أغنية الماعز
حسن بلاسم
كان الناس ينتظرون في طوابير ليرووا حكاياتهم. تدخلت الشرطة لتنظيم الأمور. أغلق الشارع العام المحاذي لمبنى الأذاعة أمام حركة السيارات. وهناك انتشر النشالون وباعة السجائر المتجولون. وكانت شديدةً المخاوف من أن يندسّ إرهابي بين الناس ويحيل كل هذه الحكايات عجينة من لحم ونار.
تأسس راديو “الذاكرة” بعد سقوط الديكتاتور. منذ البدء أخذت الأدارة بنهج وثائقي لبرامجها. لا نشرة أخبار ولا أغنيات، مجرد تقارير وثائقية وبرامج تنبش في ماضي البلاد. وجاءت الراديو شهرة كبيرة بعد الأعلان عن خبر تسجيل برنامج جديد بعنوان “حكاياتهم بأصواتهم”. وتوافدت الحشود على بناية الإذاعة من كل أنحاء البلاد. كانت الفكرة بسيطة: اختيار حكايات وتسجيلها بأصوات أصحابها ومن دون ذكر للأسماء الحقيقية ثم يختار المستمعون أفضل ثلاث حكايات تنتظرها جائزة مالية ثمينة.
أفلحت في ملء استمارة الترشيح والدخول الى مبنى الاذاعة بعد مشقة كبيرة. ولأكثر من مرة نشب الشجار بسبب الزحام. عجائز وشبان ومراهقون، موظفون وطلبة عاطلون عن العمل ، جاؤوا كلهم كي يرووا حكاياتهم. انتظرنا تحت المطر أكثر من 4 ساعات. بعضهم كان كتوما. آخرون كانوا يتفاخرون بحكاياتهم. شاهدت رجلا من دون ذراعين، لحيته تكاد تصل الى سرّته. كان غارقا في التفكير كأنه تمثال يوناني متأكل. لاحظت قلق الشاب الوسيم الذي كان معه. سمعت من شيوعي عذّبوه في السبعينات في سجون البعث، أن لدى الرجل الملتحي حكاية مرشحة للفوز إلا أنه لم يأت من أجل الجائزة. إنه مجرد مجنون، لكن مرافقه، وهو من اقربائه، يطمع بالجائزة. كان ذو اللحية الطويلة معلّما. ذهب الى الشرطة يوما للأبلاغ عن جاره الذي كان يتاجر بالآثار المسروقة من المتحف. شكرته الشرطة على تعاونه. بهذه الصورة أراح المعلّم ضميره وعاد الى مدرسته. رفعت الشرطة تقريرا الى وزارة الدفاع مفاده أن بيت هذا المعلّم هو وكر لتنظيم “القاعدة”. كانت الشرطة شريكة لمهرّب الآثار. أرسلت وزارة الدفاع تقريرها الى الجيش الاميركي الذي حلقت مروحياته في سماء بغداد وقصفت بيت المعلّم. قتلت زوجته وأولاده الأربعة وأمه العجوز. المعلّم نجا من الموت. لكن دماغه تعطل وفقد ذراعيه.
أما انا فكانت تغلي في ذاكرتي أكثر من عشرين حكاية عن سنوات أسري الطويلة في ايران. كنت واثقا من أن واحدة على الأقل ستكون قنبلة المسابقة حقا.
أدخلوا المجموعة الاولى ثم اعلنوا للحشود في الخارج عن انتهاء استقبال الطلبات في ذلك اليوم. كنا أكثر من 70 شخصا. أجلسونا في قاعة فسيحة تشبه مطاعم الطلبة في الكليات. أخبرنا رجل يرتدي بدلة أنيقة بأننا سنستمع أولا الى حكايتين كي نتعرف الى طبيعة البرنامج. كما تكلم عن قانونية العقد الذي سنوقّعه مع الاذاعة.
خفتت الأضاءة تدريجيا وحل الصمت في القاعة كأننا في صالة سينما. أشعل معظم المشاركين سجائرهم. غرقنا في سحابة كثيفة من الدخان وأخذنا نستمع الى قصة امرأة شابة. كان صوتها يصلنا صافيا من كل أركان القاعة. استمعنا الى حكاية زوجها الشرطي الذي اختطفته جماعة اسلامية لمدة طويلة، وكيف أرجع القتلة جثته متعفنة ومن دون رأس أثناء الاقتتال الطائفي. حين أضيئت القاعة من جديد دبّت الفوضى. كان الجميع يتحدثون معاً مثل حشد من الزنابير. هزئ كثيرون من حكاية المرأة. ادعوا أنهم يملكون من الحكايات ما هو أغرب وأقسى وأكثر جنونا. لمحت عجوزا شارفت التسعين تهزّ يدها ساخرة وهي تتمتم: هي هاي سالفة. سالفتي لو حكيتها على الصخر. كان تفطر من القهر.
