صفحات ثقافية

‘صفعة’ بوكر وموت الرواية: زمن ‘أي ـ بوك’ المثير وحكاية المال والشرف في ‘بائع كتب كابول’!

null
ابراهيم درويش
هذه مجموعة من القضايا الثقافية التي حظيت بنقاشات معظمها تدور حول ‘زمن الرواية’ الانكليزية، ومستقبل النشر وحدود وحرية الصحافي والكاتب للتعبير عن خصوصية من يكتب عنهم كما تظهرها قصة ‘بائع كتب كابول’ والصحافية النرويجية.
(1)
حل موسم الصيف وبدأت العطلات الرسمية واشتغلت المطارات. امتلأت الطائرات بالمسافرين الباحثين عن الشمس في الجنوب، ولا يحمل الكثير منهم كتبا بل يحملون حقائب واجهزة كمبيوتر محملة بالكتب الالكترونية، وهي طبعاً اخف حملا واسهل قراءة. هل دخلنا العصر الالكتروني؟ هذا ما تشير اليه توجهات القراءة بحسب مكتبات بيع الكتب الالكترونية مثل ‘امازون’، فمع بيع الكتب ـ الروايات ذات التجليد الفاخر، تقول ‘امازون’ انها باعت كتبا الكترونية تحمل حسب برامج وانظمة مثل ‘كيندل’ اكثر مما باعته من الكتب المطبوعة ( الورقية)، وتتوقع ان تبيع من الكتب الالكترونية اكثر في موسم اعياد الميلاد مما يؤشر الى نهاية عصر ‘الكتب خانة’ والكتبجي والطباعة وتبني الكتاب الالكتروني على الرغم من الجدل حول حيوية القراءة الالكترونية ولكن العالم على ما يبدو يسير نحو قراءة ومكتبة تتمحور حول ‘اي ـ بوك’. هذه قضية طرحت على النقاش في الايام الاخيرة بعد اعتراف دار نشر ‘الان لين’ التي ثورت طريقة القراءة وابتدعت فكرة القراءة الجماهيرية قبل 75 عاما، حيث اعترف مدير هذه الدار بحقائق واقع القراءة الجديدة وأهمية تعريف دور النشر لدورها في زمن الانترنت. فهناك خوف لدى دور النشر من ان هناك زمناً صعباً ينتظرها، وفي قلب القلق قلق التغيير الذي تحدثه التكنولوجيا على واقع القراءة وبيع الكتب، فقبل اختراع غوتنبرغ للآلة الطابعة التي ثورت عالم الكتابة والنشر لم تكن في اوروبا الا مجموعة من الكتب التي لو حملت كلها على عربة حصان لكانت كافية. والان وبعد قرون من تطور النشر وتقنياته وتطور المكتبات، من المكتبة الخاصة صار لدى الانسان مكتبة متنقلة ولكنها ‘افتراضية’ ومن دون وجود فيزيائي. مع ان القراءة التقليدية والمكتبة في شكلها البدائي لا زالت موجودة، ففي المناطق البعيدة عن المدن في امريكا اللاتينية لا زالت المكتبات المتنقلة تحمل على ظهور البغال والوعول، ولكن الواقع تغير الان في زمن الانترنت وهناك توجهات لدى المكتبات العامة لتقليص المكان حيث لم تعد المساحات المخصصة لاستيعاب الثقافة الانسانية كافية. ومن هنا يفهم ما اختارته صحيفة ‘غارديان’ يوم السبت عنوانا لواحدة من افتتاحياتها ‘قراءة مفزعة’ وذكرت بتكنولوجيا او اختراع ‘حرك’ سكون سوق النشر عندما قامت دار نشر ‘الان لين’ عام 1935 بتنزيل طبعات شعبية من كتب رخيصة في محطات القطارات لم يتذكر قراؤها في تلك الفترة الا صورة البطريق عليها. وترى في البدعة التي اخترعتها هذه الدار ‘تكنولوجيا تمزيقية’ وهي بدعة لم تكن معروفة في مجال صناعة ونشر الكتب وفتحت باب القراءة امام ملايين الجماهير، واشار اليها الروائي المعروف جورج اورويل قائلا ان ‘كتب بنغوين بسعر خيالي لا يتجاوز ستة فلوس’، اسعار رخيصة تدفع اي دار نشر واخرى إلى التعاون ضدها وإجهاضها. لكن دور النشر في تلك الفترة لم تتآمر على البدعة الجديدة وتعاملت معها وتواصل