“لغز اسمكَ” لكلارا سانتشيث الحائزة جائزة “نادال” الأدبية
رواية مكائد بجرعات من الفكاهة المريحة وخاتمة حلوة مرّة
بعثرت كلارا سانتشيث أعوام طفولتها الأولى في محطة للسكك الحديد في عمق سهل الباثيتي الاسباني، بحكم مهنة والدها. قذفها نمط العيش غير المألوف هذا الى الإتصال بعالمين سيكوّنان وقود رواياتها. كان هناك واقع القطارات الحسابي حيث الجداول الزمنية الدقيقة والإشارات الضوئية المبرمجة، وفي الضفة المقابلة وجه آخر ايحائي تشعله المقصورات الغامضة، الوافدة والأخرى المغادرة الضائعة في أفق المناظر الطبيعية. كان لهذا الالتباس سطوة لا تثمّن على الفرضيّات الأدبية اللامتناهية التي عجّت في مؤلفات سانتشيث وقد تذكّرتها الجوائز اكثر من مرة.
كان آخرها في مطلع السنة حين منحت راوية “لغز اسمكَ” صاحبتها كلارا سانتشيث جائزة “نادال” الإسبانية الأدبية. مذّاك، منذ صدور تلك الحكاية، حيث يتقدّم الى الصف الأول ثنائي نروجي مسنّ يقيم بهناء في الساحل الشرقي لاسبانيا الى حين يعكّر صفو يومياته ديّان يعتبر الوقت حان للمّ جزية افعال هذين النازيين المستترين، لم تنفك الروائية تتلقى رسائل مؤرقة تنطوي على نصح “أخويّ” بترك “هؤلاء المساكين العجّز وشأنهم”.
نقرأ في احد تلك النصوص، وصلها في اليوم التالي على ركون الجائزة اليها: “يا سيدة سانتشيث، لماذا لا تنسين هؤلاء المساكين؟ ساهم هؤلاء من خلال عملهم الذي تم التبرؤ منه لاحقا، في نهضة اسبانيا اقتصاديا في اعقاب الحربين الأهلية والعالمية الثانية”. اما الأكثر ريبة فإن هذا الصنف من الرسائل الموجزة والمزعجة والمقلقة، لم يصل مغفل الهوية وانما موثّقا بالأسماء الواضحة والعناوين الموزّعة بين اسبانيا وخارجها. يخيّل الينا ان سانتشيث، ومن طريق استدعاء الجلاّدين المنسييّن، اثبتت ان الزمن لم يتخطّ الثيمة النازية، وان الموضوع حي يرزق وهو قادر على حرق الحيوات وتحريك الهامد. في حين لا يزال في الأدب ايضا مصدر حجج ملائمة للثريلر والألعاب النفسانيّة.
في ذاك المناخ، تتحرّك كلارا سانشيز منذ نحو عقدين، بحريّة وتميّز. والحال ان انجدال هذين النمطين مع قصص احد الناجين من مخيم ماتهاوزين وسيرة شابة ضيّعت الطريق الى جانب اخرى لثنائي عجوز من النازيين، سمح للكاتبة بالقشتالية في “لغز اسمك” (دار ديستينو) بأن تعلو بمؤلّفها الى مقام جائزة “نادال” للرواية، الأقدم في سجل الآداب في اسبانيا. تتقرّب “لغز اسمك” من الارتكابات النازيّة على المستوى الأخلاقي والألم الذي خلّفته في نفوس الضحايا. تفصيل تاريخي يتمثّل في لوذ اعضاء سابقين في النظام الإستبدادي الألماني بالشاطئ المتوسطي في اسبانيا، يضفي حيثية مادية على الرواية. وعلى جري العادة في انتاج سانتشيث (غوادالاخارا، 1955) فإن المدلولات الكرونولوجية تتيح امكان الذهاب بعيدا في الكشف عن دواخل النماذج التخييلية.