عاد الرجل الأنيق ودعا المشاركين الى الهدوء. أوضح بكلمات بسيطة أن أفضل القصص لا تعني الأكثر رعبا أو حزنا، المهم هو الصدق وأسلوب الحكي ثم قال إنه ليس من الضروري أن تكون القصص عن الحرب والقتل. أنا انزعجت من هذا الكلام. ما لاحظته أن غالبية المشاركين لم تكترث بأقوال هذا الرجل. همس في أذني رجل بحجم الفيل: ضراط إللي يقوله هذا أبو رباط. السالفة هيّه سالفة. لو زينة لو ضراط.
خفتت الأضاءة من جديد. ورحنا نصغي الى الحكاية الثانية:
وجدوها تطعمني الروث. طوال أسبوع وهي تخلطه لي مع الأرز والبطاطا المهروسة والحساء. كنت طفلا شاحبا في الثالثة من العمر. هددها أبي بالطلاق لكنها لم تكترث. تحجّر قلبها الى الأبد. لم تغفر لي فعلتي أبدا، ولا أنا نسيت قسوتها. عندما ماتت بسرطان الرحم كانت أعاصير الحياة قد حملتني بعيدا جدا. هربت بعد حادثة البراميل من البلاد ذليلا، مكسورا، مشدوها من شدة الفزع. في الليل ودعت أبي. سار معي الى المقبرة. قرأنا سورة الفاتحة عند قبر عمي. تعانقنا ثم دسّ في يدي رزمة من النقود. قبّلت يده واختفيت.
كنا نعيش في حي فقير في كركوك. لم تكن في الحي مجار للمياه. حفر الناس في بيوتهم بالوعة كلفتها ثلاثة دنانير. كان الكردي نوزاد، بائع الخضروات، هو المختص الوحيد في الحي في حفر البالوعة تلك. وحين مات نوزاد تولى ابنه مصطفى العمل. عثروا على نوزاد متفحما في دكانه بعدما شبّ الحريق فيه ليلا. لا أحد يعرف ما الذي كان يفعله نوزاد في تلك الليلة. زعم بعضهم أنه كان يدخن الحشيشة. أبي لم يصدق هذا الكلام. لكل أشكال المصائب كانت هناك حكمته الأثيرة “كل شيء مكتوب علينا في هذه الدنيا الفانية”. هكذا صدقت في طفولتي أن “حياتنا” مركونة في الكتب المدرسية ودكان بائع الجرائد. أراد الأب إنقاذ طفولتي بما يملكه من نقاء ومحبة. كان ممتنا من الناس والحياة بطريقة تحيّرني الى اليوم. كان مثل قديس في مسلخ بشري. كانت الكوارث تقصفنا مرة كل عامين. إلا أن الأب لم يرد أن يصدق أن هناك مثل هذه اللعنة الغامضة التي يأتي الزمن بها. ربما ردّها الى القدر المكتوب. كنا عرضة للقصف من كل الجهات، من المجهول ، من الواقع ، من الله، من الناس، حتى الموتى كانوا يقصفوننا بالعذاب. حاول أبي دفن جريمتي بشتى السبل. على الأقل شطبها من ذاكرة أمي. لكنه فشل. استسلم أخيرا. وترك المهمة لجرّافة الزمن، فلعلّها تردم الكارثة.
ربما أنا أصغر قاتل في العالم. قاتل لا يتذكر شيئا من جريمته التي لم تكن لديَّ على الاقل، سوى حكاية. مجرد حكاية لتسلية الناس في كل وقت. ما لاحظته أن كل واحد كان يكتب ويلحن وينشد حكاية جريمتي على هواه. آنذاك لم يكن أبي يعمل في صناعة الطرشي. كان سائق دبابة. وكانت الحرب في عامها الأول. وكانت أمي تلحّ على أبي كي تنجب طفلا ثالثا. كان يرفض بسبب الحرب التي أفزعته. أحوالنا كانت ماشية: يرسل أبي كل شهر ما يكفي للأكل واللبس وإيجار البيت. وكانت أمي تمضي وقتها إما في النوم وإما في زيارة زوجة عمي، للحديث عن أسعار الأقمشة ورعونة الرجال.