انتاج الكتب وانتظرت صناعة الكتب ثلاثة ارباع قرن كي تمزق هذا الاختراع الذي فتح الباب امام القراءة الجماهيرية تماما كما فتحت شركة ‘توماس كوك’ الباب امام ابناء الطبقة المتوسطة في بريطانيا، كي ترحل وتسافر في العالم. اما المنافس الجديد فهو ‘اي- بوك’ اي الكتاب الالكتروني وهو تطور يعترف بخطورته صاحب دار النشر التي ثورت القراءة الجماهيرية في تصريحات لنفس الصحيفة، حيث اكد ان واقعا يمكن فيه للقراء تحميل روايات وكتب تاريخية الكترونية على ‘اي باد’ و ‘كيندل’ و ‘سوني’ يجعل صناع الكتب امام تحد اعادة تعريف دَوْر دُور النشر. وهو ما تؤكده ارقام ‘امازون’ من زيادة مبيعاتها من الكتب الالكترونية. ومع اعتراف دور النشر المتأخر بالعصر الرقمي وامكانياته، وهو ما لم تفهمه بعد الصحف، وآمنت به مبكرا صناعة الموسيقى والصور فهناك زمن مثير مفتوح امام القراء ولكنه صعب امام دور النشر مثل ‘زمن الرواية’ فمن يملك حقوق النشر؟ في الوقت الحالي من يملك هذه الحقوق هو شركات ‘اي تي’. وكالعادة صارت مواقع الانترنت هي الباروميتر الذي يمكن من خلاله التعرف على درجة حرارة الثقافة، فالنسخة الورقية من الصحف والمجلات باتت متأخرة عن مواقع الانترنت وعليه يفهم الجدل الذي دار في المواقع حول القائمة الطويلة من جائزة بوكر الادبية البريطانية التي اعلنت اللجنة عن قائمة 13 رواية مرشحة في المرحلة الاولى، وضمت رواية لم تلق دعما من القراء.
( 2)
فكما هو معتاد ادى اعلان قائمة ‘بوكر’ الادبية إلى قيام جدل حول تضمين القائمة الطويلة، وهي المرحلة الاولى قبل اعلان القائمة النهائية من ست روايات، رواية ‘صفعة’ والتي تبدأ بصفعة يوجهها رجل لابن عائلة في حفلة شواء. والمشهد هو بداية لرواية الاسترالي كريستوس تسيولكاس، وهو ما يشكل بداية لرواية ‘مثيرة’، صارت الاكثر مبيعا في استراليا وقوائم الكتب العالمية، وفازت بجائزة كتاب الكومنولث. وعلى خلاف موقف لجنة التحكيم من الرواية من انها ‘شجاعة’ من ناحية تصديها لقضايا غير مريحة واشكالية، الا ان نقادها ينظرون اليها كونها مسيئة وتحتوي على قدر غيرمعقول من الكراهية للمرأة، مما حول راوية ‘الصفعة’ إلى مصدر للانقسام بين اللجنة والنقاد والقراء. وادى الجدل حولها الى تساؤل من بعض النقاد عن السبب الذي ادى بلجنة التحكيم إلى تضمينها في القائمة المطولة. وعلى الرغم من الحفاوة النقدية التي تلقتها من نقاد في صحف مثل ‘الغارديان’ البريطانية و’ لوس انجليس تايمز’ الامريكية، حيث وصفتها ‘الغارديان’ بـ ‘الآسرة من البداية حتى النهاية’، الا ان قراء الرواية من الذين كتبوا تعليقاتهم على مواقع مثل ‘امازون’ وصفوها بالمملة والمسيئة، وعلق احدهم قائلا ً انها مهووسة بـ ‘كل ما هو متعلق بالجسد ووظيفته والجنس والكلمة القذرة ‘( باللغة الانكليزية)، وعلق قارئ آخر عليها بانها ‘بلا قلب’ واضاف انه احس بعد قراءته لها وكأنه ‘لوث نفسه بالبراز’. وفي تعليقات كتبتها نساء جاء فيها انهن كرهن الرواية لان فيها نوعاً من الحسية ـ الجسدية – المثيرة للضحك. وسجلت الرواية التي كتبها روائي مغمور على الرغم من الموقف منها ارقاما مرتفعة في بريطانيا. وقال ناشر انها باعت 23 الف نسخة حتى قبل ان ترشح ضمن القائمة الطويلة. وليست هذه هي المرة الاولى التي يثار فيها جدل حول الجائزة ان لم يكن حول لجنة