في “لغز اسمك” تمرّر ثلاث شخصيات التلاعب النفساني. هناك في هذا السياق الثمانيني، خوليان نزيل معسكر ماوتهاوزن النازي السابق الذي يرث نشاط احد زملاء المعتقل بأن يهب حياته لملاحقة معذّبيه الفارين في اصقاع العالم. هناك ايضا ثنائي ذو مظهر هشّ ومحببّ لجأ منذ اعوام الى ساحل اليكانتي، فضلاً عن الشابة الحامل ساندرا المستسلمة الى كسل لذيذ والمنسحبة الى شاليه تملكه شقيقتها في تلك الانحاء طمعا باتخاذ قرار في شأن مستقبلها. يغدق العجوزان على الثلاثينية مشاعر جدّين لم يتسنّ لها ان تحاذيهما، غير ان خوليان لا يلبث ان يواجهها بماضي العجوزين المريب، لتُلقى في ماض بالأبيض والأسود، ناء عنها، في شريط من الرعب الوثائقي القادم لاجتياح يومياتها، تراه يلتصق بعادات الثنائي المسنّ وكلماته وفسحات صمته. يقرّ خوليان في الرواية: “كنت دوما اكثر ارتباطا بأولئك الذين اساؤوا اليَّ من ارتباطي بأولئك الذين احبّوني”. على هذا النسق، تبين قافلة الشخوص في الرواية من قبيل ساندرا والنازيين، مضطهِدين ومضطهَدين على السواء. يبدو الجميع في رواية كلارا سانتشيث من صنف الخاسرين، ربما لأننا عندما نختار، نخسر شيئا، وربما يصل الأمر الى حدّ خسارة انفسنا.
“لغز اسمكَ” تمرين ادبي عميق على مستوى الشكل ومن حيث ثيمات متفرّعة يتداول بها، في حين لا يكابر ازاء بعض مضامين الأدب الشعبي وادوات الفن السابع. تتلقّف الكاتبة صيغة طبّقها قبلها ادباء رفيعون من مثل غراهام غرين وجون لوكاريه، لتنجو برواية مكائد لا تتمهل تجاه جرعات الفكاهة المريحة، وتقفل على خاتمة مفاجئة، حلوة مرّة.
لا نحتاج الى التذكير بأن تشابك الحيوات في “لغز اسمك” كالتقليد في انتاج سانتشيث السردي، ذلك انه يروق عالمة الألسنية والأكاديمية السابقة في جامعة كوبلوتينسي والصحافية في جريدة “ايل باييس”، منح اعمالها دفقا حميميا، تجرأت عليه منذ باكورتها “احجار كريمة” الصادرة في 1989. استبقت عناوين “ليس الليل مختلفا” (1990) و”بدءا من نقطة المراقبة” (1996) و”لغز جميع الأيام” (1999)، العاطفة اللجوجة عينها لتعطيها “آخر اخبار الجنة” (2000) جائزة “الفاغورا” للرواية، وفي السياق عينه اقرارا نهائيا نقديّا وشعبيا على السواء. يأخذنا استحضار بيبليوغرافيا سانتشيث كذلك، الى “مليون ضوء” (2004) و”حدس” (2008) حيث تتمسّك بالترنّح الدائم بين الواقعي والنفساني والحلمي في صورة ايقاع سردي لا يستثني النثر المتروّي ويفترض ملازمة تأمّل يتكوّر على الذات.
يفوح من التعامل مع نص كلارا سانتشيث، احساس رفيع نعزوه الى تماهي راوياتها مع اهوائها. لا نتحدّث عن جانبها الذاتي وانما عن الصلة المباشرة بين نمط وجودها واسلوبها الأدبي. رواياتها مشحونة باليوميّ، ويشعر المرء الداني منها في سطور يسيرة بالكاد انها تحدّثه عن مشكلات تخصّه، يستقبلها قريبة منه الى حدّ لافت. روايتها نموذج موفّق تماما، لأنها تبني في وقت مبكر علاقة متينة مع القارئ. ربما تكون رواية “القصر الغارق” (1993) المشغولة بالفروق الصغيرة، الفسحة حيث تتجلّى الأولويات الأدبية الخاصة بالكاتبة. تستعيد احدى السيدات فترة سابقة من حياتها من طريق ابنتها، وتطلق شريط الذكريات بضمير المتكلم. تختزل القصة هواجس سانتشيث الأكثر الحاحا. ثمة في المقام الأول هشاشة بشرية مجسّدة بالناس، وهؤلاء ابناء الطبقة الوسطى يعون، لسبب او لآخر، ان العالم يؤكّد جملة ماركس الشهيرة القائلة بـ”إن كل ما هو صلب يذوب في الهواء”. الى جانب الهشاشة، هناك اللاأمان واللاثقة.
يُمِرّ منجز الكاتبة سانتشيث احاسيس عاطفية، في المعنى الأكثر نبلاً للمصطلح. يحاذي العادي ايضا من دون تردّد، من خلال عوالم يفضحها، لأن يوميات زمننا لا تنفكّ تكون مسرح افعالنا. في حالات معينة، يتعمّق هذا اليومي، كما يحصل في “آخر أخبار الجنة” حيث تنبسط حكاية فران التلقينيّة، فضلا عن علاقته بصديقه ادواردو. ينسحب الأمر عينه على “مليون ضوء” الى جانب التركيز على حال تضيع بين الحلم والواقع، حيث تُلقى خوليا في اعقاب حادث تقاسيه. نعثر في هذا المكان تحديدا على مصدر غبطة كتابة سانتشيث، القائمة على ستر القصص بشيء من اللغز يزعزع المعيش ويجعل اسلوبها البسيط والمباشر، يرتقي الى علامة سرديّة مسجلة. والحال ان تقشّف أسلوب كلارا، يدين الى عمق تصرفات الشخوص. لا يباغتنا تالياً ان تسأل الكاتبة قبل اتمام روايتها “حدس”: “ماذا يحصل إذا بقيت فجأة محرومة من كل شيء يحوطني؟”. يكمن في الاستفهام غياب الاستقرار، فيما يأتي الجواب في القدرة على النجاة بإحدى هيئات الحياة. استطاعت الكاتبة ان تنقذ الحياة المهدّدة في نصّها، وكان أن ظفرت جائزة “نادال”، احد اصدق الامتيازات من حيث النقاء الجينيالوجي في اسبانيا.
يحابي الشكل الروائي عند كلارا سانشيث الاهتمام الحاد بالتفاصيل المتحذلقة والواقع المادي، لكأن الأشياء والأفعال العاديّة تمتلك مغزى ومنطقاً في سياق بناء الحكايات. تقيم سانتشيث هيكل رواياتها في احسن حالاته مستعينةً بدقة النجّارين، لكأن هذه الحرفية تساعد افكارها في التجلي. تتآلف في “لغز اسمكَ”، الحبكة مع التشويق والخوف، وهذه مكوّنات أفضل القصص في المطلق، ناهيك بلغة لا غبار عليها وخضوع لثيمات ازليّة، من قبيل الشيخوخة ومرور الوقت والصداقة المحرِّرة والمقت الذي يستعبد، الى انتفاء الإحساس بالذنب والعدالة. نزيد عليها الانتقام وسلطة المظاهر والحياة والموت وماهية نظام فصليّ دمويّ كالنازيّة.
بدت سانتشيث في “مليون ضوء” قاصّة غير مستقرة ومرهفة وحادة الملاحظة. روايتها السابعة تلك، حكاية الوقوع في شرك الحياة المهنية في مدريد القرن الحادي والعشرين. في شارع كاستييانا في المنطقة المالية، تغدو الابراج الزجاجية ابراجا عاجية واستعارة من عالم يرغمنا بلا كلل، على التنازل عن امور جمّة. تتكئ الروائية الاسبانية في الجزء الاكبر من الرواية على تجربتها الشخصية، لا سيما من حيث قدرتها على التأقلم مع تجربة طفولتها المترحّلة بين مدن عدة، من غوادالاخارا وبالنسيا الى مدريد في رفقة والدها العامل في السكك الحديد. والحال ان سانتشيث لم تنته الى اليوم من الانهماك في التأقلم. عند قدومها الى مدريد كانت الدخيلة، فيما ارعبها منظر الأبراج. ظنّت اجتياز ابوابها والجلوس الى احد مكاتبها، امرا مؤرقا. فهمت ان العمل المديني المعاصر يتطلّب فلش عالمك بين ايادي الآخرين، والارتباط بشخص او أكثر يتحكّم بسلطة منحك الكثير او التخلي عنك. والحال ان التعامل وهذين النقيضين، يفترض براعة نفسانية عالية. لم تقو سانتشيث على مجاراة مستلزمات مهنية مماثلة، فاتخذت قرار البقاء وحيدة والإحتماء بالكتابة. على نسق الراوية في “مليون ضوء”، اختارت ملجأ ساكنا بغية الابتعاد من العالم العدائي، فيما لم تغضّ الطرف عن الارتباك والاشتباك والعجز عن عيش حياة غيرها. خلال سؤال الحاضر بحثت سانتشيث عن اشارات الرغبة والخيانة والخشية المهنية والنشاط غير الشرعي، فضلاً عن الوحدة القصوى في الوسط المعماري المديني. لم يتعلق الأمر باستخدام الرواية كحجة للتحليل الاجتماعي، وانما لإبداء الشكوك ازاء المشاعر التي تزنّر التصرفات الفردية.
كلارا سانشيث مالكة اسلوب سعيد، وحرية في النبرة تترك بهجة. نظرتها تهكمية، اما فظاعتها فمخففة بالكآبة السطحية وشطحات التسامح. تقدّم في “لغز اسمك” رواية رعب من دون مؤثرات فائقة الطبيعة، رواية تخطف الألباب وتتمركز في الذاكرة وافتداء الآثام. تقول اننا نرغب في شيء فيبدو لكأنه الدنيا، ليتراءى عندما نحصل عليه… مجرد دخان.
مقتطف: لغز اسمكَ
أدركتُ الفكرة التي راودت ابنتي وهي تتأمّلني أوضّب حقيبتي وتنظر إليَّ بعينيها السوداوين العميقتين والمذعورتين قليلاً. عيناها كعينَي والدتها، وشفتاها رقيقتان على نسق شفتيَّ، بيد انها صارت مع تقدمها في السن ودنوّها من سن الرشد اكثر شبهاً بأمها. اقارنها بصور راكيل في الخمسين فأجدهما متشابهتين كنقطتي مياه. صنّفتني ابنتي عجوزا مختلاّ لا يمكن علاجه، ذلك اني اهجس بذاك الماضي الذي لا يهمّ احدهم، في حين لا يسعني ان انساه او اغفل عن تفصيل واحد منوط به. لا استطيع ان اشيح عن اي وجه او اي اسم وإن يكن اسما المانيا مديدا يتعذّر لفظه، علما انه ينبغي لي احيانا ان ابذل جهدا هائلا من اجل تذكر اسم شريط سينمائي بسيط.
على الرغم من محاولتي تعليق ابتسامة، لم يكن ثمة مفرّ من جعلها تشعر بالأسى. ذلك اني لم اكن عجوزا ومجنونا فحسب وانما عانيت انسدادا في احد الشرايين. اراد الطبيب ان يتفادى اصابتي بالذعر، فأخبرني ان الدم سيفتّش عن ممر بديل بغية التحايل على وضع الشريان الخارج على الخدمة. بيد اني لم اكن مخطئا في شأن حالي الصحية. تيقّنت ان وضعي آيل الى التراجع في المحصلة. قبّلتُ ابنتي وفكرت انها ربما القبلة الأخيرة، بيد اني حاولت ألاّ اجعلها تتنبّه الى هذه الحقيقة. ربما تكون آخر مرة تراني، وكنت افضلّ ان تنظر إليَّ وانا على قيد الحياة.
في الواقع لم تكن لتراودني فكرة على هذا القدر من الجنون، في حال لم اكن تلقّيت رسالة من صديقي سلفادور كاسترو، المعروف بإسم سالفا، وكان توارى عن الأنظار مذ تمّت إحالتنا على التقاعد من المركز المرصود لمطاردة الضباط النازيين الموزّعين في انحاء العالم. كان المركز تقاعد هو الآخر من نفسه، ذلك ان الأهداف التي وضعها، اقتربت من بلوغ الشيخوخة والإنتفاء، فيما تحرّر هؤلاء الوحوش الجنائزيّون من قبضتنا نهائيا. جعلهم الخوف متيقّظين وساعدهم على الفرار. كانوا يخشون ظهورنا لأننا كنا نكرههم. كانوا يسارعون في الخروج راكضين ما إن يتنشقوا شذا مقتنا لهم.
وصلني المغلّف خلال وجودي في المنزل في بوينس ايريس. عندما وقعت عيناي على الرسالة التي حوته، شعرت بوخزة تركتني مسمّرا في مقعدي لأستسلم بعدذاك لعاطفة جيّاشة. كان سلفادور احد اصدقائي والوحيد العليم بحقيقتي في هذا العالم. كان يعرف من اي مكان تحدّرت وما يسعني فعله من اجل النجاة بحياتي. التقينا ونحن يافعان في احد تلك الأروقة المديدة القائمة بين الحياة والموت، الذي يسمّيه المؤمنون وغير المؤمنين مثلي، جهنم. كان يحمل اسما هو ماوتهاوزن، ولم يمرّ بذهني ان يكون جهنم مختلفة او اسوأ. حاربت فكريّا مرة من اجل الخروج من جهنم. استطعت اختراق السماء في وسط الغيوم البيض، فيما حام في الهواء شذا عطر طيب لمضيفات الطيران عندما مررن الى جانبي وانا متمدّد في مقعدي على ارتفاع يزيد على عشرين الف قدم، متروك بين يدي الريح.
اخبرني سلفا (سلفادور تحبباً) انه يقيم منذ سنوات منسحبا في احد بيوت المسنّين في أليكانتي. كانت مؤسسة على مستوى جيد، شامسة وضائعة بين شجر الليمون لا تبعد سوى كيلومترات عدة من الشاطئ. في الفترة الاولى كان يدخل المؤسسة ويخرج منها ساعة يحلو له. كان المكان اشبه بفندق خُصّصت له فيه حجرة وحمّام استخدمه وحده، وكان له ان ينتقي قائمة الطعام ايضا. بعدذاك عانى مشكلات صحية (لم يُفِض في شرحها) وبات يعتمد على الآخرين يساعدونه في مغادرة السرير ويقلّونه أيضاً الى القرية.
غير انه على الرغم من تلك المعوقات، لم يكفّ عن العمل بالوتيرة عينها ومن دون الحاجة الى الآخرين. سألني في الرسالة “ثمة امور لا يمكن تركها على حالها، أليس صحيحا يا خوليان؟ انه النشاط اليتيم لا ازال استطيع اتمامه إذا لم ارغب في التفكير مليّا في ما ينتظرني. اتذكرُ ما جرى؟ عندما دخلت ذاك المكان كنت طفلا على شاكلة الآخرين”.
كنت افهمه الى اقصى حد، ولم اكن على استعداد لخسارته، تماما مثلما لا يرغب المرء في خسارة ذراع او ساق. “هناك” كنا نعرف من اكون، “هناك” اي في مخيم الاعتقال حيث عملنا معا بالمصادفة. كان سلفا على علم بكل ما اختبرته وعانيته، وفي المقابل شهدت انا ايضا على كل ما اختبره وعاناه. شعرنا اننا ملعونان. بعد ستة شهور على التحرير، انخرط سلفا في منظمات عدة كان هدفها تحديد مكان النازيين ومطاردتهم، وكان صار رجلاً بهيئة تثير التقزّز، حاولنا التحايل عليها من خلال إلباسه رداء وقبعة. انصرفت انا ايضا كما سلفا الى الهدف عينه. عندما اطلق سراحنا، ادخلونا “مركز الذاكرة والحركة”. كنا من ضمن الآف الجمهوريين الاسبان ادخلوا المخيمات النازية ولم نكن نرغب في الاستحواذ على الشفقة. لم نشعر اننا ابطال وانما مصابون بوباء الطاعون. كنا ضحايا، ولم يكن احدهم يحبّ الضحايا او الخاسرين. حاول الآخرون ايجاد علاج شاف، فلم يستطيعوا سوى التزام الصمت ومعاناة الخشية والمهانة، ناهيك بالتأقلم مع إثم الناجين. اما نحن فصرنا صائدين، وخصوصا هو. في المحصلة، سمحت لنفسي بالانجرار الى حنقه وتوقه الى الأخذ بالثأر.
كانت تلك فكرته عند خروجنا من “هناك”. اما انا فأردت ان اعيش على نحو طبيعي فحسب، وان انخرط في ركاب الانسانية الامتثالي. غير انه اخبرني ان الأمر بات مستحيلا وانه ينبغي لنا ان نكرّر النجاة بحيواتنا مستقبلاً. كان محقّاً، لم استطع عند خروجي من المعتقل ان استحم فيما اوصد الباب ولم اقوَ على احتمال رائحة بول الآخرين، او رائحة بولي حتى. كان سلفا يبلغ الثالثة والعشرين إبّان الاعتقال اما انا فالثامنة عشرة، في حين كانت بنيتي الجسدية اقوى. كان هزيلا وباهت البشرة وكئيبا وحاد الذكاء. احيانا اضطروا الى اعطائه ما اطلقوا عليه “هناك” اسم “الطعام” وكان كناية عن قشور البطاطا المطهوة والخبز المتعفّن. لم يكن ذلك بدافع من الشفقة وانما لحاجتهم الى سلفا، كان يريدون التأكّد من انه سيواصل التقدّم. اذكر اني سألته في احد الأيام عن سبب صراعنا من اجل البقاء على قيد الحياة فيما نحن آيلون الى الموت، فأجابني ان الجميع آيل الى الموت وان الامر لا يستثني اولئك المستوين في بيوتهم في مقاعد وثيرة وهم يحتسون الكحول. كانت كأس الكحول تمثّل بالنسبة الى سلفا الحياة الرغدة التي يتطلّع اليها جميع الناس. اما السعادة فتقوم في رأيه على التعرّف الى شابة تجعله يحلّق بعيدا. كان يعتقد ان من حق كل شخص ان يحلّق مرةً في الحياة، في الأقل.
كنا نرغب في القضاء على الخشية المتشبّثة فينا. لهذا السبب آثر سلفا غضّ الطرف واختيار عدم الرؤية او المعرفة، أن نفتح عيوننا وان نجمع كل المعلومات المتوافرة، ان نوثّق الأسماء ووجوه الحرّاس والرتب وزيارات ضباط المخيّم الآخرين وهيكلة النظام الداخلي. طلب مني ان احفظ عن ظهر قلب كل المعلومات الممكنة، ذلك اننا سنضطر الى استخدامها لاحقاً. في الواقع وخلال محاولتنا تذكّر التفاصيل، غفلنا عن الخشية بعض الشيء. فهمت لاحقا ان سلفادور تيقّن اننا لن ننهي ايامنا في هذا المكان، وان قدري سيشبه قدره إذا بقيت في محاذاته.
عندما شُرّعت الأبواب وكُتب لنا ان نخرج، هرولت على جناح السرعة ودموعي منهمرة، في حين كانت مغادرة سلفا مقدمة لانخراطه في مهمات محددة. لم يكن قادرا على الوقوف، غير انه كان عازما على المضي في تنفيذ خطته. نجح في تحديد اماكن اثنين وتسعين نازيّا مثلوا امام القضاء وكانوا من اصحاب الرتب الرفيعة، في حين لم يتسنّ لنا سوى احتجاز الآخرين وقد تولينا محاكمتهم واعدامهم. بيد اني لم اكن بمهارة سلفا. لم استطع يوما انهاء مهمة اوكلت إليَّ بنجاح. فرّوا من قبضتي او تولّى آخرون اعتقالهم في المحصلة. خيِّل إليَّ ان القدر يسخر مني. كنت احدّد امكنتهم واطاردهم واحتجزهم، غير انه كانوا يختفون ويتلاشون وانا على وشك تحقيق الهدف. لا ريب انهم تمتعوا بحاسة سادسة سمحت لهم بالهروب.
بعث لي سلفا في الرسالة بقصاصة من احدى الصحف تنشر في “الساحل الأبيض” في اليكانتي في اسبانيا حيث تصدّرت صفحتها الأولى صورة زفاف الزوجين كريستينسين. كان فريدريك في الخامسة والثمانين، اما كارين فتصغره بأعوام عدة. كان يسهل التعرّف اليهما، ذلك انهما لم يأخذا عناء تبديل اسميهما. وفق سلفا، لا يفضح المقال ماضيهما، غير انه يشير الى حفل عيد ميلاد العجوز في منزله حيث دعا مجموعة من مواطنيه. كان سهلا بالنسبة إليَّ معاينة عينَي النسر وهما تترصدان الفريسة. كانت عيناه من الصنف الذي يحفر في ذهن المرء. لم تكن نوعية الصورة جيّدة، ذلك انها التقطت للثنائي خلال الحفل ونشرت في الصحيفة بمثابة هدية في هذه المناسبة. لم يكن فريدريك يحسّ بالشفقة، كان مغمّسا بالدم حتى عنقه. انتمى الى العرق الآري غير انه لم يكن ألمانيا، ولهذا السبب ربما كان عليه ان يبرهن انه مصدر ثقة وان يكسب احترام رؤسائه، فتولى إبادة مئات اليهود النروجيين. رادوتني بعض الأفكار في شأن الفظاعة التي بيّن عنها لكي يصير الأجنبي الوحيد المستحق ميدالية الصليب الذهبي.
ترجمة واعداد رلى راشد.
(عن القشتالية)
النهار