في الصيف تنتقل أمي الى منطقة الأحلام. لا تسمع ولا تتكلم ولا حتى تبصر. كان القيظ يذيب روحها. في كل ظهيرة تستحم ثم تنام في غرفتها عارية. مثل حورية ميتة. وحين يقدم الليل تستعيد شيئا من الحيوية تماما كأنها أفاقت من غيبوبة.
في ظهيرة أحد الأيام غفت أمي فاتحةً ساقيها وذراعيها لهواء المروحة السقفية. تسللنا أنا وأخي الذي يصغرني بعام الى باحة البيت. لم يكن في الباحة سوى شجرة تين يتيمة والبالوعة تلك. أذكر أن أمي كانت تبكي تحت شجرة التين كلما مات لنا قريب أو نزلت علينا مصيبة. كانت فوهة البالوعة مغطاة بصينية طعام قديمة مسنودة بحجر كبير. كنا نزيحه، انا واخي، بصعوبة. ثم نبدأ برمي الحصى في البالوعة. كانت لعبتنا المفضلة. جارتنا أم علاء عملت لنا زوارق ورقية كنا نتركها على سطح بحيرة الخراء.
قالوا إني دفعت أخي في البالوعة ثم هربت الى سطح البيت مختبئا في قفص الدجاج. وعندما كبرت سألتهم: ربما سقط، وأنا هربت بسبب الخوف؟ قالوا: أنت اعترفت بنفسك. ربما حققوا معي مثل شرطة الديكتاتور. أنا لا أذكر أي شيء. لكنهم يقولون ويحكون، كأنهم يتمتعون بمشاهدة أحد الإفلام. كان الجيران كلهم قد شاركوا في كرنفال جحيم البالوعة. لم يعثروا على تلك السيارة التي كانت تأتي مرة في الشهر وتفرغ بالوعات الحي. استعانوا بكل شيء. بالقدور والأواني الأخرى وبدلو كبير لتفريغ الخراء من البالوعة. كانت عملية شاقة ومقززة كأنه مشهد تعذيب بالحركة البطيئة. كان القيظ والروائح الكريهة يضاعفان من التعب وهول الصدمة. وقبل أن تغرب الشمس، أخرجوه، طفلا كفنه الخراء.
تأخر أبي في العودة من الجبهة. كتب عمي رسالة له ثم تكفل مراسيم دفن أخي. دفنّاه في مقبرة الأطفال على التل. ربما هي أجمل مقبرة في العالم. في الربيع كانت تنبت هناك أزهار برية من كل لون وشكل. وتبدو المقبرة من بعيد كأنها شجرة عملاقة ملونة. مقبرة يفوح عطرها بقوة وينتشر الى عشرة كيلومترات.
أرسلني أبي الى عمي كي أعيش معه. هكذا أصبحت لاجئا من صنف آخر. كنت أحلّ ضيفا على بيتنا كل يوم جمعة. تصحبني زوجة عمي كي ترقب أمي. صرت مثل الكرة تتقاذفها الأقدام. هكذا مرّت ست سنوات وانا أسعى الى أن أفقه ما يحدث حولي. كان عليَّ أن أتعلم ما تعنيه أحاسيسهم وكلماتهم وسلسلة جمر في رقبتي. كنت أحبو فوق بساط من السكاكين. وكانت البالوعة فزاعة طفولتي. سمعت في أكثر من مناسبة أن الحياة تتقدم، تسير، تبحر، وربما تزحف. حياتنا كانت تتفجر مثل المفرقعات النارية. وتتناثر في سماء الله. كاتب الاقدار ومدفع القصف العظيم. أمضيت سنوات طفولتي ومراهقتي وانا اراقب الجميع مثل قناص يختبئ في العتمة. أراقب وأرمي. كنت أطلق على كوابيس حياتي كوابيس أخرى – كوابيسي المتخيلة. ابتكرت صورا ذهنية لتعذيب أمي والآخرين. ورسمت في دفتر مدرسي شاحنات عملاقة تسحق رؤوس الاطفال. ما زلت أذكر صورة الرئيس المطبوعة على غلاف الدفتر. ارتدى فيها بدلة عسكرية وهو يبتسم. وقد كتب أسفل الصورة: “القلم والبندقية فوهة واحدة”.