التحكيم بل عن طبيعة الروايات، فمن يتابع هذه الجائزة يتذكر ان آخر مرة انقسم فيها الرأي حولها كانت عام 2003 عندما ثار جدل حول رواية مارتن ايميس ‘كلب اصفر’ ومارك هادون ‘الحادث المثير للفضول للكلب وقت الليل’ والتي انتهت بفوز رواية لكاتب مغمور وهو دي بي سي بيير ‘فرنون الاله الصغير’. وعلق على اعتراضات البعض على الرواية مدير لجنة تحكيم هذا العام وهو شاعر البلاط السابق اندرو موشين الذي دافع عن رواية ‘الصفعة’ ووصفها بانها ‘غير عادية، والنسخة التي قرأتها تحمل علامة انها ( رواية منتشرة على مستوى عالمي)، مما يعني ان ليس كل من قرأها يرى انها كريهة وضد المرأة’. وانتقد من قال انها تخلو من الحب قائلا انها على العكس مليئة بالحب الذي ضل الطريق. ولكن موشين يتفهم موقف من رأى انها ضد المرأة لان احداث الرواية جاءت نتاج فعل ارتكبه رجل في البداية ـ صفعة. وضمت القائمة الطويلة اضافة الى رواية ‘الصفعة’، كاتبا استراليا آخر وهو بيتر كيري ( فاز بها مرتين 1988، 2001) ‘باروت واليفير في امريكا’ وايما دونوغهو ‘غرفة’ وهيلين دانمور ‘الخيانة’ ودامون غالغوت ‘في غرفة غريبة’، وهاوارد جاكبسون ‘سؤال فينكلر’ واندريا ليفي ‘الاغنية الطويلة’ وتوم ماكارثي ‘سي’ وديفيد ميتشل ‘الف خريف لجاكوب دي زويت’، وليزا مور ‘سكيبي يموت’ لبول موري و ‘خطيئة’ لروز ترمين والان ورنر ‘نجوم في سماء مضيئة’. ويلحظ ان قائمة هذا العام تخلو من ‘اسماء الوزن الثقيل’ في الرواية الانكليزية في بريطانيا او دول الكومنولث، فعلاوة على ليفي وميتشل وكيري فلا اسم من الاسماء التي كانت تحضر في قوائم الجوائز من مثل ايان ماكيوان، ومارتن ايميس او سلمان رشدي وجليان بارنز.
(3)
والاسماء اعلاه وصفها محاضر في الادب المقارن في كلية وينفيلد ـ اوكسفورد بالفارغة ووصف ممثلي الرواية الانكليزية المعاصرة بانهم مثل اولاد ‘المدرسة الابتدائية’ ممن يحاولون التظاهر’ فكتابة كل واحد منهم تشبه الاخر سواء في المنظور او الطموح. كل هذا على الرغم من الاحتفاء باعمالهم والسمعة الدولية التي تحيط بهم خاصة سلمان رشدي، وايميس وجيله الا ان حصولهم على جوائز وتكريم ادبي في بريطانيا والعالم الانكليزي فيظل ‘احجية’. ولكن غابريل جوزيبوفيتشي يلوم الاعلام على رفع قيمة اعمال الكتاب هذه وتقديمهم للرأي العام ‘غير العارف ـ ادبيا’ باعتبارهم يمثلون قمة الادب الرفيع. ووصف جوزيبوفيتشي الوضع الحالي للرواية بانه يشبه الارض الراقدة ‘المراح’ التي تنتظر الحراثة. ووصف قراءته لروايات ايميس وجوليان بارنز ورشدي بالمملة وكتابتهم بالمراوغة. ويتساءل عن السبب الداعي لـ ‘اولاد المدارس’ هؤلاء لاخفاء انفسهم وعدم الانفتاح على العالم؟. ويفهم الناقد ان رواية من مثل التي كتبها لورنس ستيرن ‘تريسترام شاندي’ وتعود للقرن الثامن عشر تظل جديدة واكثر طلائعية من طلائعية روايات اليوم. ويتهم سلمان رشدي بانه يستلهم حيل ستيرن ولا ينسبها مع فرق ان رشدي لم يكن قادرا على نقل القتامة – السوداوية التي تسري في عمل ستيرن. ويضيف ان القارئ يشعر بان رشدي يحاول فقط التمظهر اكثر مما يشعرك بانه يجهد ويقوم بعملية استكشاف حقيقية. هذه الآراء الحادة ضد جيل من الكتاب علم الرواية الانكليزية في بريطانيا منذ 3 عقود يأمل ان يضمنها في كتابه الذي سيصدر قريبا تحت عنوان ‘مهما حدث للحداثة’ والذي يأمل ان يثير نقاشا حول الادب الانكليزي الحديث. ومع اعترافه بأن جيل الكتاب ممن تخرجوا من مدرسة الكتابة الابداعية في جامعة ‘ايست انجليا ‘لديهم القدرة على نسج حكايات وقصص متماسكة الا انها تظل حكايات تتسم بالبساطة والاعتلال ومقارنة مع الروايات العظيمة التي تقدم احداثا معقدة صعبة. مضيفا ان روايات هذا الجيل تفتقد الرؤية والافق وعندما ينتهي القارئ من قراءتها يتساءل قائلا ‘وماذا بعد؟’ وهو شعور مختلف عن الذي يمتلك الشخص وهو يجرب قراءة ‘الورثة’ لويليام غولدينغ او هيرمان ميلفيل ‘بارتلبي’. كما وانتقد رواية ‘ رجال حرب العصابات’ للروائي البريطاني الهندي التريندادي نايبول الذي قال انها صيغت بعناية كبيرة من اجل اخفاء مفاصلها وهي رواية ‘لا تشعر بانك ستعود اليها مرة اخرى بعد قراءتها. وعلى خلاف كتاب الرواية الكبار من امثال كافكا الذين كانوا مسكونين بحس عدم الثقة بالنفس فكتاب الرواية المعاصرون ‘متغطرسون وراضون عن انفسهم’ وهو ما يثير القلق حسب قوله. ولوحظ ان معظم الكتاب الذين اشار اليهم كانوا ممن نشرت اعمالهم ‘راندوم هاس’ التي رفضت قبول النقد الاكاديمي لهم.
(4)
وتترافق مواقف الناقد هذا مع ما سبق وأثاره معلق صحافي معروف في مجلة امريكية عبر فيه قائلا ان عصر الرواية العظيمة التي كتبها مارك توين وهيمنغوي، قد انتهى. وقد بدأ النقاش بمقال كتبه الناقد المثير للجدل سيغيل ونشرته ‘نيويورك اوبزيرفر’ والذي اعلن فيه ان الرأي العام لم يعد يتحدث بالرواية وان هذا الفن الابداعي الذي كان طافحا بالحرارة قد فقد وهجه إلى الابد. وكتب في مقاله قائلا أنه ‘لمليون سبب’ صارت الراوية قطعة قديمة من مقتنيات متحف ‘انتيك’ يعاني العاملون فيه من الشلل وينشغل فيه المسؤولون بقضايا نظرية. واضاف قائلا ان الكتابة الجميلة في عصرنا – سواء كان هذا للاحسن او الاسوأ – تأتي من خارج الكتابة الروائية. ويبدو ان المقال الذي اثار نقاشا على صفحات الجرائد والانترنت له دوافعه الشخصية اذ انه جاء بعد ان نشرت ‘نيويوركر’ قائمتها لأحسن عشرين كاتبا امريكا تحت سن الاربعين. وهاجم سيغيل القائمة بمرارة ورأى فيها تعبيرا عن آراء المجلة التي تدفعها مواقف شخصية يدعمها اصحاب مصالح وقوى اعلانية. وكتب يتحسر ان لا احد ممن كتب عن قائمة الاسماء الجديدة كلف خاطره وفحص طبيعة وانجاز الاسماء فيها. واضافة لهذا الدافع هناك عامل اخر في الجدل هو ما يعتقد انه موقف شخصي بين سيغيل والناقد الصحافي جيمس وود والذي يراجع الكتب والروايات لصحيفة ‘نيويورك تايمز’ حيث كتب عنه سيغيل وبطريقة تهكمية يدعو ان يمنحه الله الحياة كي يظل يقدم مراجعات لمئات الاعوام، مضيفا ان مجرد ظهور وود على الساحة الصحافية الادبية يؤشر لتراجع الرواية. ولم يقف الكتاب مكتوفي الايدي فقد نشرت صحف مهمة ردودا على اتهامات سيغيل قالت فيها ان قائمة ‘نيويوركر’ لم تقبل على علاتها فقد انتقدت خيارات المجلة المعروفة فيما اخذ اخرون على عاتقهم الرد على اطروحة سيغيل التي تستهدف منافسا له في المهنة. وقالوا انه يجب ان لا نتباكى على حالة الرواية بل ان نبكي على وضع المشهد الادبي الامريكي كله. واتهم كتاب سيغيل وغيره من نقاد الصحف بانهم يعيشون في عرشهم العاجي حيث اغلقوا على انفسهم الستائر ورفضوا النظر حولهم للعالم الادبي الذي نبت حولهم.
واشكالية ‘موت الرواية’ او كونها تعيش ايامها الاخيرة في العناية المركزة ليست جديدة على النقاش الادبي الامريكي، ففي عام كتب هارولد بلوم مقالة انتقد فيها قرار مؤسسة الكتاب الوطني تقديم جائزتها لكاتب روايات الرعب ستيفن كينغ لما اعتبرته ‘مساهماته المتميزة للادب الامريكي’. وهاجم في مقاله روايات جي كي رولينغ حيث قال ان الادب الجيد لا يمكن ان يكون شعبيا كما في قصص كينغ المرعبة وكـُتب هاري بوتر. فيما كتب اندرو مار المعلق والمذيع المعروف في بريطانيا عام 2001 مقالا اخر اعلن فيه عن موت الرواية الانكليزية. وهي تصريحات معروفة ودورية في المشهد الادبي عندما يعبر ناقد عن قرفه من واقعه او من لون ادبي معين. فكأي لون ادبي، لدى الرواية كما كتب الناقد فرانك كيرمود القدرة على اعادة خلق نفسها. ولاحظ كيرمود ان كتابا منذ اوستن ومرورا بلورنس ستيرن الى جي دي سالينجر حاولوا ملء الفراغ بكتابة رواية ضد الرواية – القديمة او النموذج المعروف في زمنهم وانتهوا الى اسلوب جديد وقوانين جديدة اي رواية جديدة. وبالعودة الى دعاوى سيغيل هناك من يرى من نقاد الصحافة ان سيغيل من حقه ان يتساءل ويهاجم الوضع الروائي الامريكي ويعلن موت الرواية، لكن يجب الاخذ بالاعتبار ان كلامه آني ويعبر عن لحظة معينة، ففي الوقت الذي تظهر فيه رواية ‘جيدة’ على المشهد الكتابي سرعان ما ينسى كلام سيغيل وغيره ويهمل في دائرة الماضي.
المهم في الامر ان هجوم سيغيل هو تعبير عن حالة من القلق التي تعتري صناع الكتاب والكتب في امريكا والغرب عامة، فالرواية لم تعد الخبر الرئيسي ويبدو ان سنوات بوش المقفرة ثقافيا تركت اثرها العميق على رؤية الكتاب لهذا الجنس الادبي، وما اضيف اليها من الازمة الاقتصادية التي ضربت السوق العالمي واثرت على صناعة الكتاب والنشر بالتأكيد. ويرى مراقبون في المشهد الادبي ان هناك حاجة ملحة لهذا النقاش وهو موت الاسماء الكبيرة الروائية في الاعوام الاخيرة في بريطانيا وامريكا. وهناك قلق حول من سيحل محلهم ويملأ الفراغ بعدهم. جانب آخر من تراجع الرواية او ازمتها كما يرى تعليق كتبه روبرت ماكرام في ‘اوبزيرفر’ قبل اسبوع يعود إلى ان الاعمال غير الروائية، رحلات ومذكرات وقصصاً عن الحرب، تلقى اقبالا اكثر من الروايات التي تأثرت بصناعة الفيلم والدراما التلفزيونية. ويظل مجال امتحان ادعاءات ومزاعم موت الرواية او الروائي بل موت الكتاب في المجال بما يقام من مهرجانات واحتفالات ثقافية خاصة منها تلك التي تخصص للترويج للرواية والكتاب وهي في امريكا وبريطانيا في رواج دائم. والانتاج الروائي مستمر فيما تمتلئ رفوف المكتبات بالعناوين الجديدة.
(5)
من الامثلة عن انتشار الكتب غير الروائية ونتيجة للحرب كتاب النرويجية اسني سييرستاد، وهو ‘بائع كتب كابول’ شاه محمد ريس، والذي يعتبر من اكثر الكتب مبيعا في تاريخ النرويج وصنع من صاحبته نجمة عالمية وترجم الى اكثر من 29 لغة، واحتل قائمة الكتب الاكثر مبيعا في القوائم الدولية، وقدمت فيه سييرستاد اسرار بيت افغاني صاحبه يعمل بائع كتب في كابول استطاع كما هي النظرة الظاهرية الدفاع عن تراث بلده افغانستان من الشيوعيين واثناء قتال المجاهدين واخيرا طالبان. واصبح هذا الرجل بطلا في عيون ابناء شعبه، منافحا عن المرأة وحقها في التعليم، لكن الكاتبة التي قضت في بيته خمسة اشهر نقلت عالما آخر ـ عن رجل يدير عائلته بطريقة ديكتاتورية ويعامل نساء بيته كالرقيق ويمنعهن من الخروج من البيت ويحظر على ابنائه دخول المدارس. ونقلت فوق ذلك اسرار ومشاهد مثيرة عن الحياة داخل البيت تذكر بكتابات الاستشراقيين عن الحمام، وهوس الرسام او المشاهد الاجنبي بالجسد الشرقي. وأثار الكتاب حالة ظهوره جدلا وترواحت مراجعاته بين القبول والرفض وفقدان اي امل بحدوث تغيير في افغانستان. لكن الشخصية الرئيسية التي وثقت بالكاتبة وفتحت باب بيتها لها واكرمتها، شعرت بالخيانة. ومن هنا قرر ريس عدم السكوت امام ما رآه تشويها لسمعته وتدميرا لعائلته كما سيزعم لاحقا. فقد قرر شراء تذكرة سفر و’ ستووب’ الى اوسلو حيث استأجر محاميا ووكله بالقضية، وبدأ حملة اعلانية ضد ما رآه تشويها. وزعم ان الكاتبة قذفته وعائلته وجلبت العار عليه وعلى بلده، مما ادى بزوجته الاولى للهجرة إلى كندا. وطالب بتدمير كل نسخ الكتاب، وهي القضية التي شغلت الرأي العام النرويجي منذ 8 اعوام، وقامت الكاتبة ولمدة ثلاثة ايام بتقديم دفاعها عن نفسها الشهر الماضي فيما اصدر قاض حكمه الاسبوع الماضي ضد الكاتبة وطالبها بدفع تعويضات 250 الف كرونيه نرويجية (26 الف جنيه)، لكن ريس يقول ان سبعة من افراد عائلته سيتقدمون بدعاوى قضائية ضدها. وحسب الكاتبة اقام حكمه بناء على ثلاثة امور ‘صغيرة’ وردت في الكتاب كما تقول وهي ان زوجة ريس لم تكن تريده زوجا لها وانها لم تكن خائفة لو حملت ببنت وان الكاتبة لم تكن دقيقة في نقل افكار الزوجة، وهي ما تراها الكاتبة قضايا صغيرة وانتقدت عليها.
وستقوم بالاستئناف على الحكم امام المحكمة العليا وفي حالة خسرت القضية فستحاول الحصول على قرض لدفع تكاليف المحكمة لكنها لن تتوقف عن الكتابة، وهي وان كانت ترى أن الكتاب مهم في حياتها الا انها ترى سوء فهم حدث لكيفية تعاملها مع اشخاص كتابها. لكن قضية ‘بائع كتب كابول’ تطرح اسئلة حول حدود الكتابة وحق الكاتب في نشر الغسيل الوسخ لرجل اكرمها وفتح بابه لها، كما تطرح اسئلة حول حدود الكتابة الصحافية وما يمكن للصحافي ان يكتبه او يخفيه ودوافع الرجل نفسه، هل هو فعلا ينافح عن شرف عائلته ام يريد الثراء، فالكاتبة تقول ان النساء ينفين قول ما نقلته عنهن وتتهم الرجل الذي يدير العرض وهو ‘ريس’ بأنه يلقنهن ما يجب قوله. وتعترف الكاتبة هنا في لقاء صحافي انه من الصعب كتابة كتاب محايد وانها وان لم تنتقد المجتمع بشكل مفتوح الا ان كتابها فيه نقد خفي. وتظل الحكاية مثيرة عن كتاب رفع كاتبته إلى السماء وسينزلها من عل.
‘ ناقد من اسرة ‘القدس العربي’
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى