صفحات ثقافية

الفنون والآداب تحت ضغط العولمة لجووست سمايرز: ساحات قتل رمزية!

null

محمود قرني

القاهرة ـ القدس العربي ستظل سياسات العولمة مربكة وملتبسة علي كل الاصعدة لفترة قد تطول، لكنها تبدو أكثر التباسا علي الصعيد الثقافي، وهو ربما ما يمكن رده إلي التباس المنتجين عن نفسيهما إذا صح التعبير، وكذلك ما يبدو بينهما من تناقض كبير ففيما تسعي العولمة الي الاقتحام وإسقاط القوميات كبراها وصغراها ومن ثم توحيد الثقافات عبر شبكات عملاقة من ترويج كل صور الاستهلاكات، تسعي الثقافة في الوقت نفسه إلي تغيير العالم، وإعادة الاعتبار بمنظومة القيم الإنسانية التي نعتقد برفعتها، وهي في ذلك تجاور بين الهامشي وغير الهامشي، تحتفي بالثقافات الواهنة والضعيفة والجينوهات الصغيرة، ومن ثم فهي تؤمن بالاختلاف بل ربما تراه حتمية ثقافية.

وفي هذا الكتاب المهم الفنون والآداب تحت ضغط العولمة يطرح المؤلف جووست سمايرز العديد من هذه الأسئلة الملتبسة والمدققة أيضا، وذلك عبر عدد من العناوين المهمة التي استغرقت تسعة فصول في حوالي خمسمئة صفحة من القطع الكبير، وقد جاءت معظم هذه العناوين معبرة عن اهتمامات سمايرز نفسه الذي يدرس العلوم السياسية في جامعة هولندا لكنه يدرسها في سياق علاقتها بالفنون والثقـــافة، لذلك فالكتاب يتناول حرية المنتج الثقافي وحمايته والسياسات الثقافية العالمية، وفكرة المحلية في الحماية الفنية، وحرية التعبير كثمن للمســــؤولية، وكذلك الفكرة الأهم التي تتمحور حول فكرة توحيد الثقافات والنصوص، وهي النقطة التي ربما نالت القسط الأعظم من هذا العرض الذي نقدمه للكتاب، نظرا لما فيها من حسم وإلمام غير مسبوقين من المؤلف وللتأشير إلي الخطـــــورة القصوي لفكرة التوحيد الثقافي، والكتاب صدر عن المجلس الأعلي للثقافة بالمشروع القومي للترجمة وترجمه الي العربية الكاتب طلعت الشايب.

في البداية يتناول المؤلف الفنون والآداب في العالم باعتبارهما ساحة للصراع، ولا يتوقف أمام معيار القيمة الذي يميز عملا عن غيره من الأعمال لكنه يركن إلي التاريخ النسبي لتلك المعايير التي يمكنها أن تمثل درجة من النوعية، وذلك لأنه يضع منذ البداية في اعتباره الفوارق الاجتماعية والثقافية، وكذلك لا يهمل عوامل الجغرافيا التي تتغير فيها وتبعا لها مواقع الفنون والآداب، ويري سمايرز أن الفنون والآداب جزء من صراع اجتماعي بين وسائل التعبير التي قد تشارك فيها ونعتبرها مقبولة أو غير ذلك ويقول: انها ـ في كل الحالات ـ وسائل تعبر عن المتعة أو العدوان أو الرغبة أو الضعف أو القوة أو السخرية أو الخوف، أما اعتبار الشيء جميلا أو ممتعا أو مسليا أو مثيرا، فذلك يتوقف علي الإطار الاجتماعي المحدد، ويتساءل: فما الأكثر فائدة من المنظور الثقافي،إشباع المباشر المتوقع أن تحدثه التجربة الفنية، أم العملية الطويلة البطيئة لإدراك القيمة في الفنون والآداب والتي تعطي الحياة بعدا أكثر عمقا؟ ما المرجعيات السياسية والاجتماعية التي يتخذها المبدعون وما المرجعيات التي ينصحون بتجنبها، وينتقل سمايرز الي وصف أكثر التباسا هو اعتبار الفنون والآداب ساحات قتال رمزية ويقول معلقا علي ذلك: ليس من البديهي أن تتعايش أو تتجاوز أشكال الفنون والآداب المختلفة في وفاق، ولا الآراء أو الأفكار المتعلـقة بما ينبغي أو لا ينبغي للمبدعين أن يصنعوه ويضرب سمايرز عدة أمثـــــــلة علي ذلك مثل إصدار الحكومة النيجيرية حكما بالإعدام علي الكاتب كن ساروويوا وثمانية آخرين احتجوا علي الاستغلال وتلويث البيئة من قبل شركة شل العالمية، وفي أفغانستان دمرت طالبان الآلات الموسيقية التقليدية كما فعل ذلك عيدي أمين في أوغندا كل ذلك يتم علي مرجعية دينية أو ثقافية أحيانا.

