صفحات الحوار

برهان غليون: من مصلحة العلمانيين المخلصين أن يكونوا جزءا من تحالف أوسع للتغيير 2-2 (…)

null
لؤي حسين
ننشر في ما يلي جزءًا آخر من المحاورة الشيّقة التي قام بها الأستاذ لؤي حسين للمفكّر برهان غليون، بعد أن سبق لنا نشر جزء أوّل. وللأسف لا يمكننا نشر كامل الحوار لطوله، ولأنّه في الطريق إلى النشر بين دفّتي كتاب من المؤكّد أن يكون إضافة معتبرة إلى المكتبة العربيّة. وقد اخترنا هذا الجزء من آخر المحاورة لأنه يتضمّن ما يشبه التلخيص لأهمّ النقاط الواردة فيها، بما في ذلك نقاط الخلاف بين المتحاورين:

لؤي حسين:

..أنت تقول “أن العلمانية التي تتحدث عن أسبقيتها على الديمقراطية ستكون حتما علمانية مفروضة بالقوة من قبل فئة حاكمة أو من قبل السلطة… (إلى آخر الفقرة)”، ألا ينطبق هذا أيضا على الديمقراطية؟ كيف يمكنك تصوّر قيام نظام ديمقراطي في مجتمعاتنا – في وقتها الراهن – لا يكون مفروضا من السلطة، أو بالحدّ الأدنى برعاية السلطة وقيادتها، وأن تكون لها المصلحة الكافية لمباشرتها؛ اللهم إلا إن كانت هذه الديمقراطية هي فقط عبارة عن انهيار السلطات المستبدة واللجوء إلى انتخابات حرّة؟ مع اعتقادي أنّ هذه النقطة التي تتعلق بآليات وسياقات تحقيق الديمقراطية هي التي ولّدت مشكلة الأسبقية، وليست وليدة خلاف نظريّ. فالمشكلة تخصّ واقعا اجتماعيا متعينا.

واستنادا إلى هذه النقطة أوافقك الرأي بأنّ الطرح العلمانيّ، أو التحزّب العلمانيّ إن شئت، هو موقف بمواجهة التيارات الإسلامية السياسية. غير أني أرى أن هذا نصف المشهد، فمسألة وضع العلمانية والديمقراطية في مواجهة بعضهما هي مسألة بقضها وقضيضها واقعة داخل الحقل السياسي المحض، رغم جميع المحاولات – في سوريا على الأقل – لإعادة تنزيلها داخل الحقل النظري والثقافي. فالاتهام الذي توجّهه إلى شريحة من المثقفين السوريين معتبرا أنّهم يطرحون العلمانية بديلا عن الديمقراطية (وهذا لا علم لي به) وأنهم بمطلبهم العلماني إنما يقدمون “دعما مباشرا لأصحاب السلطة القائمة الذين ليس لديهم اليوم حجّة يتذرعون بها للحفاظ على النظم الاستبدادية سوى التخويف من سيطرة الأكثرية الاجتماعية المتدينة ومن الحركات والأحزاب الإسلاموية”، فهؤلاء من ناحيتهم يوجّهون نفس الاتهام إلى الطرف الآخر (الذي تمثّله أنت في هذا الحوار) بأنّ مواقفهم وطروحاتهم تخدم التيارات الإسلامية التي هي أكثر استبدادا من السلطات، أو مثلها على أقل تقدير.

أرجو أن تسمح لي في هذا السياق أن أكون بموقع المدافع عن موقف تلك الشريحة “العلمانية”، بغضّ النظر إن كنت أوافقهم الرأي (وأنا كذلك)، مدّعيا أني أعرف بعضا مما يطرحون ومطّلع على بعض ما يقلقهم.

تقول في جوابك السابق “أن تحقيق الديمقراطية ليس مسألة فورية، ولا يرتبط بنشر خطابها أو الدعوة لها. إنه مسألة عملية يتخذ تحقيقها وقتا طويلا ويحتاج إلى تربية سياسية ونشوء قوى منظمة مؤمنة بقيمها ومستعدّة للتضحية في سبيلها. ولا يتوفر أي شرط من هذه الشروط بعد. وحتى يمكن التقدم في الديمقراطية والعلمانية معا، لا بدّ من العمل على نشر ثقافة ديمقراطية تؤمن بالتعددية وتشدّد على احترام الرأي الآخر، وترسخ فكرة المواطنية في مواجهة فكرة الولاءات الطبيعية، وتؤكد على أولوية قانون السياسية مقابل قانون العصبية”. إن جلّ هذا القول يدخل – إذا جاز لنا الفصل – في متن خطاب أولئك العلمانيين، ولا أعرف منهم من يقول خلاف ذلك؛ بل أعتقد أنّ موقفهم العلماني نابع (خلافا لما تراه) من خشيتهم على تحقيق الديمقراطية، ومن تخوّفهم من الوقوع فريسة “ديمقراطية المرّة الواحدة” التي يمكن أن تنجم عن تمكّن “الولاءات الطبيعية” على حساب تنامي “فكرة المواطنية”، خاصة مع غياب أيّ دور طليعي للنخب الثقافية، وخاصة الديمقراطية منها، وعجزها عن لعب أيّ دور في الوقت الحالي في التأثير بمجرى العملية الديمقراطية، فكيف إذا كانت الحاجة لأن تقود هذه النخبة تلك العملية.

لم أقع على مثال واحد في كلّ كلامك، في حوارنا هذا أو في مكان آخر، تدلّل فيه على موقف للتيّار الآخر (العلماني) بأنه يدعم السلطات المستبدة أو يؤيدها في استبدادها، بل كل موقفك منه يقوم على أنه بموقفه المناهض للتيارات والقوى الدينية إنما يخدم أو يتحالف مع السلطات المستبدّة؛ وموقفك هذا ليس أكثر من هجاء أخلاقي يراه البعض غيرة على القوى الإسلامية السياسية. فعلى فرض أن الجميع يختار موقفه بين قطبين سياسيين مهيمنين: سلطات مستبدة وقوى إسلامية معارضة (وأنا أرى كليهما طرفا في النظام الاستبدادي)؛ فأمام هذه المفاضلة المرّة يرى التيار الآخر أن السلطات رغم استبدادها الغاشم ما زالت تتيح، أو لا تمانع، وجود تنوّع في حرية المعتقد بما في ذلك عدم التدين أو الإلحاد، ولا تمنع آفاق الإبداع الفني: الرواية والشعر والتمثيل والتشكيل والموسيقا والرقص… الخ؛ وفي مقابل ذلك يشعر بتخوّف، مشروع، من أن التيارات الإسلامية المطروحة على الساحة السياسية والثقافية إضافة إلى كونها تشكل خطرا حقيقيا على هذه الجوانب، فإنها لا تقل استبدادا عن السلطات، ما لم تكن أفظع منها، إذ ما زالت لحدّ الآن تقول بالحاكمية الإلهية وبتمييز المرأة، هذا على أقل تقدير.

أما أنت فإنك لا تجد قلق التيّار الآخر مشروعا، بل لا تبدي الكثير من القلق من صعود القوى الإسلامية، بل في أغلب الأحيان ما إن تأتي على ذكر هذه القوى حتى تسارع إلى التذكير بأنها نتاج أو “ثمرة” ممارسات السلطات الاستبدادية (وهذا لا يخالفك فيه حتى بعض أهل السلطات)، لكن لماذا لا يكون موقفك من هذه “الثمرة” كموقفك من جميع “الثمرات” الأخرى: الطائفية، والعلموية، والعلمانوية، والشمولية، والعسكرتارية، والتغول… الخ؟

دعني أقل كلاما مباشرا: أنا لا أجد أيّ مبرّر لعدم الوقوف، بقوّة وشدّة، في مواجهة التيارات الإسلامية (دوما المقصود بها السياسية)، إذا ما أراد الواحد منّا النهوض بحال وطنه ومجتمعه والذهاب به إلى طور الحداثة: الحريات، والديمقراطية، والعلمانية، والمواطنية، وحقوق الإنسان. فمواجهة هذه القوى هي مواجهة صريحة وجريئة للاستبداد لما تمثله في أيديولوجيتها ومرجعياتها وممارساتها من تعبير سافر لإعادة إنتاج نظام استبدادي على خلفية دينية. وبالتالي فإن صراعها مع السلطات الحاكمة ليس أكثر من صراع على تمثيل الاستبداد لا أكثر، ولا يغيّر من صورتها هذه ما تنسبه لها من أنها ذات جذور شعبية أو أنها إرادة الشعب أو ردّ فعل الشعب على التهميش والاستباحة، إلى آخر ما هنالك من الصفات التي ترفع عنها أية مسؤولية. لكن حتى لو كانت بريئة من صنع ذاتها أو تشكلت من رد فعل شعبيّ هل يمنعنا هذا من مواجهتها إذا ما رأينا أنها تشكل خطرا على مستقبل مجتمعاتنا وأفرادنا، خطرا قد يزيد أو يقلّ عن خطر السلطات الحاكمة؟ أما الخشية من أن الوقوف بمواجهتها يجعلنا خدما للسلطات في استبدادها، فهذا يعود بنا إلى نظرية الخندقين السياسية سيئة الذكرى.

في هذه النقطة أرجو لو توضح لي موقفك ورأيك من التيارات الإسلامية من دون التركيز على ظروف نشأتها ومَن وراء هذه النشأة. وأن توضّح ما هو الموقف الصحيح من وجهة نظرك الذي يجب أن يأخذه الآخرون منها؛ ويمكننا أن نكون أكثر تحديدا في نظرتنا إلى هذه التيارات إذا ما أخذنا جماعة الإخوان المسلمين كمثال عنها، باعتبار أن الجماعة هي الأكثر وجودا وانتشارا في غير بلد عربي والأكثر نضوجا بين التيارات المماثلة.

أعود الآن إلى جوابك السابق وسأحاول أن أتتبع معك بعض فقراته، معتذرا عن الإطالة لتصوّري أنّ هذا سيكون السؤال الأخير.

تقول إنّ بعض الأوساط المتطرفة في عقلانويتها تقدم العلمانية كبديل للدين أو خصما له. أعتقد أن هذا الأمر قد ذهب منذ زمن، ولا أعرف الآن جهة واضحة (إن كنت تعرف أرجو أن تفيدني) تقدم هذا الطرح، اللهم إلا مَن يطرح العلمانية بديلا عن الدين السياسي. وتقول إن هذا الطرح يأتي “كرد فعل على ممارسات الحركات الدينية المتعصّبة” ليرسّخ “الانقسام داخل المجتمع على أساس العقيدة والهوية والانتماء”. ما العيب وما الضير في مثل هذا الانقسام؟ أليس هو محور الصراع على المواطنية التي لا تقوم للديمقراطية قائمة من دون تحققها يقينا في أذهان الناس وقانونا في مؤسسات الدولة. أوَلست أنت من رواد دعاة طرح المسألة الطائفية ومواجهتها في ساحات العلن؛ ألا يضارع التصدي للتعصب الديني التصدّي للطائفية؟ أم أنّ الطائفية أو الممارسة الطائفية تخص طائفة “مسيطرة” في بعض أنظمتنا العربية، أما التعصب الديني فهو يخص الطائفة مغبونة الحق السياسي؟ والملفت في قولك هو تحميلك مسؤولية ذاك الانقسام إلى أطراف “متطرفة بعقلانويتها” وترفع ذات المسؤولية عن “الحركات الدينية المتعصبة”، التي هي أساسا البادئ دوما بالاعتداء على حريات الآخرين الاعتقادية.

أوافقك الرأي تماما بأن تجارب سياسية سابقة، ومن بينها بلداننا، آلت إلى الإكراه في الرأي والعقيدة والسياسة بحجة العلمنة والتحديث، لكني أخالفك الرأي بأن التحزّب لجهة العلمانية الآن يودي بنا إلى نفس نتائج التجارب السابقة. فالدعوات العلمانية التي تقف منها موقف المناهض لا تقوم بمواجهة الديمقراطية، بل تحذر من اختزال الديمقراطية المنشودة إلى مجرد حرية الاقتراع. لكن قولك اللاحق: “أما إذا كان نتيجة الاعتقاد بأن من غير الممكن ضمان تقدم مسار الحداثة، في مجتمع جاهل ومتخلف تحكمه العقائد والعواطف الدينية أكثر من أي شيء آخر، من دون الإكراه وفرض القيم الحديثة، ومنها العلمانية، بالقوة” فهو قول لا ينبني على الفكرة السابقة، لكونك استخدمت هنا فكرتي الإكراه والقوة غير الموجودتين في هذا الحقل إلا عند السلطات المستبدة. فلا علم لي أيضا بجهات يمكن الاعتداد بقولها في الوقت الراهن تقول بأنها تريد إكراه الناس أو الاستقواء عليهم.

ترى أن “أدبيات الأنوار الأوروبية” ما عادت نافعة الآن بعد رسوخ الحداثة، خاصة “بنقدها الشديد للدين” الذي كان “يسيطر بقوة على حياة المجتمعات ويشكل وعيها ويلعب بمشاعرها، وكانت الكنيسة المنافس الحقيقي والقوي للدولة الناشئة”. ما الذي تراه إذن فارقا بين ما كان يقوم به الدين في ذلك الوقت وبين ما يقوم به الآن! أليس الإسلام الآن هو الذي يسيطر على حياة مجتمعاتنا وهو الذي يشكل وعيها ويلعب بمشاعرها؛ أو ليست التيارات الإسلامية الآن تقوم بدور الكنيسة تلك بمنافسة دولنا الناشئة أيضا؟

أمّا اعتبارك بأن الحداثة “الآن” “أجبرت الفكر الديني في كل مكان، بما في ذلك في بلادنا الإسلامية، إلى التمسح بقيمها”، فأراه تصوّرا ناجما عن صورة مشوّشة لأحوال مجتمعاتنا وأوضاعها. فالفكر الديني الإسلامي في بلداننا، خلافا لما تراه، ليس ضعيفا ولا هشّا، ولا يفتقر لمن يصدقه ويمشي في ركابه ولا تنقصه المكانة وتحديدا السطوة؛ و”المسلمون المتهمون بالتعصب والجمود”، حسب تعبيرك، في تفتيشهم عن مقاربات بين النظريات العلمية والنصوص المقدسة لا يُظهرون ضعفا وهشاشة بل إعادة إنتاج آليات سطوتهم، كما حالهم وحال أمثالهم عبر كل التجارب التاريخية في العالم أجمع. أما استهجانك لاعتقاد البعض من المخدوعين الذين يعيشون في “منعزلاتهم الفكرية” بأن هذه السطوة التي تبديها التيارات الإسلامية، من خلال السيطرة على الكثير من القنوات الفضائية وتشكيل الميليشيات الطائفية وإنفاقها الملايين في سبيل ذلك، هي “ثمرة إيمان ديني أو إخلاص لرسالة وتمسك بشرع”، فلا أرى هذا الاستهجان مصيبا بقولك إن “جميع هذه الظواهر ليس الدين إلا قناعا يخفي تحته المصالح المادية والدنيوية المبنية على حسابات عقلية، منفعية، ميكيافيلية”؛ فمتى كان أصحاب الخطاب الديني غير ذلك، إن لم يكن جميعهم فمعظمهم. وهل العلمانيون أو من يقف بمواجهة هذه التيارات يصارعها على معتقداتها أم على هذه المصالح الدنيوية؛ أليس هو صراعا في الحقل السياسي: على السلطات والحقوق والتمثيل… الخ؟ أليست الحجة المركزية عند العلمانيين في هذه المعركة أن الإسلاميين يتذرعون بالدين وبالخطاب الديني من أجل تحقيق مصالح سياسية دنيوية؟ أليس جوهر الفكرة العلمانية هو هذه النقطة تحديدا، لهذا تقوم العلمانية على فصل الدين عن أن يكون سبة للنيل من الدولة؟

لكن اللافت في فقرتك هذه هو “الطمأنينة” التي تنظر من خلالها لمآلات هذه التيارات باستشهادك بأمثلة الصومال وأفغانستان والسودان. حيث تعتبر أن ما جرى وما زال يجري في هذه الساحات هو إخفاق صريح للتيارات الدينية من المقدرة على النفاذ إلى الواقع والتعامل معه؛ فهل القفز إلى هذه النتائج النظرية يعوض الخراب والدمار الذي لحق بشعوب هذه البلدان وبمجتمعاتها! وهل التأكيد على أن هذا الفكر “لم يعد بإمكانه بناء أي سلطة عمومية، منظمة، ثابتة، ومستقرة: أي دولة” يمكن أن يبدد قلقنا مما يحمله من دمار لبنانا الاجتماعية والإطاحة بحرياتنا وحقوقنا وطموحاتنا! وهل يقول أولئك العلمانيون غير ذلك، وهل يباشرون معركتهم مع الإسلام السياسي على غير هذه النقطة: ليس الدين، أي دين، قادرا على إقامة دولة حديثة ديمقراطية، وأي ادعاء خلاف ذلك هو مغامرة بالوطن والمجتمع.

ليس الخلاف بيننا على إمكانية القلق من قيام دولة دينية مستقرة، بل على القلق من محاولة بعض التيارات الإسلامية من القيام بمثل هذه المغامرة التي نتفق كلانا على نوعية نتائجها. فحتى مثل إيران الذي تورده على كونه مثالا نجح بالاستمرار فالبيانات التي توردها لتدلل على مكامن فشله، هي بحد ذاتها جوانب مقلقة، بل مقلقة بشدة لدرجة تستدعي الوقوف بحزم بمواجهة كل طرح سياسي بما فيه الذي يحاول تمثل النموذج الإيراني، من دون الخشية من الاتهام بأن هذه المواجهة تخدم السلطات الاستبدادية الحاكمة.

أما توقعك بأن “يتحول التمرد الإسلاموي إلى مرجع للحرية والهوية والاستقلال عند قطاعات الرأي الأخرى التي لم تُبقِ لها النخب المفترسة، على مستوى الحياة اليومية والوجود الحاضر، ما يربطها بعالم الحداثة وقيمها الحقيقية”، فهذا أمر واقع الآن، بل منذ الأمس؛ لهذا أتوقع منك أن تجد في ذلك مدعاة لمواجهة هذا الواقع عبر تفنيد طروحات الإسلاميين من دون الاكتفاء بإلحاق صفة العنف بهم فقط أو اعتبار مشروعهم السياسي مسدود الأفق، بل النظر إليهم كقوى استبدادية أخرى. فالملاحظ من عباراتك أنك تنظر إلى الاستبداد متجسدا ومتحققا عند السلطات الحاكمة فقط، لدرجة أنك تستخدم مفردة الاستبداد أحيانا بديلا عن مفردة السلطة.

على هامش هذا السياق أود إيراد ملاحظة. ففي غير مرة وغير مكان تذكر أن السلطات لطالما هددتنا من أن الإضعاف بها هو تمكين لقوى التطرف الديني الذي لن يميز في قمعه بيننا وبينها؛ لكن التخويف من التطرف الديني مارسته القوى المعارضة للسلطات أيضا، ومن بينها التي تسمي نفسها بالديمقراطية، في خطابها الموجه إلى السلطة، معتبرة أن بعض التيارات الدينية، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، حاملة لمشروع ديمقراطي. وعلى نفس المستوى مارس الطرفان طريقة التخويف من العدو الخارجي.

وفي ردك على ما وصفتني به من تثبت غريب على مواقف عصر الأنوار ومسبقاته، أستغرب اقتصار رفضك الاعتداد بفكر الأنوار على موضوع الدين والسلطات الدينية، في مقابل الاعتداد بمسألة الحريات، وهي صلب عصر الأنوار، ومسألة الديمقراطية، التي هي أيضا من صلب ذاك العصر ومسبقاته وملحقاته. لكن الأهم أنك ترى إلى رأيي في الربط بين الدين والاستبداد في مجتمعاتنا وكأنني أطالب باستبداد عادل، مراهنا على مستبد رحيم وعاقل وخلوق ومهذب ووو…

لا أدري كيف قرأت تساؤلي: إذا لم يكن الدين هو سبب الاستبداد، فما هو السبب؟ على أنني أنظر إلى أن أنظمة الحكم الاستبدادية في واقعنا الراهن تتمظهر بمظهر ديني أو أنها استبداد ديني!! أنا لا أحصر الاستبداد في السلطات الحاكمة الآن، بل أراه في أغلب الطروحات السياسية بما فيها المعارضة للسلطات. ولا أرى في ذهننا الجمعي من تصورات لنظام الحكم ليست استبدادية، بما فيها الديمقراطية الخلاصية التي ينشدها الكثيرون وينتظرون أن تحل علينا بقدرة قادر أو بقدرة تدخل خارجي مباشر أو غير مباشر، مكتفين بهجاء السلطات وتحميلها مسؤولية كل الخراب والاستبداد وكأننا ما عرفناهما إلا من أربعة عقود خلت، لدرجة يخال السامع لمثل هذا الكلام أنه ما أن ترحل هذه السلطات حتى يقيّض لنا العيش الرغيد في جنانِ “ديمقراطية” سلطات رجال الدين والمال المسيطرين الآن بالمطلق على كل تفاصيل وزواريب مجتمعاتنا. بل هذا السامع سيقبل أي جهة يمكنها الإطاحة بهذه السلطات حتى لو كانت قوى دينية لن تأتي لنا بغير استبداد ديني ولو بصيغة حديثة: النموذج الإيراني مثلا.

حاولت قدر مستطاعي التقاطع معك على نقاط نتفق عليها في الموقف من الاستبداد، لكن تراءى لي أنك تشترط عدم المساس بالموضوع الديني، وكأنه أصبح خلفنا مع بقايا عصر الأنوار.

برهان غليون:

كاد سؤالك هذا يعيد طرح الأسئلة التي تقدمت الإجابة عنها جميعا. لكنني أرى مع ذلك في عملية إعادة طرح الأسئلة دفعة واحدة مناسبة لتجميع عناصر النقاش والتركيز على النقاط الأساسية للخروج باستنتاجات مفيدة لجميع الأطراف. وربما ساعدتنا الإجابة عن هذه التساؤلات الإضافية في وضع خاتمة لهذا العمل، لا تغلق النقاش بالتأكيد، وإنما تفتحه على مسائل جديدة، من أهمها البحث في أصل الاختلاف حول العلمانية وداخل صفوفها، ومعرفة في ما إذا كان من الممكن تجاوزه. وبالفعل، إذا كنا متفقين على أهمية العلمنة، وهناك كما ذكرت تقاطعات كبيرة بيننا بشأنها، من أين يأتي الاختلاف وكيف يمكن التغلب عليه؟

وأقول بداية أنني سعدت كثيرا بإشارتك إلى نقاط التقاء وتقاطع بين موقفي والموقف الذي أردت أن تكون لسان حاله، أقصد قطاعا من الرأي العام المثقف لا ينظر إلى العلمانية على أنها مسألة مركزية في أي تفكير في التحول الاجتماعي والسياسي والفكري في المجتمعات العربية فحسب، وإنما يرى، أكثر من ذلك، أن العمل من أجل التحويل الديمقراطي مشروط بإجماع المواطنين على الديمقراطية، وقبولهم بمفهومها، بصرف النظر عن اعتقاداتهم الدينية والفلسفية والسياسية، خاصة الإسلاميين منهم الذين ينكرون قيمتها. فهي بالنسبة لهم مدخل التحوّل السياسي، ومن دونها لا يكون العمل التغييري إلا استبدالا لديكتاتورية زمنية تعترف على الأقل ببعض التعددية الفكرية، بديكتاتورية دينية تمارس الاضطهاد والتمييز وتنفي جميع الحقوق والحريات المدنية. هذا هو مضمون التأكيد على أسبقية العلمانية على الديمقراطية، وهو الذي يفسر ربما أن أغلب المدافعين عنها تجنبوا الانخراط الجدي في الحركة الديمقراطية، أو التي اتخذت اسم الديمقراطية، التي انتعشت في السنوات القليلة الماضية في العديد من البلاد العربية، ومنهم من شكك بجدواها أو بمضمونها أو بإمكانية تحقيقها، وبعضهم وقف موقفا معاديا صراحة لها.

ومنبع هذه السعادة شعوري بأن من الممكن الوصول إلى نتائج ايجابية مهمة إذا تبنى كل منا موقفا براغماتيا في قضية العلمانية، ونظر إليها في ذاتها، وحررها من الرهانات العقائدية والإيديولوجية، أي كف عن استخدامها كمناسبة لتأكيد انتمائه إلى إيديولوجية أو الدفاع عن مذهب فلسفي، أو البرهان على صحة مذهب فكري معين، أو دحض أطروحات مذهب فسلفي آخر، ونظر إليها من منظار تذليل الصعوبات النظرية التي تحول دون تكوين رأي عام عربي يسمح بالانطلاق في بناء مشروع التحول السياسي الديمقراطي المنشود.

من الواضح أنّ نقاط الخلاف قد تمحورت في نهاية هذا النقاش حول نقطتين رئيسيتين. الأولى نظرية تتعلق بالمقام النظري لمفهوم العلمانية ومعناها وموقعها في النظرية الديمقراطية والاجتماعية عموما، وهو خلاف يرجع أيضا إلى خيارات منهجية وأخلاقية متباينة. والثانية عملية تتعلق بنوع الترابط الذي ينبغي إقامته بين الأجندة العلمانية والأجندة الديمقراطية والسياسية، وبالتالي التباين حول إستراتيجية العمل الأمثل التي تمكننا من التقدم في تحقيق العلمانية، لا من حيث هي وعي متميز عن الوعي الشعبي السائد المرتبط بالدين، وإنما من حيث هي ممارسة عملية وواقع دستوري ومؤسساتي.

بالنسبة لي، من الواضح أن العلمانية ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة أو تقنية اجتماعية غايتها تحقيق الديمقراطية: بوصفها نظام الحريات الفكرية والضميرية والمساواة المواطنية. فهي تستمدّ منها معناها وشرعيتها، تماما كما لا تشكل الديمقراطية، في مرحلة ثانية، غاية في ذاتها ولكن وسيلة لتحقيق غاية أكبر منها هي تحقيق قيم إنسانية عليا، وفي مقدمها قيم الحقّ (وهو أعمق من القانون) والحرية والمساواة بين الأفراد، بصرف النظر عن الأصل أو العقيدة أو الجنس. فمفهوم العلمانية جزء من مجموعة المفاهيم السياسية التي تكون أساس النظرية الديمقراطية، التي تتمحور هي ذاتها حول تكوين نظام من التوازنات والعلاقات والضمانات العملية والنظرية التي تحتاج إليها إقامة مجتمع يستند إلى مبادئ إنسانية ولا يقوم على قاعدة القوة والقهر البدائية. ولهذا السبب تجد أن العلمانية والديمقراطية لا تشكلان ماهيات ثابتة وناجزة ونهائية، لا تتحول ولا تتبدل مهما تبدلت الثقافات الخاصة والحقب التاريخية والتنوعات الاجتماعية. إنها بالعكس اطر اجتماعية قابلة للتعديل والتطوير والتحسين والتأهيل، بحسب ما يحتاجه تحقيق غاية الحرية والحق والمساواة في مسارات تاريخية خاصة، تميز انتقال المجتمعات التقليدية في العالم بأجمعه، في بيئات جيوسياسية واقتصادية وثقافية متنوعة، من النموذج التقليدي القائم على التراتبيات الثابتة والعصبيات الطبيعية أو شبه الطبيعية إلى النموذج الحديث، المرتبط بقيم السياسة المدنية، وعمومية القيم الإنسانية.

هذا يجعل من العلمانية وجها من وجوه عملية سياسية عميقة ومعقدة، تدخل فيها عناصر متشابكة من التوعية الفكرية والتربية المدنية والتحولات السياسية والتطوير الدستوري والقانوني، أي بناء الدولة والمجتمع الحديثين، لا يمكن فصلها عنها ولا تصور تقدم مسارها من دونها. ولا يمكن لفصلها عن إطار اشتغالها النظري والعملي، فما بالك بوضعها في مواجهته وفي تناقض معه، إلا أن يهدد بتحويلها إلى غاية في ذاتها، ويغير معناها، ويحرفها عن أهدافها، إن لم يفسد قضيتها تماما. وهذا ما يحصل لنظام الديمقراطية نفسه عندما تتحول الانتخابات الشكلية إلى وسيلة للتغطية على انتهاك القيم الإنسانية التي تستمد منها الديمقراطية نفسها شرعية وجودها: الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والمساواة.

حتى لا نقع في خطأ استبدال الغاية بالوسيلة علينا دائما تنسيب المفهوم، أي مفهوم، بربطه بشروط تحققه النظرية كمفهوم، وبآليات اشتغاله في الممارسة العملية، والتذكير دائما بالعلاقة والرابطة بين الوسيلة والغاية، وبين الجزء والكل.

فمن الممكن إذا فصلنا العلمانية عن سياقها النظري ومجموعة المفاهيم التي تترابط معها، وفي مقدمها الديمقراطية، أن نعطي لها معنى آخر غير معناها الأصلي، ونوظفها لغاية تختلف عن الغاية التي صيغ المفهوم لتحقيقها، وهذا بالرغم من اتفاقنا على أهمية العلمانية كشرط لقيام منظومة اجتماعية ديمقراطية. فمعنى العلمانية ومضمونها الاجتماعي والسياسي يختلف حسب السياق الذي نستخدمها فيه، نظريا كان أم عمليا. فقد نجعل منها وسيلة لنزع الشرعية عن الديمقراطية وقيم الحرية الفكرية والسياسية، كما يمكن أن نحولها إلى حافز للنضال الديمقراطي ومحرك له. وبالمثل، كما أن من الممكن أن نجعل منها فضاء للقاء والتعايش بين المذاهب المتباينة، أي للاعتراف المتبادل، وتأسيس التعددية، من الممكن التعامل معها كإطار هوية جزئية وخاصة، وتحويلها إلى ذريعة لتعميق التناقضات والشروخ الفكرية والسياسية القائمة داخل جماعة أو مجتمع معين.

والحل يكمن في السعي دائما إلى تجاوز الطرح المجرد والمطلق للعلمانية كمفهوم مستقل كليا عما عداه وقيمة قائمة في ذاتها، والنظر إليها، بالعكس، في إطار واقع اجتماعي وسياسي وجيوسياسي وثقافي وديني ومذهبي وطائفي هو دائما واقع معقد ومركب. وكذلك عدم رؤيتها في حالة سكون وجمود وإنما من خلال الصراع القائم. فهي ليست موجودة في عالم الغيب، ولا في مجتمع جامد وساكن. عندئذ يطرح السؤال: ماذا تعني العلمانية اليوم، بالنسبة للمجتمعات العربية الراهنة، ما هي المهمات الخاصة بها، وما هو دورها في الصراعات القائمة، الفكرية والاجتماعية والسياسية؟ فقد يكون من بعض مهمات العلمانية العربية مثلا، كما يقترح ياسين حاج صالح، إعادة بناء سلطة دينية مركزية تضبط التعامل مع رأس المال الرمزي الكبير الذي يمثله الدين وتحد من التأويلات المتعسفة والتوظيفات السياسية المخلة للدين. وبالمثل، ما هو دور العلمانية والعلمانيين العرب في معركة التحويل الديمقراطية الضرورية والانتقال من نظم تعسفية مطلقة شخصانية إلى نظم تعددية ودستورية.

هذا يعني أن تعريف العلمانية في النقاشات الوطنية لا يمكن أن يقف عند حد ترديد التعريف القاموسي، فصل الدين عن الدولة أو السياسة عن الدين وإنما تبيين المهمات التي يتطلبها في هذا السياق الاجتماعي والتاريخي أو ذاك الوصول إلى سلطة سياسية مستقلة في بناء مصادر شرعيتها عن الدين ومرتبطة بإرادة أفرادها أو مواطنيها.

وفي هذه الحالة تندرج العلمانية في معركة التحويل الاجتماعي الشامل وتأخذ مكانها الطبيعي، النسبي، المحدد بزمان ومكان وتتحول إلى رهان من بين رهانات مجتمعية عديدة، بدل أن تظهر كرهان أوحد، أو رهان الرهانات، ويتم التعامل معها كقضية من بين قضايا عديدة مترابطة ومتضامنة، لا كمبدأ مطلق يحدد رؤيتنا لجميع القضايا المطروحة في الواقع، وتخضع له جميع المصالح الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية.

من دون هذا التنسيب للعلمانية كمفهوم وكممارسة أي تنزيل المفهوم في الواقع، الحي يصبح الصراع بين العلمانية والدينية صراعا ميتافيزيقيا مطلقا، وبالتالي لا تاريخيا ولا اجتماعيا، ينسخ جميع ما يعيشه المجتمع من نزاعات ويلغي شرعية وجودها. ولا يحرم هذا التصور الميتافيزيقي أو الجوهراني والمطلق للصراع بين العلمانية والدينية، الذي يلغي كل منظورات أخرى موازية للتحولات الاجتماعية، أصحابه من رؤية المهام والمشاكل والتحديات العديدة الأخرى، ومن ضمنها الديمقراطية، لكن ليس وحدها، ولا يدفعهم إلى تجاهلها والتقليل من أهميتها فحسب. إنه يهدد بدفع أصحابه، أكثر من ذلك، إلى رؤية العالم منقسما جوهريا بين قطبين علماني وديني، وإلى اكتشاف “دينية” وطائفية في كل ما لا يجدون له قيمة من وجهة نظر العلمانية كما يرونها، بما في ذلك اتهام جميع أولئك الذين لا يشاركونهم نظرتهم الخاصة، وردهم إلى أصولهم المذهبية أو الطائفية، وتحويلهم بالرغم منهم إلى إسلاميين أو مدافعين، واعين أو غير واعين، عن الإسلام والإسلاميين. فلسان حالهم يقول: إما أن تكون علمانيا، على الطريقة التي أنظر بها إلى العلمانية كحقيقة مطلقة ومستقلة عن كل ما عداها، وسابقة عليها، لا تقبل التنسيب والتنزيل في سياق معين وواقع مركب، أو أنك بالضرورة ديني أو إسلامي يتخفى وراء علمانية شكلية ولفظية.

فالعلمانية المجردة والمدفوعة إلى أن تكون قيمة مطلقة قائمة بذاتها، وجوهرا يعلو على أي تحديد أو تنسيب، تتحول أيضا إلى تعويذة سحرية تغطي على تعقيد الواقع المشخص وتحولاته العميقة، فلا ترى فيه إلا أسود أو أبيض، وجمودا وسكونا، وهو في تقلّب وتغيّر عميقين. وقد تتحول إلى فكرة هوسية تمنع، في إلحاحها وترددها الدائم، أصحابها من رؤية شروط تحقيقها هي نفسها. وفي تهويلها بخطر الخصم، أي الدين، الذي تراه محتلا الأفق جميعا، ومخترقا كل فضاء وزمان، تقضي على أي أمل، وتنشر اليأس والإحباط والقنوت من إمكان حدوث تغيير، وتدين نفسها بالنكوص إلى موقف حداد دائم، وندب على الحظ، وتسويد للماضي، وتشهير بالمجتمع، وتذييت (من ذات) للتاريخ. فيصبح العداء للعلمانية والتنوير في هذا المنظور سمة مجتمعات كاملة أو أغلبياتها الشعبية، وتصبح العلمانية حركة تبشيرية خارجية لا هدف لها ولا همّ سوى تأكيد صحتها، ونشر عقيدتها والدفاع عن مبدأ النور في مواجهة مبدأ ظلام الحركة الإسلامية أو التعصبية الدينية العامة والشاملة، التي تخترق هي أيضا جميع الفضاءات، ولا يمكن التمييز داخلها بين أطياف ولا تيارات وتحولات، تحركها إرادة ثابتة وأبدية هي العداء للعلمانية وإيذاء الفكرة التنويرية. ويبرز من وراء ذلك كله تصور كئيب حول مجتمع نشاز، ممسوخ فكريا وأخلاقيا وسياسيا، ضحية حتمية لرجال الدين ودعاة التعصب والطائفية والمذهبية، لا أمل منه ولا رجاء فيه، يقف حائلا دون تفتح وانعتاق نخبة حديثة متنورة اكتشفت الحقيقة وتماهت معها.

في المقابل، ترتبط العلمانية التي أنظر إليها بوصفها لبنة في بناء الديمقراطية التي هي منظومة تستمد قيمتها مما تسمح بتحقيقه من قيم الحق والحرية والمساواة، وعلى مقدار ما تحققه منها، بمسائل عديدة أخرى وأساسية، اجتماعية وسياسية وثقافية. فلا هي مطلقة ولا هي مركز العملية الاجتماعية، ولا يغني العمل على نشر العلمانية عن التربية المدنية ولا عن التوعية العامة وإثراء الثقافة الأدبية والفنية، ولا عن الصراع السياسي لتحويل علاقات القوة لغير صالح قوى الاستبداد، أكانت قوى رسمية أم أهلية، ولا عن المقاومة الوطنية الرامية إلى توسيع هامش المبادرة الإستراتيجية للمجتمع وزيادة موارده المادية والمعنوية، ولا عن تحقيق العدالة الاجتماعية، والسعي إلى دفع عجلة التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر والبطالة والركود الاجتماعي. كل عملية من هذه العمليات مستقلة عن الأخرى ومكملة لها معا، ليس هناك واحدة سابقة على الأخرى في القيمة ولا تعوض واحدتها عن الثانية.

هذا ما يفسر أن العلمانية ليست هوسا يوميا عندنا، ولا تحتل كل اهتمامنا، بالرغم من اعتقادنا بأنها جزء لا يتجزأ من عملية تحويل المجتمعات العربية وتحديثها السياسي والثقافي. بل هذا ما يجعلنا متفائلين بإمكانية كسب معركة العلمانية. وهو ما يحثنا على العمل من أجل تقريب مفهومها وثقافتها وقيمها من ثقافة المجتمع وتقاليده، وعدم الترفع على النقاش مع أفراده، سواء أكانوا متدينين أم غير متدينين، أملا بتحقيق اختراقات مطلوبة في هذا المجال. فلا يحتم الإيمان الديني غياب المقدرة على إدراك معنى العلمانية وقيمتها. وليس غير المتدينين حتما وبالطبيعة علمانيين أو أكثر مقدرة على فهم معنى العلمانية. يمكن أن يكونوا طائفيين، بالمعنى ذاته الذي كانت الأحزاب الشيوعية فيه طائفية، تعطي لأعضائها من الحقوق ما لا تعطيه لبقية أبناء الشعب، إيمانا بأن أنصارها هم الأقدر على تجسيد قيمها وشعاراتها، بما فيها العلمانية.

أصل هذه المراهنة على إمكانية تحويل الأفراد أو تمثلهم قيم العلمانية ليس أي جاذبية أو فتنة في مفهوم العلمانية نفسه وفكرة فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، وإنما الاعتقاد بجاذبية القيم التي تساهم في تكريسها، قيم الحق والحرية والمساواة التي يطمح إلى أن يعامل بها كل إنسان في اللحظة التي يخرج فيها من أفق التقليد المرتبط باحترام المقامات الخاصة وتكريسها. فالعلمانية لا معنى لها إلا من منظور هذه القيم وبالارتباط بها. فإذا فصلت عنها لم تعد سوى عقيدة مجردة يسهل رفضها وردها إلى أصولها “الأجنبية” عند البعض، وتدجينها لاستخدامها كأداة للقمع الفكري أو السياسي من قبل سلطة أو سلطات سياسية تغطي فيها على انتهاكاتها حريات الأفراد وضمائرهم، أو تحويلها من قبل نخب ثقافية مغتربة في مجتمعها إلى مبرر لقطيعتها عن المجتمع وغطاء يخفي استقالتها المعنوية والسياسية وعزلتها الروحية.

من هنا تشكل الديمقراطية، التي تعني هنا نظام الحرية الفكرية والسياسية، الإطار الذي ينبغي أن ينظر إلى العلمانية منه. وأن يؤخذ في الاعتبار عند الحديث عن العلمانية أو تطبيقها العملي، حاجات تحقيق الديمقراطية كنظام للحرية. عندئذ لا يعود هناك معنى للفصل بين العلمانية والديمقراطية، أو وضع واحدتهما في مواجهة الأخرى. فكما أن مقولة أسبقية العلمانية على الديمقراطية تضع الاثنتين في مأزق وطريق مسدود، تقود مقولة أسبقية الديمقراطية على العلمانية إلى التخلي عن المعركة النظرية والإيديولوجية. هناك لا شك أسبقية منطقية، أي أن مفهوم الديمقراطية أشمل من مفهوم العلمانية، كما أن العلمانية تستمد اليوم شرعيتها من الديمقراطية وقيمها الإنسانية. لكن ليست هناك أسبقية زمنية. ففي الممارسة العملية يتعلق الأمر بمعركة واحدة حتى لو خضناها على جبهات مختلفة ومتعددة. وهي معركة متكاملة ومتفاعلة، كل كسب نحققه في أحد الجبهات ينعكس مباشرة وبالضرورة ايجابيا على أدائنا في الجبهات الأخرى. ولذلك عندما تتحرك جبهة التحول الديمقراطي وتظهر إمكانية تحقيق خرق فيها، لا ينبغي التردد في خوضها بحجة خطر تقدم القوى غير العلمانية، وبالمثل لا ينبغي الانسحاب من المعركة عندما تطرح مسألة العلمانية بذريعة حماية الانجازات الديمقراطية.

أما النقطة الثانية التي يظهر من حولها خلاف فتتعلق بتحديد أفضل الأساليب والوسائل للوصول إلى الهدف، أعني فض الاشتباك بين المذاهب والأديان، والتأسيس لحرية الضمير والاعتقاد، وضمان احترام جميع المذاهب والآراء، الدينية وغير الدينية، ضمن قوانين دولة الحق والحرية والمساواة. وهنا أيضا، كما أن فهم العلمانية ومتطلبات تحقيقها لا ينفصل عن النجاح في تنزيلها في إطار التحديات التاريخية المتعددة المرتبطة برهانات المجتمعات العربية، وتجنب طرحها كقضية جوهرية مستقلة عنها وسابقة لها أو شارطة ومحددة لكل ما عداها من مسائل ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وتحويلها بالتالي إلى دين قائم بذاته في مواجهة دين آخر لا يقل جوهرية عنها، فإن الكفاح العملي والسياسي من أجل العلمانية لا ينفصل عن الكفاح من أجل إعادة بناء المجتمعات العربية على أسس ومبادئ القيم الإنسانية أو الإنسية. ويستدعي هذا أمرين. ربط أجندة العلمانية، أو المعركة الفكرية الضرورية لنشرها وتعميق ثقافتها في المجتمع، بأجندة العمل الاجتماعي من جهة، والنظر إلى ما يعيشه الرأي العام اليوم من تدين مفرط وارتداد إلى قيم لا تشجع على قبول العلمانية باعتباره حالة تاريخية لا تجسيدا لهوية ثقافية أو دينية ثابتة لا تتغير، ولا تعبيرا عن رفض قاطع للتحول والحداثة والقيم الإنسانية. وهي حالة تستدعي من العلمانيين مزيدا من التواصل مع المجتمع لا تعزيز القطيعة معه، واستثمارا فكريا أكبر في الرأي العام لتحويل الثقافة المحلية وإخصابها بالمفاهيم والقيم الإنسانية الحديثة.

وهذا يعني أولا أن من مصلحة العلمانيين المخلصين أن يكونوا جزءا من تحالف أوسع للتغيير الاجتماعي والسياسي، وأن يدرجوا معركتهم الخاصة ضمن المعركة العامة والشاملة، لا أن يجعلوا منها معركة فريق صغير ذي حساسية خاصة لقضايا علاقة الدين بالسياسة لكنه لا يهتم بمضمون السياسة الاجتماعية والوطنية ذاتها ولا بمصير المجتمعات المرتبطة بها. فالعلمانية تتقدم بشكل أفضل بكثير عندما توضع في سياق معركة العدالة الاجتماعية مثلا، كما حصل مع الحركات الاشتراكية، أو في سياق معركة التحرر والتخلص من الحزبية الضيقة الأحادية والانتقال نحو نظم ديمقراطية، أو كجزء من معركة الليبرالية السياسية. وهذا ليس من باب الانتهازية ولكن اتساقا ضروريا مع مفهوم العلمانية بوصفها جزءا من مشروع حداثة متكاملة، ولا يمكن أن يكون لها معنى من خارج أفق التحول القانوني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمعات.

ويعني ثانيا أن لا ينظر العلمانيون إلى العلمانية بوصفها قضيتهم الخاصة، أو هوية متميزة يدافعون عنها ضدّ أغلبية اجتماعية مدانة بالبقاء على اعتقاداتها وتقاليدها، ولا أمل في تغييرها. فمثل هذا الموقف ينفي عن العلمانية منذ البداية آفاق تحولها إلى قيمة عمومية ويزيد من مقاومة أغلبية المجتمع لها. ينبغي أن ينظر إلى العلمانية على أنها مصلحة عامة تعني الشعب بأكمله وليس نخبة محدودة، وأن من واجب النخبة العلمانية أو المتعلمنة أن تعمل من أجل تحويلها إلى قيمة عمومية، بدل أن تكون كما هي عليه اليوم رأسمالا رمزيا للنخبة المثقفة أو لجزء منها. وفي هذا يكمن مستقبلها. ويتطلب هذا تغييرا عميقا في التوجهات النفسية للمثقفين الذين يتصورون أنفسهم في تناقض قاطع مع الأغلبية الاجتماعية بسبب تقهقر هذه الأخيرة إلى مواقع دينية وتقليدية متزايدة. كما يتطلب نشوء شعور عميق بالالتزام تجاه المجتمع، واعتبار تربيته وتثقيفه مسؤولية المثقفين أنفسهم، ويستدعي بالتالي القبول بالتضحية من أجل مساعدته على الارتفاع إلى مستوى القيم الإنسانية المدنية والسياسية التي تساهم في تكريسها العلمانية.

وبالعكس، إن التسليم بفكرة الشعب الجاهل، والمجتمع المتدين والمتعصب غير القابل للتحويل والتغيير، والاعتقاد بأن الإسلام، دينا كان أم إيديولوجية اجتماعية تستخدمها الحركات السياسية، عائق لأي تقدم نحو العلمانية، أو عقبة أمامها، أو أنه عصي على التبدل والتغير وإعادة التأويل والتفسير، عدا عن خطئه نظريا، يقود لا محالة إلى قتل الممارسة والقنوط من إمكان تحقيق نظام الحرية الذي تدعمه العلمانية، ويشجع بالتالي على الاستقالة السياسية والقبول بالأمر الواقع، إن لم يكن الدفاع عنه وتعزيزه خوفا من مجيء نظام يرتبط فيه الاستبداد السياسي بالقهر الفكري والروحي معا. وهذا هو إلى حد كبير حالنا اليوم بين نخبة خائفة من التغيير لما يمكن أن يحمله من مخاطر على فسحة الحرية المدنية المحدودة التي تتمتع بها، ومجتمع عاص، مستعد دائما للانفجار والتمرد، منطو على نفسه ومنكمش على عقائده الخاصة، في مواجهة ما ينظر إليه كتسلط وعداء وقهر من النخبة والسلطة في آن واحد.

والقصد هنا أيضا أن الموقف من العلمانية وطريقة التعامل معها، كفكرة وممارسة، لا ينفصل عن الموقف من المجتمع وأسلوب التعامل معه والثقة به. فالعلمانية ليست فكرة تبشيرية، ولا قيمة لها إذا بقيت كذلك، وصارت علامة على الانتماء إلى جماعة محددة ومعزولة تجعل منها مرجعية لها تميزها عن غيرها من الجماعات التي تقوم على مرجعية مناقضة أو بديلة. أهم ما في العلمانية هو تطبيق مبدأها، أي هو الجانب السياسي منها. فليس من المطلوب تغيير عقائد الناس واعتقاداتهم الدينية والفلسفية، إنما تمكينهم من ممارسة التعددية الفكرية والسياسية، واحترام الرأي الآخر، والفصل في سلوكهم بين معتقداتهم وحياتهم الخاصة من جهة وقوانين التعايش الاجتماعية والسياسية العمومية، التي لا بد أن تعلو على هذه الاعتقادات الخاصة، وأن تسمح لجميع الأفراد بممارسة خصوصياتهم بالقدر نفسه من جهة ثانية. مما يترتب عليه أن تكون عموميتهم “السياسية” أيضا من طبيعة واحدة ومتساوية.

والتفكير في الأسلوب الأنجع للوصول بالعلمانية من مستوى الإيديولوجية الخاصة إلى مستوى الفكرة الإنسانية المستبطنة، ومن وراء ذلك، إلى مستوى الممارسة العملية، وتطبيقها في الحياة العمومية المؤسسية، يعني التفكير في أجندة علمانية، أي رسم خطة عمل وإستراتيجية ووضع أولويات وأهداف مرحلية تواكب العمل على تحقيقها. وليس لهذه الأجندة والإستراتيجية التي تضمرها معيار آخر يعتد به سوى معيار النجاعة والفاعلية، ولا تفيد فيه كثيرا شدة التعبير عن الولاء والانتماء ولا، من باب أولى، المزايدة والمناكفة والمبالغة والتحدي والاستفزاز للأطراف التي ينبغي إقناعها بموضوعية العلمانية وصلاحها للنظام العام. إذ ما قيمة العلمانية إن لم تتحول إلى قاعدة للحياة العمومية، والسياسية بشكل خاص؟ وكيف يمكن أن نجعل منها قاعدة عامة إذا لم يقتنع قسم كبير من الرأي العام، إن لم تكن أغلبيته الساحقة، بنجاعتها، وحياديتها، ونزاهتها هي نفسها، في ما يتعلق بالموقف من العقائد الذاتية والخصوصيات الثقافية؟

إنّ المدخل إلى إقناع الناس بقاعدة مساواة الدولة بين جميع الأديان والعقائد والمذاهب الخاصة، كمقدمة للمساواة القانونية والأخلاقية في ما بينهم، هو اقتناعهم بمساواة العلمانية نفسها بين العقائد والمذاهب المختلفة، وتعاملها معها على القاعدة ذاتها، أي نزع الطابع العقائدي، مهما كانت صورته، عنها. وهذا ما أدعوه علمنة العلمانية. وهو يستدعي أن تكفّ العلمانية عن أن تكون مذهبا أو أن تطرح كمذهب، لتصبح مبدأ للمساواة بين المذاهب وضمانة لها، وأن تكفّ عن أن تستخدم كوسيلة للإدانة والتقسيم والشجب والقهر الأخلاقي، لتكون ضمانة للحريات الفكرية والمذهبية جميعا، وفي مقدمها حرية الرأي والضمير. ويعني ذلك القبول بوجود اعتقادات خاصة معادية للعلمانية، وعدم النظر إليها كما لو كانت إساءة للعلمانية أو عداءا لها، والتعامل معها على أنها بعض تنويعات المشهد الفكري والإيديولوجي.

وعلى جميع الأحوال يجدر بالعلمانيين أن يدركوا أن نشر الفكرة وتعميمها وإشاعتها عند الجمهور هي مسؤوليتهم هم أنفسهم، لا مسؤولية رجال الدين أو دعاته. والفشل فيها يستدعي من العلمانيين مراجعة إستراتيجية العمل التي صيغت لبلوغها، والنظر في أجندتها وسبل الدفاع عنها. وبالعكس لا يعني التهجم على الجمهور، مهما كان تديّنه وتعصّبه وعداؤه للعلمانية وقيمها، سوى الهرب إلى الأمام، والتعويض عن مواجهة الفشل ومراجعة الذات بصبّ جام الغضب على جمهور تتنازعه، ككلّ جمهور، أفكار وتوجهات واعتقادات كثيرة ومتباينة. وأنا أرى في نجاح رجال الدين ودعاة التيارات الإسلامية في السيطرة على الرأي العام العربي في هذه الحقبة إدانة لنا نحن المثقفين العقلانيين، وتعبيرا عن تقصيرنا وعجزنا عن قيادة معركة الحداثة والتحديث وجذب الأغلبية الاجتماعية إلى قيمنا ومبادئنا ونماذجنا السياسية والمدنية، أكثر مما هو نتيجة تعلق الشعب وانجذابه إلى نموذج اجتماعي إسلاموي يختلف على سماته ويتنازعون فيه الإسلاميون أنفسهم قبل خصومهم. والبرهان على ذلك أن هذا النموذج يعاني في كل مكان طبق فيه من نقائص وتناقضات، ويقود إلى مآزق لا يمكن لأي مجتمع التأقلم معها أو قبولها. يشاركنا في هذه المسؤولية بالتأكيد نظم الاستبداد التي تلغي أي تفكير أو حوار، وتراهن من أجل بقائها وتأبيد وجودها على تجهيل الناس وعزلهم وتفريق صفوفهم وإلغاء حسهم النقدي في كل صوره وأشكاله. ومن هذه الناحية هناك بالفعل، كما كتبت في أكثر من مرة، تحالفا موضوعيا على تدمير العقل واغتياله، بين سلاطين المال والمافيات الحاكمة في أكثر من مكان وسلاطين الدين ومافيات الروح التي تتعامل برأسمال التراث الرمزي لتحقيق مصالح ومآرب وممالك خاصة لا تقل تخريبا عن تلك التي تمارسها مافيات السلطة والمال. لكن مواجهة هذا التحالف ضد العقل والفكر التعددي المتسامح والانعتاق الروحي في بلادنا لا يواجه بالانفصال عن المجتمعات أو إدانتها، ومن باب أولى بإعلان العداء لها أو بنزع أهليتها الإنسانية، والتعامل معها كما لو كانت ملحقة بالمافيات، بل المسؤولة الرئيسية عن وجودها.

لا ينبغي تصور المسألة كما لو كانت معركة بين نخبة من المثقفين العلمانيين المتنورين ومجتمع أو أغلبية اجتماعية متدينة وغير قادرة، مهما كان السبب، على الارتفاع إلى مستوى القيم الإنسانية والعلمانية. هذا التصور السائد اليوم هو أصل المأزق وصلب المشكلة. الصراع ليس بين النخبة والشعب. هذا ما حاولت التركيز عليه منذ بداية هذا الحوار. الصراع قائم بين أطراف النخبة الاجتماعية، الثقافية والسياسية، ذات الاتجاهات والأفكار المتعددة والمتباينة على كسب الجمهور وشده لمواقف نعتقد أنها الأصلح له ولنا، لكن ليس لنا وحدنا. وإلا من الطبيعي أن نتوقع أن يقف الجمهور بأغلبيته ضدنا، ويطالب بالقضاء علينا وعلى فكرنا بوصفنا الفئة الضالة والخارجة عن الإجماع.

لا يمكن لأي عمل عام، سياسيا كان أم فكريا، أن يوجد، ولن يكون له معنى، إن لم نقبل بأن جوهر عملنا هو الصراع في ما بيننا، أعني أطراف النخبة المختلفة، أصحاب الفكر أو السلطة أو المال أو جميعهما معا، على تكوين الرأي العام، وبالتالي توجيه خطاه، وربما دفعه إلى الوقوف وراء ما نعتقد انه الاختيارات الإيديولوجية والسياسية الأصلح للجميع، لأنها وحدها الكفيلة ببناء دولة ووطن يضمن كرامة الإنسان وتفتحه وحرياته الأساسية. وسيظهر أي صراع سياسي وفكري ينظر إلى نفسه بوصفه صراعا ضد الرأي العام، أو المجتمع نفسه، وليس ضد تيارات القيادة الفكرية والسياسية الأخرى، في سبيل قيادة المجتمع، بل ويمكن أن يتحول أيضا، إلى تمرد على المجتمع وعداء له، وبالتالي إلى عزلة وانفصال مؤلم ومأساوي للنخب الاجتماعية عنه. وكسب الرأي العام يحتاج إلى الاعتقاد بحيوية الإنسان، وإمكانية تحويل الرأي العام انطلاقا مما يتميز به وعي الأفراد نفسه من تباين وتعددية وتطلع نحو المستقبل. من دون ذلك سيكون أي عمل أو بذل للجهد، فكريا كان أم سياسيا، من قبيل العبث المحض. نحن نكتب وننشر ونجادل ونضحي بوقتنا وحياتنا أحيانا لأننا نؤمن أن هناك إمكانية لكسب جزء من الرأي العام لأفكارنا، وبالتالي للتغيير، سواء داخل المجتمع أو في نظام المجتمعات. وإذا اقتنعنا أن المجتمع غير قادر، لأسباب بيولوجية أو ثقافية أو سياسية، وراثية أو غير وراثية، على الخروج من قوقعته وأفكاره القديمة وتقاليده وخرافاته وأساطيره، مهما فعلنا، فلا أرى أي حافز للاستمرار في العمل العام، بما في ذلك النشر ومخاطبة الجمهور عبر الكتابة والصحافة. وإذا كانت العلمانية عصية بالفعل على النفاذ إلى عقول المسلمين أو العرب لما يتميزون به من تمسك استثنائي بالدين أو تعصب للأصل والتقاليد، أو عداء للعقل والتنوير، فليس هناك أي جدوى من الحديث فيها أو طرحها.

لا أعتقد أن عصيان الرأي العام على العلمانية ينبع من غرابة القيم التي تحملها، أو ما يشاع عن الترابط الحتمي في الإسلام بين الدين والسياسة – وقد بينت في كتاب نقد السياسة خطأ هذه الفرضية – وإنما من أنها بقيت إيديولوجية ومذهبا فكريا وهوية فئة اجتماعية، وتحولت إلى أحد أدوات السلطة واستراتيجيات الصراع على السلطة، ولم تتحول أبدا إلى قاعدة أخلاقية تعترف بشرعية الرأي الآخر وتؤسس لحرية الضمير ورفض الإكراه والمحاكمة على الرأي، ولا إلى قاعدة للممارسة السياسية، القائمة على المساواة بين العقائد والمذاهب، والاحترام العميق لاختيارات الأفراد وتفضيلاتهم، التي تؤسس لوعي عام سياسي مستقل عن الاعتقادات الشخصية، وتعطي معنى لوجود الفضاء العام والإرادة العامة والمصلحة المشتركة. وهكذا لم يكتشف الرأي العام العربي أي قيمة ايجابية للعلمانية المطروحة دائما بالسلب، أي كنقيض للعقائد الدينية أو لسيطرة العقائد الدينية في الحياة العمومية، ولم تطلب منه إيديولوجيتها الشائعة شيئا آخر سوى القبول بفصل الدين عن الدولة، الذي فسره، في غياب الثقافة والثقافة السياسية الحديثة وحرية الرأي والعقيدة والتنافس السلمي بين المذاهب الفكرية والتيارات السياسية، على أنه محاولة لتحرير الدولة، والنخب الاجتماعية القريبة منها أو المتعلقة في وجودها بحبل سرتها، من التزاماتها الأخلاقية والإنسانية والشرعية، أي بمسؤوليتها تجاه الأغلبية الاجتماعية نفسها.

والحال أن العلمانية لا يمكن فهمها واستيعاب قيمتها الايجابية من خارج الممارسة الديمقراطية بالمعنى العميق للكلمة، أي بما تمثله من تجسيد عملي للثقافة والقيم الإنسية. فهي التكريس الطبيعي لتربية الأفراد وتدريبهم على اختراق قشرة الاعتقادات والمذاهب والهويات الخصوصية للوصول إلى البذرة الواحدية المشتركة بينهم، أي إلى اكتشافهم إنسانيتهم المشتركة، ووحدتهم في الإنسانية. وهي ترتبط إذن بالإيمان بمقدرة جميع الناس، بصرف النظر عن أصولهم ومشاربهم، على الارتفاع إلى مستوى الإنسانية، وتجاوز قيود الخصوصيات الثقافية والدينية. ومن المفروض أن يسمح مثل هذا الوعي الإنساني المشترك بانخراط أوسع في عملية تحرير الإنسان، ويربط العلمانية، من حيث هي وعي بماهية الإنسان الواحدة، بقضايا التحرر الثقافي والسياسي والاجتماعي، ويلغي عنها طابعها السلبي، الإطلاقي والتجريدي.

هذا هو المدخل لفهم الموقف من المجتمع ككل، على تدينه، بل تعصب أكثر أفراده اليوم، والموقف من مختلف التيارات الإسلامية وغير الإسلامية أيضا. ومن هنا ليس من قبيل الحكمة السياسية، في نظري، التركيز على انقسام المجتمع عموديا إلى علمانيين حاملين لقيم العقل والحق والقانون، وإسلاميين، علنيين أو مستترين، لا هم لهم سوى نشر مذاهبهم الظلامية واللاإنسانية، وإحباط مسار التحديث والتنوير. لا يتفق مثل هذا التصور وهذا التقسيم الذي يقضي على الفروقات والتمايزات العديدة الأخرى، التي من دون التعامل معها وإبرازها يستحيل تجاوز التناقض بين العلمانية والدينية نفسها، مع الواقع الفعلي، ولا يخدم أبدا قضية العلمانية ويزيد من فرص تحقيقها في هذا الواقع. إنه يهدد بالعكس بتحويلها إلى هوية نخبة قليلة وضيقة معزولة عن المجتمع، وتحويل الدينية أو العصبية الدينية إلى هوية جماعية، ويدفعها إلى أن تكون مصدر عقيدة خلاصية وتمردية، مناهضة للنخبة والدولة معا.

يتطلب تعزيز التوجهات العلمانية النظر إليها من وجهة نظر عملية تعتبر صحيحا وسليما ما يساهم في تحسين شروط تطبيقها في الواقع السياسي، فهذا هو الهدف الأكبر. أما المواقف الراديكالية التي تبالغ في أمثلة العلمانية ورفعها فوق مستوى الثقافة والدين والتقاليد المحلية، وتحويلها إلى فلسفة نقيض للأفكار الاجتماعية، في الماضي والحاضر والمستقبل، وأحيانا إلى ما يشبه الدين البديل أو التعويض عن الدين، فأقل ما يقال فيه أنه سياسة خاطئة بحق العلمانية وضمان مستقبلها. ومن هذه الزاوية العملياتية، أي الإستراتيجية أيضا، يبرز المعنى العميق للطرح السياسي للعلمانية، أي السعي إلى طرح أجندتها الخاصة ضمن أجندة أوسع منها تعطيها معناها وتعيدها إلى مكانها وحدودها، كجزء من عملية تحويل ثقافي وسياسي واجتماعي شاملة، تعنى بتحرير الإنسان وانعتاقه الفكري والسياسي، لا كبديل عن هذه العملية المعقدة والمركبة والطويلة، أو كمبرر لتجنب الخوض فيها. وهذه الأجندة هي في نظري الأجندة الديمقراطية التي تدخل في إطار الممارسة السياسية ولا تقف عند التبشير الفكري والجدل النظري.

ومن سمات الممارسة السياسية أنها تقدم فرصا للتفاعل الفكري والسياسي تتجاوز بما لا يقاس ما يقدمه النقاش المحدود بين المثقفين من حول مفاهيم ونظريات. فهي تضع مصالح اجتماعية فعلية على المحك وفي الرهان. وتجبر أصحابها على الدخول في تحالفات مع قوى تختلف عنها من حيث الثقافة والاعتقادات والأفكار، ولكنها تحتاج إلى التعاون لتحقيق مصالحها. فهي تتقاطع في نقاط وتختلف في نقاط أخرى، وقد تكون من ضمنها العلمانية. فمنطق السياسة مختلف عن منطق النظرية والإيديولوجية. وهو يشكل في استقلاليته مدخلا للتحويل الفكري والسياسي معا، بما تولده الممارسة العملية لتغيير الأوضاع من ديناميكيات جديدة، وما تفتحه من آفاق غير موجودة على مستوى العمل النظري وحده. إذ يستدعي العمل من أجل السلطة أو التغيير تحالفات وتفاهمات سياسية، لا تتحقق من دون حوار ونقاش وتنازلات متبادلة وتسويات. وهنا تبرز القدرة الخلاقة للعمل السياسي على تغيير الأفكار وتنمية الاستعداد لتقديم التنازلات، بما فيها الفكرية والإيديولوجية، في ناحية من أجل تحقيق مصالح في ناحية أخرى.

هذا ما حصل للإخوان المسلمين السوريين، الذين دفعهم تهميشهم من قبل النظام وعزلهم إلى القبول بتنازلات كبيرة في ميدان ما سموه الطبيعة المدنية للدولة مقابل إدماجهم من جديد في الحركة الوطنية الديمقراطية. لكن الأخوان ليسوا طائفة واحدة وإنما طوائف وتيارات مختلفة تفرق بينهم الانتماءات الوطنية وشروط العمل الاجتماعية. وليسوا عصيّين على التغيير الفكري والإيديولوجي أيضا. ولا ينبغي استسهال التعامل معهم، أو التسليم بعجزهم عن أي تغير أو تطور في اتجاه قبول شكل من أشكال العلمانية أو على الأقل إدراك ما ترمي إليه من أهداف، لا تتعارض مع الدين، بل تصب في مصلحته الحقيقية. فرجال الدين الأتراك يدافعون اليوم، بعد التجربة، عن القيم العلمانية ولا يرون فيها مساسا باعتقاداتهم الدينية. ولم تمنع الجمهورية العلمانية التركية الأتاتوركية نشوء أحزاب إسلامية، ولا تعايش هذه الإسلامية السياسية مع قوانين العلمانية وتكيّفها معها.

ومن منطلق عملية التغيير السياسي والاجتماعي هذه ينبغي أيضا النظر إلى مسألة التعامل مع التيارات والحركات الإسلامية الأخرى التي تبدو في نظر العديد من أنصار العلمانية الجوهرانية كتلة صلدة واحدة لا تمايز فيها ولا تناقضات ولا نزاعات. ورأيي، لا ينبغي للمثقفين أن يسلّموا بهزيمتهم المسبقة، ويعتقدوا أنهم غير قادرين على التأثير عل جمهور الإسلاميين أو التواصل معه. فالإسلاميون ليسوا كائنات تعلو على شروط المجتمع والسياسة والثقافة والاقتصاد والتاريخ. إنهم بشر كالآخرين، يتأثرون ويؤثرون، يحلمون ويفكرون، يخضعون في سلوكهم لمنطق القوة ومنطق الضعف، منطق الحلم ومنطق العقل، منطق السلطة ومنطق المعارضة. وإذا كان من الصعب رؤية واقعهم المعقد والمركب على مستوى الفكرة والخطاب والشعار، فهو بارز بشكل كبير على مستوى الممارسة العملية، أي السياسية. فهم أحزاب ومنظمات لا حصر لها تتجاوز العشرات في كل بلد من البلدان، ومنها المتحالف مع السلطة والمعارض لها، والانتهازي الرخيص والمبدئي الحالم، والمتطرف الإرهابي والمتصوف الإنساني.

والقصد، ليس هناك أي مبرر أخلاقي لافتراض القصور الجوهري لهذا الفرد أو ذاك، بسبب اعتقاداته في هذه الفترة أو تلك، في أن يتحول ويتغير من خلال التوعية والتربية والحوار، وأن يدرك القيمة الايجابية للعلمانية. وكلنا نعرف نتائج سياسات العزل والإقصاء ومآلاتها. ولا مصلحة لأحد في نبذ أي طرف أو إدانته الأبدية، علمانيا جهاديا كان أم إسلاميا متشددا. وكما شهدنا في العقود القليلة الماضية، تحولت شعوب بكاملها من إيديولوجية إلى إيديولوجية نقيض، وانقلب مثقفون شيوعيون ستالينيون، في العالم العربي وغيره، من عقيدتهم المادية، شبه الإلحادية أو الإلحادية، إلى دعاة إسلاميين، وأدانوا تجربتهم السابقة. وقاد بعضهم حركة الانتقال نحو الديمقراطية في العديد من أقطار الشيوعية السابقة في أوربة الشرقية والاتحاد السوفييتي. وتخلى الإسلاميون الأتراك عن أوهام عديدة، وقبلوا بالعمل على قاعدة الحفاظ على الجمهورية العلمانية في تركيا، وساهموا بوصولهم إلى السلطة مساهمة كبيرة في تعزيز الديمقراطية التركية وجعلها خيارا لا رجعة فيه، بعد أن بقيت في حماية القوى العسكرية، إن لم نقل رهينة في يدها.

لا ينبغي أن يكون موقفنا من الحركات الإسلامية موقف الإدانة النهائية والتوحيد الشامل في ما بينهم وإنما، على العكس، السعي إلى إدماجهم في النظام السياسي لدفعهم لتبني مواقف أكثر ميلا لقبول التعددية، والتمييز بين تياراتهم المختلفة وتشجيعها على التحول إلى حركات إسلامية ديمقراطية. فوجود حركة إسلامية ديمقراطية سيعزز حركة الانتقال الديمقراطي ويجعل الديمقراطية خيارا جامعا في البلاد العربية. ويستدعي مثل هذا الموقف تجنب موقف التهميش والتشهير والاستعداء، والعمل بالعكس على تطوير مواقف مشتركة وبرنامج سياسي وطني وحقوق إنساني أدنى يمكن أن تتقاطع الأطراف على العديد من نقاطه.

وفي السياق نفسه، ينبغي تجنب ربط النضال ضد الأفكار والقيم والتوازنات السلبية والخاطئة بالتشهير بالأفراد والجماعات المنخرطة فيها. فليس هدف النقاش تحطيم الخصم وقهره وإبادته، ولكن مساعدته على التخلص من اعتقاداته الخاطئة. والذي يريد أن يقضي على الآخرين ويعزلهم ويزيحهم من الصورة حتى يتخلص من أفكارهم كمن يطلب قتل الناطور للحصول على بعض العنب. هذا يبرز أهمية الحوار مع الآخر، بوصفه وسيلة لتغيير متبادل للأفكار، وربما لاكتشاف نقاط التقاء وتقارب كان يخفيها النزاع والعداء ويغطي عليها. كما يبرز أهمية احترام الآخرين وعدم الاستهزاء بآرائهم وقناعاتهم. فهذا هو المدخل الوحيد لتغييرهم وتغييرنا أيضا، أي للوصول إلى تفاهمات ووحدة فكر، في ما وراء اختلاف النظر والنظريات، وإلى بناء رأي عام قادر على التفاعل والاختلاف ضمن الوحدة والصراع، والحفاظ على الهدوء والاستقرار وضبط الأعصاب. ولا يمكن عقد أي حوار مع الآخر إذا كانت نقطة البداية إدانته المسبقة، وتسخيف عقله وعقائده، مهما كانت، والنظر إليه كما لو كان متخلفا في الجوهر، مشوه العقل أو متعصبا بالولادة، وغير قادر على التفكير أو الفهم أو التغيير. والحال، من منا لم يغير أفكاره في الثلاثين سنة الماضية. وهل كان مصدر التغيير أمرا آخر سوى فشلنا في تحقيق أهدافنا واكتشافنا محدودية تفكيرنا وضعف حججنا؟ ولماذا نعتقد أننا كنا قادرين على التغيير في تفكيرنا بينما لا يمكن للآخرين الذين يعيشون اليوم حالة لا تختلف كثيرا عما عرفته التيارات اليسارية الكلاسيكية من إخفاق، الخروج من قوقعاتهم الفكرية التي بنوها في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة؟ هل هي عقائدهم ذات المصدر الديني، أم قصورهم الفطري وتعصبهم الاستثنائي؟ لا أعتقد أن تعصب الشيوعيين الستالينيين كان أقل شدة عندما استلموا السلطة وقادوا الثورة البلشفية.

وفي الخاتمة أعتقد أن مواقفنا النظرية والإيديولوجية لا يمكن أن تنفصل عن تصور كل منا، مثقفين وغير مثقفين، لدورنا الاجتماعي واستعداداتنا للالتزام وحمل المسؤولية العمومية. وهي بهذا المعنى ليست مستقلة كما ذكرت عن اختيارات أخلاقية مسبقة أو مضمرة. والسؤال الذي ينبغي ربما على كل فرد أن يطرحه على نفسه، خاصة بين العاملين العموميين من مثقفين وسياسيين ونشطاء مدنيين، هو ما مسؤوليتي في ما هو قائم، وما هو دوري الخاص أو مساهمتي في تغييره، وبالتالي ما هي مسؤولياتي وما هي الالتزامات التي تترتب عليها؟ وبالنسبة لنا كمثقفين، لا يمكننا التهرب من طرح سؤال. هل يكمن دور المثقف في الشجب والإدانة والشماتة والتشهير أم في دفع الرأي العام إلى هجر المواقف السلبية وتشجيعه على سلوك الطرق السالكة والعقلية. يتوقف الأمر من دون شك على اعتقاداتنا الشخصية وثقتنا بالإنسان وأملنا في تحرره أيضا. وأنا من الذين يؤمنون بحتمية التحول وقوة القيم الديمقراطية بما فيها العلمانية، ويعملون من منطلق إمكانية دفع الناس إليها وتحبيبهم بها لا بإدانتهم بالجهل والتطرف والتعصب. ولا أرى في الإسلاميين، مهما تفاقمت أزمتهم الفكرية والسياسية، وزاد انغلاقهم وتعصبهم، مخلوقات خاصة تعصى على منطق العقل، وتعجز عن تمثل القيم الإنسانية أو تبقى حصينة عليها. بالمقابل أعتقد أننا، نحن المثقفين العقلانيين والنقديين، أكثر المهتمين بالرأي العام والمدركين لمسؤوليتهم في تغييره. ولا نستطيع ذلك إذا كنا خصوما له أو تبنينا منطق الخصومة معه، حتى عندما تظهر قطاعات واسعة من الرأي العام خصومتها لنا وعدائها لأفكارنا.

هكذا، تستدعي عملية التغيير السياسي في اتجاه الديمقراطية، وتكريس قيم الحق والمساواة والحربة، توحيد أكثر ما يمكن من القوى الحية، وتعظيم الشعور بالمسؤولية والأمانة الفكرية لديها، لا العمل على تمزيقها وبث الفرقة بينها وقطعها عن الرأي العام. فهذا التقارب السياسي هو المدخل للتقارب الفكري، والحافز على تقديم تنازلات متبادلة، والقبول بتسويات غير مسبوقة بين الأطراف تسمح ببناء إجماع ديمقراطي، أي تفاهم على حصر النزاع بين الرؤى والمصالح والتوجهات في إطار الوسائل والطرق السلمية. وهذا هو شرط حصولنا، نحن المثقفين أو جماعات النخبة العمومية، على الصدقية التي من دونها لن يكون لنا أي أمل في التأثير في الرأي العام ولا في دفعه إلى تبني مواقف ايجابية لا أمل في قيام الديمقراطية، ولا من باب أولى انتشار روح التسامح والنزاهة الاجتماعية، من دونها.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى