المثقفون العرب وكوم النمل: غيرشمان وتعديل نظرية دالاس
صقر ابو فخر
معظم الحركات الكبرى في التاريخ الانساني، ولا سيما منذ عصر النهضة الأوروبية فصاعداً، امتلكت رؤى مستقبلية شاملة تقريباً للمجتمع والانسان والكون والحياة، وقامت، في الأساس، على أكتاف مفكرين عظماء. والثورة الفرنسية، باعتبارها الانتصار الأعظم للنهضة الأوروبية تحولت إلى علامة فاصلة في تاريخ البشرية، وصار ما قبلها تاريخا وما بعدها تاريخا آخر حينما دشنت عصر الحرية، وراحت تبشر بالاخاء والمساواة للبشر جميعا، وأعلنت انتصار الديموقراطية كنظام سياسي، وأقدمت، بجرأة نادرة، على فصل الدين عن الدولة. وعصر الأنوار الأوروبي أيضا صار مرجعية أساسية لجميع التيارات الفكرية التي استندت، في أفكارها، الى الديموقراطية وحرية الضمير وإلى العلم معا، والتي ناهضت التيارات التأخرية التي طالما اتكأت على الدين وخرافات رجال الدين في إعلاء شأن أفكارها وتصوراتها. وفي ما بعد، ناضلت الماركسية في سبيل العدالة الاجتماعية وفي سبيل مجتمع خال من التمييز الطبقي والبؤس البشري. أما الامبريالية الأميركية التي لم يعرف تاريخ الامبراطوريات مثيلا لها من حيث القوة والسطوة والانتشار الجغرافي والامتداد الزمني، فلم تمتلك أي رؤية سامية للعالم على غرار أسلافها من الامبراطوريات الكبرى التي قامت إما على الدين وعلى الفتح والخراج أيضا (الدولة العربية الأولى)، او على الحضارة (الاغريق)، او على العظمة القومية (روما وفارس)، او على الهوية القومية (الصين). والامبريالية الأميركية، على الرغم من قدراتها الهائلة وامتلاكها ألمع العقول في الكرة الأرضية قاطبة، لم تمتلك مشروعا انسانيا للبشرية في ما عدا مقولات ونظريات مهمة عن الحرية الفردية والطراز الأميركي للعيش.
الثقافة الأميركية غير ديموقراطية؟
لقد أجادت الولايات المتحدة الأميركية دائما تسويق الأفكار ذات الجاذبية هنا وهناك، مثل الديموقراطية والحرية وسيادة القانون. لكن جاذبيتها الكبرى كانت في قوتها الاقتصادية والعلمية، وفي استدراج المهاجرين من قانصي الفرص والباحثين والعلماء كي يبدعوا في فضائها ما كان مستحيلا عليهم في بلادهم الأصلية. وفي هذا السياق طوّرت الولايات المتحدة مقدرة عالية على الدعاية، وروّجت ما سُمّي «نمط الحياة الأميركية» و«طريقة العيش الأميركية» كأسلوب في فن الاجتذاب. وفي ما عدا ذلك ظلت الولايات المتحدة كنظام سياسي فقيرة في الأفكار، أي بلا ايديولوجية، وغنية في الابتكارات والموارد في الوقت نفسه. حتى ان فرنسيس فوكوياما الذي حاول ان يصوغ تصورات مستقبلية للعالم لم تعش تصوراته طويلاً، فتراجع عنها بسرعة. ولعل هذا الأمر دليل على ان «الحضارة» الأميركية الراهنة مبيدة للأفكار الى حد ما، لكنها صانعة ماهرة للوسائل والتقنيات الى حد كبير. وهذا لا يعني ان أميركا كمجتمع لا تمتلك عقولا مفكرة، بل ان جامعاتها ربما تمتلك أعظم المفكرين في العالم. لكن أميركا، كنظام سياسي، لا تميل الى الاستناد الى الأفكار على غرار الاتحاد السوفياتي السابق او الصين. وبهذا المعنى فان الثقافة السياسية الأميركية هي، على العموم، ثقافة غير ديموقراطية في جانب منها على الأقل، لأنها تلغي التعدد في اللحظة التي تتكلم فيها على النموذج الواحد للديموقراطية. واللافت ان معظم المفكرين الكبار في الولايات المتحدة هم من الناقدين الثاقبين للفكر السياسي الشائع في المؤسسات الرسمية، وفي وسائل رعايتها، وهم، في أغلبيتهم، من أبناء المهاجرين من غير البيض البروتستانت (spsaw).
السياسة: تسويق وعلاقات عامة
مهما يكن الأمر، فإن الولايات المتحدة الأميركية، منذ إعلان «مبادئ ويلسون» في بدايات القرن العشرين، بدأت تتحول الى امبريالية حقيقية، الأمر الذي أدى الى انطواء «مبادئ ويلسون» في بطون الكتب وفي الخطب الموسمية، وتضاءل حضور هذه المبادئ أمام جبروت القوة الذي راح ينشر حروبه في جميع أصقاع العالم. لكن، في الحقبة التي دشنها عقد التسعينيات من القرن العشرين، رصدنا، ويا للعجب، انهماكا أميركيا متسارعا في تسويق السياسة من خلال الأفكار والاقتصاد معا، وهي الحقبة التي بدأ الكلام فيها يدور على «نظام عالمي جديد» قُبيل سقوط الاتحاد السوفياتي، وبُعيد انحسار الكارترية وصعود الريغانية في الوقت نفسه. وفي هذه الحقبة جرى ترويج فكرة «الشرق أوسطية» التي تبارى الكثيرون في شرح متونها وهوامشها بمن فيهم شمعون بيريز نفسه، وعُقدت لأجلها مؤتمرات متلاحقة في الدار البيضاء والقاهرة والدوحة وعمّان، وساهم كثيرون من الكتّاب العرب في تدبيج مقالات المديح، بثمن وبلا ثمن، كأنهم كانوا يقدمون أوراق اعتمادهم للغازي الجديد. وكانت الغاية من تسويق هذه الفكرة تمهيد الأرض ثم تعبيدها أمام السياسة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط بعد مؤتمر مدريد في سنة 1991 الذي أعقب الحرب الأميركية على العراق في السنة نفسها. ثم انتهت هذه الحملة التسويقية الى لاشيء على الاطلاق للعرب، لكنها خدمت السياسة الأميركية في المنطقة العربية خدمات جلّى. وبعض الكتّاب العرب أصيب برهاب «الشرق أوسطية» فأقام الدنيا ولم يقعدها بكتابات مرتعدة، لنكتشف، بعد ذلك، ان لا خبز في معجننا، وأن هؤلاء الكتاب الذين بالغوا في التهويل، وصوروا الشرق أوسطية غيلانا ضارية ستأكل العرب وبلادهم، لم يكونوا علميين على الاطلاق بل أيديولوجيون ومروجو دعايات معاكسة. وهكذا تبدد الفكر والجهد الفكري في الجدال بين أفكار تسويقية أميركية تخفي أهدافا مغايرة، وردود فعل عربية كانت تسدد نبالها وسهامها الى أهداف وهمية.
بُعيد فشل مؤتمر كامب دايفيد الثاني في سنة ,2000 ثم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، جددت مراكز الأبحاث الأميركية المرتبطة بالسياسة الخارجية، ومفبركوا الآراء فيها فكرة «الشرق الأوسط الكبير» التي عُرضت على مجموعة الدول الصناعية الثماني في حزيران .2004 ولا تختلف هذه الفكرة الجديدة كثيرا عن «الشرق أوسطية» القديمة إلا بانطوائها على مسألة براقة وجذابة هي مسألة السلام في فلسطين، أي ان الهدف المغري كان قيام سلام بين اسرائيل والفلسطينيين انطلاقا، لا من إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو)، بل من «خريطة الطريق» هذه المرة. أما القصد الأميركي المضمر فكان جرّ العالم العربي الى تأييد السياسة الاميركية في الحرب على أفغانستان والعراق لقاء الوعد بتنفيذ فكرة «الشرق الأوسط الكبير»، أي السلام والرخاء والديموقراطية، وهو الثالوث المحتضر الذي روّجوا له بعد كامب دايفيد. وحتى اليوم، بعد انطواء هذه الفكرة، وفي ما عدا مقالة هنا او دراسة هناك، لم يتمكن أي باحث من العثور على نص متين يشرح ما هو، بالفعل «التصور السياسي الأميركي لمشروع الشرق الأوسط الكبير. وهذا الأمر هو برهان اضافي على ان الولايات المتحدة لا تمتلك تصورا جديا لهذه المنطقة، وإنما تقوم، في كل مرحلة، بعملية تسويق وعلاقات عامة وترويج لسياستها الخارجية تحت قناع من الأفكار «العظيمة». والغاية دائما هي تسجيل أهداف غير معلنة في البداية في سياق سياسي مكشوف ومعلن لاحقاً.
أما «الشرق الأوسط الجديد» فهو علامة تجارية حديثة ابتدعتها المخيلة الأميركية على لسان كوندليسا رايس في سنة 2005 من غير ان تشرح لنا وزيرة الخارجية المحتوى التفصيلي لهذا «الشرق الأوسط الجديد». لنتذكر ان هذه الفكرة جرى ترويجها عقب افتضاح المعضلة الأميركية في العراق، وظهور علائم المأزق الأميركي الجديد في أفغانستان. ويجري الإلحاح على ترويجها اليوم بعد انقلاب حركة «حماس» على السلطة الفلسطينية واستيلائها، ولو موقتا، على غزة، وبعد صعود نجم حزب الله، ولو موقتا ايضا. وهذه الأمور مجتمعة من شأنها ان تطيّر صواب مخططي السياسة الأميركية الخارجية. والشرق الأوسط الجديد إنما هو وعد للعرب بالديموقراطية لقاء وقوفهم الى جانب الولايات المتحدة ضد «الارهابيين» في العراق وفلسطين ولبنان، وضد معاندي سياستها، ولو موقتاً، في الشام وفارس. ومثلما اندثرت الوعود الأميركية السابقة كلها، فمن المتوقع ان يتطاير هباء وعد الديموقراطية كما طارت سدى وعود السلام والرخاء، لأن الولايات المتحدة، على خلاف ما هو معلن، لا تهتم بالديموقراطية في العالم الثالث، بل بما يسمى «الاستقرار». فالاستقرار الذي يحمي المصالح أفضل بكثير من الديموقراطية التي تثير أوجاع الرأس.
الفك والتركيب والهويات المحلية
قصارى القول ان فكرة «الشرق الأوسط الجديد» القائمة على ثنائية «الديموقراطية والارهاب» او «المعتدلين والمتطرفين» إنما هي فكرة غير جدية وغير مجدية أيضا. بل، وأبعد من ذلك، هي فكرة للعلاقات الأميركية العامة في الشرق الأوسط، وأداة لتسويق السياسة الأميركية فيه، هكذا تلوح لنا الأمور حتى الآن على الأقل. أما في الجوهر، فإن الشرق الأوسط الذي تتطلع إليه الولايات المتحدة هو نفسه الشرق الأوسط كما تنظر إليه، او تتطلع إليه اسرائيل، أي شرق أوسط مفتت الى قوميات وإثنيات وطوائف متناحرة. وقد صاغت اسرائيل هذا المنظور منذ فترة مبكرة، ففي سنة 1982 أصدرت تقريرا خطيرا في هذا الشأن بقلم عوديد يينون، ونشرته مجلة «كيفونيم» («اتجاهات») بعنوان: «استراتيجية لاسرائيل في الثمانينيات» (العدد ,14 شباط 1982)، وفيه عرض للرؤية الأمنية الاسرائيلية حيال الشرق الأوسط. وتتلخص هذه الرؤية بالتالي: تقع اسرائيل في محيط ثقافي معاد لها تماما، ويحوطها هلال بشري يمتد من باكستان الى المغرب. و«قوس الأزمات» هذا يتألف من مجموعات وعناصر عرقية ودينية وطائفية متنافرة الى حد بعيد. ولا يمكن ان تكون اسرائيل في الوضع الاستراتيجي والأمني الأمثل لو اتجهت هذه العناصر الى التآلف. بينما الأمن الاستراتيجي الأمثل يمكن ان يتحقق بالعمل على فك ثم تركيب المنطقة الواقعة بين حدي «قوس الأزمات»، أي إعادة تكوينها على أسس تفتيتية استنادا الى «حق تقرير المصير» لهذه المجموعات المتباينة، ومساعدة القوى السياسية الجديدة (النيوليبرالية) التي تلتقي هذا الطراز من التفكير. وفي هذا التصور الذي جرى تعديله كثيرا في ما بعد، لكنه بقي هو نفسه في الجوهر، ستنتدب اسرائيل نفسها لادارة الأحداث في المنطقة حيثما أمكن، وتوجيهها الوجهة الملائمة لها، بينما تسعى الولايات المتحدة الى تكريس نفسها قوة حامية لهذه الكيانات «الوطنية» الجديدة، او للدول المهددة بالانقسام ولا سيما الدول النفطية.
الضرب على كومة النمل
ما زالت الولايات المتحدة الأميركية تدور، حتى اليوم، في إطار «نظرية دالاس»، وتستحلب منها الفكرة تلو الفكرة. كانت «نظرية دالاس» تقوم على تبني الأديان لمواجهة الشيوعية، أي ان أفضل ما يتصدى للشيوعية الملحدة هو الأفكار الدينية والجماعات المتدينة. وفي ضوء هذه النظرية عمدت الولايات المتحدة، إبان الحرب البادرة، الى دعم الحركات الدينية مثل بعض فروع الاخوان المسلمين، ثم «المجاهدين» في أفغانستان، والجماعات «القومية» (الكاثوليكية والاسلامية) في أوروبا الشرقية وغيرها. غير ان ما لم يستطع دالاس ان يدركه حينذاك، والأرجح ان خلفاء دالاس لم يدركوه في ما بعد أيضا، ان الأصوليات الدينية ليست عدوا للشيوعية وحدها، بل للرأسمالية ولثقافة الغرب في الوقت نفسه. واليوم تدور فكرة «الفوضى الخلاقة» تبع المحافظين الجدد على إقامة الديموقراطية في البلدان غير الديموقراطية ولو لمرة واحدة. وفي هذه الحال سيصعد الاسلاميون الى السلطة في معظم هذه البلدان وتدب الفوضى، وربما تنتهي هذه الفوضى الى قيام دويلات إثنية وقومية وطائفية متناحرة. وهذه الدويلات ستحتاج الى حماية، الأمر الذي يسهل إدارتها وتشغيلها والتحكم بها من الخارج. إنها طريقة الضرب بباطن الكف على كومة النمل: سيتفرق النمل فورا في جميع الاتجاهات، ثم يعود الى التجمع ثانية، لكن تحت السيطرة هذه المرة.
ان سياق هذه الأفكار يشير الى غايات مضمرة كثيرة. غير ان بعضها بات مكشوفا تماما. فها هو وليم كريستول يعلن في 16/3/2003 ان غاية الحرب على العراق «تغيير الثقافة السياسية في المنطقة بكاملها». وفي السنة ذاتها أعلن كولن باول «المبادرة الأميركية للشراكة الديموقراطية مع العالم العربي» بتكلفة 30 مليون دولار فقط (يا للمهانة والرخص) ستُنفق على تحويل مجموعات من المثقفين العرب الى مناصرة الولايات المتحدة الأميركية وسياستها في المنطقة. ومنذ ذلك الوقت بدأنا نلاحظ ان جموعا من المثقفين العرب شرعوا في تغيير أفكارهم ومواقفهم، ولا سيما من اليساريين والشيوعيين. وكان كارل غيرشمان رئيس المؤسسة الوطنية الأميركية للديموقراطية اقترح في ورشة عمل عقدها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في كانون الثاني 2007 دعم أفراد ومجموعات منظمة في الدول العربية وقيادات صاعدة في هيئات المجتمع المدني شرط ان يلتزم هؤلاء التخلي عن العنف وقبول حقوق الأقليات والدفاع عن الناشطين السياسيين الذين يتعرضون للاعتقال. واقترح غيرشمان ايضا دعم الاصلاحات في الاحزاب الاسلامية التي ترمي الى قبول التعدد في تفسير نصوص الشريعة الاسلامية.
علي يرث وعلي لا يرث
الغريب ان بعض اليساريين العرب القدامى لم يطل الأمر بهم كثيرا حتى التصقوا بالرأسماليين الجدد كالتصاق العلق بالجسم المريض، او كالتصاق اللبلاب بالحوائط المخرّشة. وانه لأمر منفّر ان هؤلاء «الليبراليين الجدد» الذين يتبارون في الدفاع عن الحريات في هذا البلد العربي (وهو دفاع صحيح وضروري ومبدئي) يصمتون تماما عن قمع الحريات واعتقال مفكرين او كتّاب او أصحاب رأي في بلد عربي آخر مثل متروك الفالح او علي الدُّميني مثلا (وهو صمت مريب ومشكوك في دوافعه وغير نظيف)، وتراهم يعيبون مساندة المثقف في وجه السياسي (كما في حالة سماح ادريس وفخري كريم) ويقفون، في الوقت نفسه الى جانب المثقف ضد السياسي (كما في حالة بول شاوول والعماد ميشال عون)، ثم يستنكفون عن الوقوف الى جانب مثقف ومناضل عربي مطرود من بلاده من طراز عزمي بشارة. لا بل ان واحدا من هؤلاء «الليبراليين الجدد» تخفى باسم مستعار هو «رمزي سعد» واستغل حق النقد ليدبج، بلغة فاشية، أي كاذبة في المحتوى، هجوماً هذيانياً منحطا على عزمي بشارة، الأمر الذي جعل الكاتب يستحق الوقوف الى يمين إيهود أولمرت، والى جانب كنعان مكية وفؤاد عجمي وأحمد الجلبي مع الفارق في المقامات («الحياة»، 2008419). ولعلني لا أجازف في القول ان بعض الليبراليين الجدد في بلادنا، من اليساريين القدامى، هم نسخة مشوّهة عن المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. ومن الآيات البينات للانجيل الأميركي الجديد الذي راح أمثال هؤلاء المثقفين يعتنقونه أفواجا أفواجا ان الاحتلال الأميركي المباشر لبلدان مثل العراق وأفغانستان يصبح، بحسب إيمانهم الجديد، تحريرا من الطغيان، لأن الشعوب العربية غير قادرة على خلع المستبدين، ولأن الاحتلال أفضل من الاسبتداد كيفما قلّبت الوجوه. كذلك فإن الولايات المتحدة تحمل معها مشروعا للديموقراطية والازدهار حتى في لبنان وفلسطين، مشروعا يفتح نوافذ للحرية بعدما أغلق الاستبداد جميع المنافذ تماماً.
إن افتضاح المشروع الأميركي في العراق وظهوره كاحتلال سافر، لم يرغم هؤلاء النيوليبراليين على مراجعة الموقف ولو في الحد الأدنى من المراجعة، بل اندفعوا الى القول ان المشروع الأميركي في العراق سيئ لأنه احتلال، وسيئ في فلسطين أيضا لأنه يدعم الجانب الاسرائيلي، لكنه جيد في لبنان لأنه يقف في مواجهة سوريا وحزب الله! انه، إذاً، مشروع أميركي بعدة وجوه: سيئ في فلسطين والعراق وجيد في لبنان. لا ريب في أنها أحجية ساذجة.
[[[
الدكتاتوريات العربية لم تترك للمواطن الكثير من المخارج جراء عسفها وتسلطها على رقاب الناس، ولعلها، في بعض الأحيان، ألجأته الى التفكير في الاستنجاد حتى بالولايات المتحدة للخلاص من هذه المهانة اليومية والمتمادية التي حلّت به. لكن شتان ما بين الرازحين بأجسادهم تحت كلكل الاستبداد، هؤلاء الذين يدافعون عن وجودهم وعن حقهم في الحياة وجها لوجه مع الطغيان، وبين الرائحين بإرادتهم الى «نعيم الشراكة الديموقراطية» التي لن تكون، على الأرجح، الا حلقة جديدة في سلسلة قديمة تمحو فيها كل حلقة ما قبلها، كموج يمحو آثار النمل فوق الرمال.