ثم ينتقل المؤلف الي فكرة التوحيد الثقافي ويعتقد أن هذه الفكرة من أسخف الأفكار التي دعت اليها العولمة، ويقول ان الثقافة الموحدة أو المتجانسة هي أول ثقافة نيابة عن الآخرين، كما يقول العالم السياسي صول لاندو وهي ثانيا ثقافة مقيدة لغويا بقواعد التسلية، فالثقافة الموحدة لها لغة خاصة وهذا ما ينبغي تحليله، ويضيف سمايرز: في هذه الثقافة الطاغية التي يحدوها التوحيد والمجانسة، ما يحتاج الي تحليل علي وجه الدقة هو قوة الكلمات، لأن الكلمات في نظره تحيل أفكاراً وصوراً وأحاسيس، فالكلمات تضع بنيتها قواعد اللغة لكي يصبح لها معني عندما تعبر عن أفكار فالعين حرة لكي تتنقل بلا قيود، تقبل النموذج أو تقبل غيابه دون حاجة للعقل.

ويؤكد المؤلف انه في العالم المعاصر، حيث تستطيع التكتلات الثقافية الاحتكارية الكبري أن تنشر أفكارها عما ينبغي أن تكون علــــيه الثقافة، فهي تتحكم في شخص المؤلف وطـــــريقة وحجم التوزيع والعرض وينقل المؤلف عن جورج جيربنر أن تغـــــيرا رئيسيا قد حدث، ويقول إن معظم ما نعرفه أو نعتقد أننا نعرفه لا يأتي من الجينات ولا من التجربة الشخصية وانما من القصص التي نحكيها، البني الضخمة للقص والتي تسمي بالعلم والأخبار، إلي آخره، هذه البني هي التي تحدد وتوجه هذا العالم الذي نعيش فيه، غير أن سمايرز يري أن السؤال الأكبر هذه الأيام يتعلق بمن يتحكم في عمليات القص هذه، تلك العمليات التي يقول انها تتحدي أوهامنا ورغباتنا وأحلامنا وخيالنا وذاكرتنا.

أما فيما يتعلق بالكيفية التي تؤثر بها الثقافة الموحدة علي حياة الناس، فيقول سمايرز ان هذا التأثير يعمل علي مستويين: الأول هو انها تنمي قيما وأساليب سلوك معينة مثل الاستهلاك الفردي والمنافسة، والثاني هو أنها تصمت تماما عن مجموعة كاملة من القيم ذات التوجه الاجتماعي مثل التضامن والرعاية، ويري سمايرز أن المستوي الثاني من التفكير يبدو أكثر أهمية حيث ان للثقافة الموحدة ـ حسب تعبيره ـ أثراً علي عملية التكوين، ويصبح في نظره الأكثر أهمية هو كون الثقافة لا تتكلم عن عملية البناء الجماعي لمجتمع اكثر إنسانية وعدلا وأكثر محافظة علي البيئة، ويؤكد المؤلف علي أن أحد آثار الثقافة الموحدة أنها تقوم بهندسة وتوجيه الطلب علي السلع الاستهلاكية. وينقل المؤلف عن لويس أوجستو أن التلفزيون يؤثر علي الاستهلاك ليس عن طريق الإعلان فحسب وانما عن طريق ما يقدمه من برامج بشكل عام، ويؤكد ان صناعة المنسوجات والأزياء ما كانت لتتطور في البرازيل مثلا لولا التلفزيون، وهو الأمر الذي يدفع المؤلف الي القول بأن هندسة وتوجه الطلب عامل حاسم في الرأسمالية الاحتكارية، وفي هذا السياق ـ حسب قوله ـ تكون الأزياء لا غني عنها، بعد أن أصبح التلفزيون رمزا للعصرية بترويجه نموذجا للاستهلاك العصري.

وفي هذا السياق يري المؤلف ان الوسائط الإعلامية لا تضع جداول اعمال وأطراً للجدال فحسب، ولكنها أيضا تغير وجهة ومستوي الرغبة والذاكرة والخيال، وتوحي بأن الواقع يشبه عالما لا حاجة فيه للذاكرة، حيث تصبح الصور البصرية بديلا عن الذاكرة. ثم ينتقل سمايرز إلي أحد المجالات الأخري التي تؤثر فيها الثقافة الموحدة هو مجال تربية الناس، وذلك ـ حسب قوله ـ يتمفصل في إبرازها للقيم المهمة في الحياة وأشكال السلوك المرغوبة، ويري المؤلف ان الكيانات الثقافية الكبري هي المربي والوصي في الحقل الاجتماعي حيث هي تختار وتقصي القصص والصور والكلمات التي يمكن أن يتشكل عبرها الوعي الفردي.

وينتقد جووست سمايرز بشدة تجليات تلك الثقافة الموحدة التي تطرحها العولمة في الفنون والآداب والتسلية والترفية، والإعلانات والسلع الاستهلاكية علي نحو فني، ويقول سمايرز: هذه المثيرات كلها مصنوعة جيدا ومصقولة فنيا، ولا تترك مجالا للشك، وتكرس الاعتقاد بأن المصالح الفردية باتت أكثر أهمية من الصالح العام، كما تحرص كلها علي تنمية الاقتناع بأن مصالح الجميع في أمان ما دامت في ايدي المقاولين وأصحاب الأعمال.

ويتساءل سمايرز: ما القيم الغائبة في الخطاب السائد في الثقافة الاستهلاكية؟ ويستطرد قائلا: لا بد من أن نفكر بقيم مثل الاحترام والمساواة والاعتدال والتعقل، والمرح والأخلاق، والتضامن الإنساني والمشاركة والاقتناع بأن إحداث الألم أو الاحتفاء بالعنف أمور لا بد من تجنبها، ويضيف سمايرز:

لابد من أن تقل المنافسة وأن تعود الي حدودها الدنيا ويجب ألا نحث الناس أو ننمي فيهم الرغبة في اشياء مادية لا يستطيعون الحصول عليها، كما ينبغي ألا نمنعهم من التفــــكير في كل ما هو ضروري لحياتهــــم بالفعل، كل ما هو مدمر أو ضار اجتماعيا ينبغي ألا يكون جزءا من البرامج او الدعاية، كما ان القول بأن شيئا ما لا بد من أن يقدم لأنه يبيع، قول يفتقر الي أساس اخلاقي، وتلك كلها أمور غير مطروحة في عالم الثقافة الموحدة.

كذلك يشير المؤلف الي ان الثقافة الموحدة لا تشجع الناس علي الانضمام الي اتحاد ما أو علي تنظيم أنفسهم علي أي نحو آخر دفاعا عن مصالحهم، باعتبارهم مواطنين أفرادا، ثم يقول: الثقافة الموحدة تجتث البشر من جذورهم التي تربطهم بماض وبثقافة معينة كما يعمل ـ بالضبط ـ الإعلان الموحد الذي ينحو الي تلفيق علاقة في أذهان الناس بين المصالح والاهتمامات الخاصة التي هي مصالح واهتمامات التكتلات الكبري العابرة للحدود القومية.

القدس العربي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى