة التي تجتاح البلدان الفقيرة مثل مرض الإيدز (أو نقص المناعة المكتسبة) ، أو سلوك النظام الرأسمالي عموما تجاه الأزمة المالية العالمية الراهنة من ضخ لأموال ضخمة لإنقاذ المصارف و البنوك على حساب الخدمات الاجتماعية لعموم المواطنين و مع زيادة نسبة البطالة…الخ).
و في تحديد معضلة العقلانية الرأسمالية يقول ماكس هوركهايمر “إن صعوبات الفلسفة العقلانية تنبع من حقيقة أن شمولية العقل لا يمكن أن تكون شيء آخر سوى التفاهم ما بين مصالح كل المجموعات بالتساوي ، بينما في الواقع فإن المجتمع منشطر إلى مجموعات ذو مصالح متنافسة”.
على خلاف الادعاء الأيديولوجي السائد لمثقفي الليبرالية القائل بتغلب اللاعقلانية في الشرق و خاصة مع نمو ظاهرة التدين و القوى الدينية في منطقتنا، هذا الادعاء الذي يتجاهل الأسباب الحقيقية لانبعاث العامل الديني ليس في الشرق وحده بل و في الغرب أيضا. و كيف انه ترافق ليس فقط مع تراجع اليسار على الصعيد العالمي ولكنه رافق تحولا هاما في النظام الرأسمالي العالمي هو الليبرالية الجديدة المتوحشة بخطابها الأيديولوجي و بتحطيمها لكل مكتسبات ما يعرف بدولة الرفاهية في الغرب و إطلاق العنان لآليات السوق بلا أدنى ضوابط. انه النظام الرأسمالي العالمي من دفع بشرائح اجتماعية واسعة ممن تأثرت بانحدار مستوى معيشتها، و بغياب أحزاب و هيئات تدافع بفعالية لمنع هذا التدهور، إلى الاستدارة كأفراد نحو الدين لتلقى شيء من العزاء، في حين أن الإسلام في بعض بلدان الشرق الإسلامية تحول إلى وعاء أيديولوجي لمواجهة الإمبريالية.
و كدليل على نهوض الظاهرة الدينية في الغرب أيضا ، صدر استطلاع للرأي في الولايات المتحدة عام 2003 يشير إلى أن 80 في المائة من الأمريكيين يعتقدون بحياة ما بعد الموت و 76 في المائة منهم يعتقدون بالجنة و 64 في المائة منهم يعتقدون أنهم سيكونون في رحابها، و 71 في المائة يعتقدون بجهنم(1)، دون أن ننسى المطالب الضخمة التي دعمها الرئيس الأمريكي السابق بوش من اجل تعليم نظرية الخلق في المدارس عوضا عن نظرية التطور.
هذا التحول في الرأسمالية بطورها الليبرالي الجديد المنفلت من عقاله ليس محصورا في أمريكا و أوربا فحسب بل هو ما يسود العالم بكامله. وعلى سبيل المثال فقد برزت الصين كتلميذ نجيب لهذه السياسات المدمرة اجتماعيا لليبرالية الجديدة للرأسمالية، وأصبحت لدى البعض نموذجا للتحديث –دون أن ننسى أنها تجري في ظل حكم استبدادي و شمولي باسم حزب شيوعي من المفترض انه علماني على الأقل؟- فان نحو 2 مليون صيني يتحول سنويا إلى اعتناق الديانة المسيحية الإنجيلية.
لا يمكن أن يفوت أي متابع للأحداث أن هذا التحول “اللاعقلاني” على الصعيد العالمي ارتبط مع صعود تاتشر عام 1979 إلى الحكم في بريطانيا و تدشينها للمرحلة الليبرالية الجديدة التي لا نزال نعيشها من الطور الرأسمالي و هي عام انتصار الثورة الإيرانية في مشرقنا، و لجوء متزايد للبشر المضطهدين و المستغلين في الشرق و الغرب إلى الدين كملجأ أخير على الأرض من هذه الوحشية الرأسمالية.
وتعرضت فكرة عالمية و شمولية حقوق الإنسان بدورها إلى تلاعب و استخدام أيديولوجي من قبل سياسيي و مثقفي الليبرالية الجديدة –الطور الأخير للرأسمالية- يبرر باسم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان الحروب الإمبريالية بادعاء شرعية “التدخل الإنساني” أو” الحرب ضد الإرهاب” أو محاربة” الفاشية الجديدة” المتمثلة وفق الحاجة سواء أكانت القوى الإسلامية المتشددة أم نظام صدام حسين أو الطالبان أو إيران أو حزب الله أو أي نظام (أو قوة سياسية) آخر لا يرضخ للسياسة الإمبريالية و مصالحها، من جهة. أو،من جهة أخرى،يبررها بكل وقاحة بأطروحات عنصرية فجة بحجج تقول بالاعتراف بالتنوع والاختلاف و الخصوصيات لكل قوم و شعب ، فهنالك المتحضر وهنالك الهمجي(الذات والآخر أو نحن و هم) .
وحشية الرأسمالية
نحا هذا المنحى، و على الصعيد العالمي، ليس فقط اليمين الليبرالي المحافظ والتقليدي بل انساق إليه قسم كبير من المثقفين اليساريين السابقين الذين تحولوا إلى ملكوت الليبرالية الجديدة (مثل فريد هاليداي) أو الليبراليين الاجتماعيين، وكثر أشباههم في منطقتنا العربية. و هو ما أطلق عليهم اليسار الراديكالي تسمية ( يسار وليبراليي الـ ب 52 ) باسم القاذفات الأمريكية العملاقة.
و يعبر احدهم (كريستوفر هيتشنز) عن هذا الفهم”التنويري الليبرالي الجديد” لحقوق الإنسان انه بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) ” تملكه شعور بان له مهمة الدفاع عن التنوير والدفاع عن ونشر العقلانية بكل و أي وسائل ضرورية”، و يضيف بان ” مفجري منهاتن يمثلون الفاشية بوجه إسلامي” ومن ثم يدعو إلى مواجهة “قوى الرجعية”(2).
لم تشن فقط حروب مدمرة و احتلال إمبريالي ضد شعوب العراق وأفغانستان باسم نشر الديمقراطية و حقوق الإنسان بل تم التراجع عن الحريات العامة في جميع البلدان الغربية تقريبا. و أصبح نموذج سجون غوانتانامو و أبو غريب و السجون السرية هو صيغة التعامل مع الآخر المختلف الذي تنزع عنه إنسانيته. و لم تبنِ هذه الحروب الإمبريالية ديمقراطيات يعتد بها، يكفي النظر إلى العراق و أفغانستان والنموذج البائس للأنظمة”الديمقراطية جداً” للحكومات الموالية للإمبريالية الأمريكية في منطقتنا بل و خارجها.
يتبجح يساريو و ليبراليو( الـ ب 52) عن الديمقراطية و حقوق الإنسان التي تحملها في وجناتها الرأسمالية في طورها الراهن، هذا في الوقت الذي تعاني فيه البشرية – بسبب النظام الرأسمالي العالمي- واحدة من أبشع حقبات تاريخها : 14 في المائة من سكان الأرض (826 مليون نسمة) يعانون من سوء التغذية ، 16 في المائة من سكان الأرض(968 مليون نسمة) يفتقرون للمياه الصالحة للشرب ، 40 في المائة من سكان الأرض (2400 مليون نسمة) يفتقرون للحد الأدنى من الرعاية الصحية، وهنالك 854 مليون أمي. و 17 في المائة من سكان الأرض (1000 مليون نسمة) لا يملكون سكن لائق، و 33 في المائة (2000 مليون) يعيشون بلا كهرباء” و لا ننسى أن ثلث الوفيات في العالم يسببها الفقر و الحرمان(3).
لم تعد البرجوازية وريثة لأفكار عصر التنوير، بل هي الطبقة العاملة و المضطهدين من ورثوا تقاليد التنوير التحريرية و أهمية مفاعيله في تغيير العالم، و ورثوا من التنوير أيضا قوة العقل كوسيلة من وسائل تحقيق هذا التغيير لبناء مجتمع أكثر عدلا وإنسانية يقوم على إدارة الغالبية لشؤون حياتها وتقرير خياراتها بنفسها.
آب/أغسطس 2010
هوامش
– 1- The Barna update ,2003
– 2- C.Hitchens, regime change,2002
– 3- World poverty and human rights,2003
خاص – صفحات سورية –