30 عاماً على تلفزة “السنافر الشيوعيين”
..لكن “تان تان” هو من يقلق الغرب
رشا الأطرش
“في قديم الزمان، كانت هناك قرية مخفية تعيش فيها مخلوقات صغيرة تطلق على نفسها اسم السنافر، وكانت هذه المخلوقات يحبون الخير. وكان هناك شرشبيل، المشعوذ البغيض، وكان شريراً….
اوووه.. انا أكره السنافر.. سأقضي عليكم.. ولو كان هذا آخر عمل في حياتي (ضحكة شريرة)… سوف تندمووون!
الغابة ما زالت هناك. فإذا أنصتّم جيداً، ربما سمعتم صوت شرشبيل. وإذا نظرتم جيداً، ربما لمحتم السنافر”.
جيل كامل وربما جيلان… أطفال الثمانينات يحفظون تلك المقدمة بالصوت النسائي العميق، والموسيقى الشهيرة المصاحبة، ومشهد السنفور الصغير يركض، يطارده الكهل طويل القامة الذي لا يلبث أن يتعثّر بجذع شجرة، فينجو القزم الأزرق… لقد “سَنفَر بحياته”!
ثلاثون عاماً مرت على خروج قصص “شترومف” المصوّرة بريشة الفنان البلجيكي “بايو”، إلى الشاشة الصغيرة (1981) بإنتاج أميركي، والذي سرعان ما تمت دبلجته بالعربية إلى “السنافر”. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى يُطلق الاحتفال، في الصالات الأميركية والأوروبية، بالمخلوقات التي “لا يزيد طولها عن ارتفاع ثلاث تفاحات”، كما تقول الحكاية، وهذه المرة بفيلم سينمائي جديد.
ثمة ما يتعدى النوستالجيا في تلك الذكرى وفي كبسة الزر لاستعادة الحلقات على موقع “يوتيوب”. من دون كثير جهد في نبش محفوظات الإنترنت حول السنافر، يبدو أن أكثر ما كتب عنهم يدور في شبه لازمة: السنافر كمجتمع ماركسي/ شيوعي/ اشتراكي مشتهى. وذلك بـ”أمارة” دحض ملكية الفرد، والعمل الذي يعود بالخدمات الموزعة بالتساوي على الجميع (المأكل والملبس والمأوى والتعاضد أو العقد الاجتماعي)، والفوارق الطبقية المبددة باللباس الموحد. كنية “سنفور” توازي “الرفيق”. “بابا سنفور” حكيم مالك المعرفة، لباسه أحمر دون سواه من الألوان. أما “شرشبيل”، فيعيش في قصر ضخم ومعتم، يمثّل البورجوازية الجشعة والرأسمالية المتوحشة. هو على استعداد لفعل أي شيء من أجل القبض على السنافر واستخدامهم في وصفته السحرية لتحويل كل ما تقع عليه يداه إلى ذهب خالص…
غير أن اللافت إن الغالبية الساحقة من تلك القراءات شيوعية المذهب (ومعظمها بلغات أجنبية) تبقى في حدود الآرء المحمّلة على المواقع الاجتماعية أو الصفحات الشخصية على الإنترنت، وبعضها كتبه طلاب، خلال العقد المنصرم، كفرض مدرسي أو جامعي. ورغم أن عدداً من هؤلاء “المحللين” لا يخفي ميله إلى نظرية مؤامرة، فيتساءل عما إذا كان مسلسل السنافر الذي أدمنه في الصغر “من صنيعة الاستخبارات السوفياتية لتسميم عقول الأطفال الأميركيين” آنذاك، فإن أياً من تلك الكتابات لم يرق إلى مقالات في صحف أو مجلات غربية ذات أهمية، وقطعاً لم يجد أي منها صدى في دوائر الناشطين المدنيين والمثقفين والنقّاد الجديين. بل عاد السنافر إلى التلفزيون، في العام 2005، عندما اختارتهم “اليونيسف” أبطالاً لحملتها الإعلانية من أجل جمع التبرعات وإعادة تأهيل الجنود الأطفال في بوروندي والكونغو. وفي العام 2008، أحيت الولايات المتحدة وأوروبا، وعدد من دول العالم (الذي لم يعد فيه مكان يذكر لمنظومة شيوعية)، “يوم السنفور السعيد” لمناسبة نصف قرن على “سنفرة السنفور الأول” كرسم على الورق. بل ما زالت قناة “إن بي سي” تفخر بتحقيقها نسبة مشاهدة بلغت 42 في المئة من الجمهور الأميركي لصباح يوم السبت موعد عرض “ذا سميرفس” في الثمانينات… وكان الاتحاد السوفياتي آنذاك في عزّه، وكذلك الحرب الباردة… وفاز المسلسل بجائزة “إيمي” للبرامج التلفزيونية الترفيهية للأطفال (1982 1983). هكذا، يبدو أن خفّة التحليل تبقى في مكانها وحدودها الطبيعيين.
في المقابل، فإن شخصية كرتونية أخرى هي التي أُمطرت أخيراً بنقد واسع في العديد من وسائل الإعلام الغربية المشهود لها (مجلة “تايم”، “بي بي سي”، “لوموند ديبلوماتيك” وغيرها)، وقد تؤشر موجبات النقد إلى العقلية والمجتمع الذي نبع منه. فقبل عامين، أعيدت طباعة المغامرة الأولى لـ”تان تان” (بعد سبعين عاماً على نشرها في صحيفة “لو فانتيام”). وفيها يوفَد “تان تان”، الصحافي الفتى، بريشة الرسام البلجيكي أيضاً، “هيرجيه”، إلى الاتحاد السوفياتي، حيث يكتشف أن المصانع ليست سوى واجهة كاذبة لا يُنتج شيء خلف جدرانها. فيخوض الخطر (والتشويق) لحماية المزارعين من الجنود الذين يسرقون قمحهم ويجوعونهم، إذ يدرك أن هذا القمح يتم تصديره ليستخدم ريعه في إنتاج البروباغاندا السوفياتية.
وإزاء المقالات والآراء التي شجبت إعادة إنتاج بروباغاندا سياسية ولو كانت مضادة، ولو مرّ عليها الزمن إذ صُنّفت “تمييزاً سياسياً”، عاد هيرجيه نفسه وتنصّل منها بداعي أنها كانت ابنة مرحلتها وميوله السياسية قبل عقود سبعة. فالمزاج الغربي المدني، ورغم التحفظ السائد على التجربة الشيوعية، لا يبدو أنه قد يهضم اليوم نزعة ثأرية، ولو أتت بالصدفة (الزمنية)، بل يتحفظ على البروباغاندا بالمطلق من أي منطلق أتت إذ تجاوز المجتمع الدعاية المؤدلجة ويحرص على التبرؤ منها، بالضبط لأنه مارسها ذات مرة، شأنها شأن “هيمنة الرجل الأبيض”.
لذا، شبّت الزوبعة النقدية الأكبر، العام الماضي، حين أعيد نشر القصة المصورة الأولى لـ”تان تان” التي ظهرت في مجلة مستقلة (1930)، بعنوان “تان تان في الكونغو”، تحت شعار أن مضمونها السياسي العنصري لا يُسكت عنه. إذ صوّر هيرجيه الكونغوليين (المُستعمَرين من قبل بلجيكا) على أنهم “السكان المحليون المتوحشون، الذين يحملون ملامح أشبه بالقردة ويتحدثون كالبلهاء، فيما يدرّسهم تان تان خريطة بلجيكا، وتناديه امرأة إفريقية بالسيّد”، كما كتبت بعض الصحف البريطانية، بل اعتبرت إحدى الصحافيات أن الكتاب “مكانه المتحف”. وواجهت مكتبتا “بوردرز” و”واترستون” شكاوى تقدّمت بها “مفوضية المساواة العرقية” إلى السلطات البريطانية، فضلاً عن احتجاج عدد من القراء وزبائن المكتبتين. فنُقل الكتاب الجديد القديم إلى قسم “الراشدين” حيث تعرض الروايات ذات المحتوى الجنسي أو الإباحي، ما يضع الكتاب تحت عين الرقابة التي تتطلب من قارئيها حدّاً أدنى من الوعي لتقلبات الأزمنة والتجارب السياسية، كما المحتوى الجنسي.
هي قيم إنسانية تجري مجرى السياسة، أدواتها المجتمع المدني رقيباً دون السلطة. هكذا، اضطر هيرجيه للاعتذار مجدداً، واعترف بأن القصة لم تعد مناسبة للعصر، وأن “تان تان في الكونغو” تبنّى “المقاربة الكولونيالية لتلك الفترة من تاريخ بلاده”، فرسم للأفارقة “صورة مستقاة من النظرة البورجوزية الأبوية المنمطة لهم”، مبرِّراً بأنه لم يكن يَعرف غيرها في ذلك الوقت.
سُدّت الطريق، إذاً، وتلقائياً، على إعادة إنتاج مفاهيم مرذولة في الحيز الثقافي العام، ورُدّت دعوى الذاكرة والحنين ومعها حجة الاحتفال بالعيد السبعين.
لعل المسلسلات المصورة والرسوم المتحركة تبدو الأكثر غواية في مجال البُعد الإضافي في قراءة “النص” وفكفكة “المجسّد” في الرموز (representation)، وإن لم تكن وحدها الأكثر عرضة لهذا التمرين الثقافي بمختلف مؤشراته السياسية والاجتماعية والإنسانية. لكن الرسوم، وباعتبارها باللون والخطوط ومسار الحكاية تنحو إلى دفع لعبة الترميز إلى أقصاها، فإنها تجعل التحليل، من داخل نظام الدال والمدلول، تحدياً أكثر إثارة، وأقدر على إنتاج المعاني القصوى. وكون جمهورها الأساسي هو الأطفال، فذلك ما يزيد من وطأة وأهمية تلقّف أي “رسالة” مغلوطة، تنميطية أو عدائية، خصوصاً في المجتمعات التي أحرزت تقدّمها، فتماسكت أطرها المدنية وتطورت، وتعدى مفهوم “الصواب السياسي” المؤسسات والممارسات السياسية المباشرة والتقليدية (كالبرلمانات والحكومات.. أو فعل الانتخاب والالتزام بالقوانين العامة) إلى المساواة العرقية والجندرية وحرية الفرد واحترام أي آخر…
والحال إن قراءة “التجسيد”، وتفكيك ما يمثّله كل عنصر من عناصر النص، قد تدل إلى التركيبة الثقافية لـ”القارئ” بقدر (إن لم نقل أكثر) ما ينكشف بواسطتها “الموضوع” المقروء.
فحين يكتب البريطاني ستيوارت هول، مثلاً، عن “الانعطافة الثقافية”، التي شهدها الغرب خلال القرن الماضي، في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإنه يتمدد إلى التفكير في “المعنى” على أنه مصنوع ومبنيّ ومركّب، أكثر من كونه موجوداً وسابقاً في انتظار أن يتم اكتشافه. إذ فتحت تلك الانعطافة الباب على إدراك أهمية “المعنى” هذا في تعريف الثقافة، ليس في الروايات والفن التشكيلي والبرامج التلفزيونية وحسب، بل أيضاً في سياق أخذ ورد المعنى ذاك بين أفراد مجتمع أو جماعة ما.
الثقافة السائدة، بفهومها الحديث، هي نتاج عملية فهم صانعيها للأمور والأشياء من حولهم، كي تصبح ذات معانٍ متقاربة يتوافقون عليها في ما بينهم. والمعنى هو ما يزودنا بحسٍّ معين عمّن نحن، وعمّا ننتمي إليه، وبالتالي فإنه مرتبط بأسئلة الثقافة وكيفية عملها واستخدامها. فيُنظر إلى “تجسيد” فئة أو شخص أو فكرة، باعتباره مظهراً أو عملاً يقع في القلب من المعاني المركّبة من حولنا، وتالياً باتت الثقافة كمفهوم وممارسة هي العملية الأولية لذلك التركيب، وليست مجرد انعكاس للعالم والأحداث في عيون ناظريها.
فماذا نستشف من هبّة الجماهير العربية (والمتماهية غالباً مع سلطة عمياء) إزاء كاريكاتور دانماركي، أو “تجسيد” شخصية سياسية/دينية (وهذا بحد ذاته رمز دالّ) في برنامج ترفيهي؟ بل ماذا نقرأ في “نص” المنع لرواية “شيفرة دافنتشي”، وأخيراً لمسرحية “إنسي السيارة” وقبلها “لَكَم تمنّت نانسي..”؟
ماذا يعني الغياب التام لأي نقد بالعربية لـ”تان تان” في نسخته العنصرية الكولونيالية المبكرة، رغم أنه تُرجم؟ ألأن ذاك المُستعمَر المُحقّر، ملوّن البشرة و”بعيد” لا يعنينا، نحن الذين ما زلنا نسئ معاملة “أشباهه” إذ نستخدمهم في بيوتنا؟ تلك “قراءات” لدالات ومدلولات تستحق قراءة بدورها..
فهل يكفي لنفهم، وبالعودة إلى السنافر، أن نرى مستخدمي الإنترنت العاديين يكتبون عن “شرشبيل” ممثّلاً لأميركا، وقطّه “هرهور” لإسرائيل، و”السنافر” للعرب؟ وهل يكفينا، كي نفهم، رصد الشجب لاستخدام “بابا سنفور” السحر باعتباره منافياً للدين.. وليس للعقل؟! بل والدعوة (مع تطبيقها) إلى “أسلمة” الرسوم المتحركة المدبلجة إلى العربية فتولّف (بلهجة كويتية) حلقة سنفورية حول جزاء من يفوّت صلاة الفجر في الجامع إذ حوّله “شرشبيل” (الذي يحكي اللهجة العراقية!) إلى مخلوق أخضر بشع، في حين أن التيمة الأصلية لتلك الحلقة الأصلية كانت ضبط الأعصاب والحوار الهادئ بين سنفورين؟
هي الإيديولوجيا، بمختلف تجلياتها السياسية والدينية، ومعها “القضايا الكبرى”، على حساب قيم الحداثة واحترام الآخر وصون العقلانية والحريات.
هنا، يختلف المعنى العربي… ولا “يسنفر” طريقه إلى ملاذ آمن.
المستقبل