قبل أن تنتهي الحرب بعام، فقد أبي ساقه اليسرى وخصيتيه. هذه الحال أرغمت أمي على ان أعود الى البيت. أبي قرر أن يعود الى مهنة أبيه وأجداده: صناعة الطرشي. يقولون إن جدي كان أشهر بائع طرشي في مدينة النجف. الملك نفسه، زاره ثلاث مرات. عدت الى البيت وصرت ساق أبي وذراعيه وخادمه المطيع. وكنت سعيدا، فأبي معجزة من الطيبة. على رغم كل ما عاناه في حياته، ظل مخلصا لروحه التي لم يشوهها الألم. ركّب ساقا صناعية وضاعف من طاقة الحب. كان يدلل أمي ويغمرها بالهدايا، قلادات ذهب وخواتم وألبسة داخلية مطرزة بالورود.
بلّط أبي باحة البيت وصنع غطاء كونكريتياً لفوهة البالوعة. لم تبق سوى فسحة لشجرة التين التي أماتتها المياه المخمرة للطرشي. تحتها بكت أمي آخر مرة حين بلغت السادسة عشرة من العمر. قامت الحكومة في بغداد بشق طريق للخط السريع وأزالت المقبرة القديمة. كان قبر والدها هناك. واستمر زمنا طويلا حزننا على ضياع عظام الجد.
كانت الباحة مليئة ببرامل التخمير البلاستيكية. وأكوام من شوالات الخيار والباذنجان والفلفل الأخضر والأحمر والزيتون واللهانة والقنبيط، وأكياس الملح والسكر والبهارات وقناني الخل وعلب الدبس. كانت هناك قدور طبخ كبيرة. الماء يغلي فيها طوال الوقت. نضيف إليها البهارات ثم خيار الماء والباذنجان والقنبيط واللهانة والجزر. لم يكن أبي ماهرا كأبيه وجدّه. راح يجرّب طرقا جديدة. كان قد أمضى شطرا كبيرا من حياته في الدبابة. نسي الكثير من الوصفات السرية لعمل الطرشي. أضاعت الدبابة عليه مهنة أسلافه.
أجلس قبالة أمي ساعات ونحن نقطع الباذنجان أو نحشو الخيار بالثوم أو الكرفس. كان لسانها، مسموما مثل أفعى. ولم يعد الصيف يؤلمها. تحولت بقرة سمينة حرقتها الشمس. سليطة اللسان وتدخّن بإفراط. نبتت في قلبها أعشاب مسمومة. كان الناس يرثون لحالها بكلمات مسمومة أيضا: المسكينة. لا أولاد سوى غراب البين. الغراب هو أنا. ومعه كل رموز الشؤم. كان أبي مشغولا طوال الوقت بأمور الحسابات والتعامل مع الدكاكين في السوق ونقل البراميل بسيارة الشحن القديمة. ينهار أبي من التعب بعد مغيب الشمس. يتعشى ويصلّي ويروي لنا مشاكل الطرشي. ينزع ساقه الاصطناعية. ويدخل السرير ليدغدغ إمرأته الشمطاء بأصابعه.
حين أندلعت حرب الخليج الثانية كان عليَّ الالتحاق بخدمة الجيش. جلس أبي وعمي يتشاوران في أمور خدمتي العسكرية. لم يشاهد عمي أهوال جبهات الحرب الاولى. كان يعمل في مديرية الأمن في مركز المدينة. اتخذ أبي قراره: لن أعطيه الى الموت. كيف لهم ان يقتلوا ابني الوحيد. تشاجر عمي معه. شرح له موقفه من دائرته الأمنية. ابن اخيه هارب من خدمة العلم “تريدهم يعدمونا أحنا والنسوان؟”. أصر أبي على موقفه. هددنا عمي بأنه سيلقي القبض بنفسه عليَّ إن لم ألتحق بالجيش. لكن أبي طرده من البيت. وقال له “اسمع. صحيح انا رجل مسالم. لكن هذا ابني. قطعة من جسدي. إن فعلت ذلك فسأذبحك من الوريد الى الوريد”. كان عمي سكران ليلتذاك، وهائجاً مثل ثور، غادر وهو يشتم صارخا. قام أبي وصلّى ركعتين. وسرعان ما استعاد هدوءه: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إنه أخي. مجرد كلام سكر. أنا أعرفه. قلبه أبيض.
بقيت سجين البيت ثلاثة أشهر. كانت الشرطة العسكرية وكل أجهزة الامن تملأ الشوارع. قرر أبي أن لا أعمل في النهار كي لا ينتبه إليّ الجيران. أخرج ليلا الى الباحة مثل اللص وفي يدي فانوس. أجلس قرب شوالات الباذنجان والخيار والفلفل. وأنهمك في العمل والتفكير في حياتي. كنت أخلط العرق بالماء في علبة حليب فارغة لئلا أزعج أبي. امضي الليل وانا أسكر والمزة من كل أصناف طرشي سائق الدبابة. يسري الكحول في دمي فأحبو مثل طفل الى البالوعة. الصق أذني بالغطاء الكنوكريتي وأصغي. أسمعه يضحك. أغمض عيني. فأتخيل لمس كتفه العارية. جلده ساخن من كثرة اللعب والتعب. لم اعد أذكر وجهه. صورته الفوتوغرافية الوحيدة مع أمي. هي تمنع الكل من الإقتراب منها. تخبئها في دولاب الملابس. تضع الصورة في علبة خشبية صغيرة مرسوم عليها طاووس.
عند ساعات الفجر الأولى ينهض أبي. غالبا ما كان يجدني نائما في مكاني. يضع يده على جبيني، فأفيق من لمسة يده. “أدخل ابني. صلّيلك ركعتين. وأدعو ربّك يوفقك”. لم يكن غافلا عن شربي العرق. لكن الدين لم يكن بالنسبة اليه أحاديث نبي ولا شريعة ولا محرمات. الدين هو حب الخير، هذا كلامه لكل من يناقشه في مسألة الحلال والحرام وأمور الشريعة. لن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي انهار فيه باكيا في ساحة اللعب بالكرة. أخاف الأطفال. وأنا خجلت وارتبكت بسبب بكائه. كان رفاق حزب البعث قد أعدموا ثلاثة شبان من الكرد قريبا من ساحة الكرة. ربطوهم الى أعمدة خشبية ورموهم بالرصاص امام مرأى جميع سكان الحي. قبلذاك خطبوا من مكبّر الصوت: “هؤلاء الخونة المخربون لا يستحقون ان يأكلوا ويشربوا ويتنفسوا من ماء هذا البلد وهوائه وخيراته”، وكعادة رفاق الحزب أخذوا الجثث وتركوا أعمدة الخشب في مكانها كي يتذكر الجميع ما حدث. جاء أبي الى الساحة لاصطحابي الى السينما. كان مولعا بالأفلام الهندية. وحين تأمل الهدف الذي تنقصه العارضة الخشبية أدرك اننا أخذنا الأعمدة الثلاثة وعملنا منها عوارض للأهداف. كانت آثار الدم الذي يبس على الخشب. انهار ابي حين سمع أحد الاولاد يقول: “عمو. ناقص عارضة وحدة. يمكن يعدمون بعد واحد. وناخذ الخشبة مالته”.
في مساء صيفي قُصِفنا من جديد. طرق عمّي الباب بعصبية. كانت أمي تعدّ النقود وتضعها في زجاجة معجون طماطم فارغة. انا وأبي كنا نلعب الشطرنج. كان يمكنه أن يغلبني بسهولة. لكنه كان يتسلى بفرحتي وأنا أقتل جنوده أولا. قدّمهم وبقية البيادق لي من دون غطاء، وكقرابين. أبقى ملكه ووزيره فقط. ثم أخذ يفتك ببيادقي بوزيره الأسود ويحكم بالموت على ملكي.
خرج أبي الى الباحة لاستقبال عمي. لفّت أمي فوطتها ولحقت به. وقفوا جميعهم قرب البالوعة وراحوا يتناقشون بعصبية لكن بصوت خفيض. راقبتهم من خلف زجاج الشبّاك. كنت دائخا من سكرة الأمس. انتظرت قدوم الليل لأسكر من جديد. هرولت أمي لجلب شيء من الأغراض أسفل السلم. تعاون أبي وعمي على إفراغ برميل مليء بطرشي القنبيط. عادت أمي بمطرقة ومسمار. طرح أبي البرميل أرضا، وأخذ يحدث فيه ثقوبا عشوائية بالمسمار. لم يكن يحمل ساقه الاصطناعية. كان يقفز على ساق واحدة وهو يدور حول البرميل كأنه يلعب أو يرقص. أوقف عمي السيارة أمام باب البيت ونقلوا إليها براميل الطرشي. دخل أبي الغرفة وهو يتصبب عرقا:
– اسمع ابني. ماكو وقت. عمّك عنده معلومات ان الأمن والحزب راح يفتشون من الفجر كل البيوت. عمّك عنده اصدقاء اوفياء بقرية العوران. ابقالك هناك كم يوم. منا لمن الامور تهدأ.
دخلت البرميل الفارغ. أحكمت أمي غلق الغطاء. وحملني أبي وعمي الى السيارة.
كان أبي محقا. إنه أخوه ويعرف قلبه. قاد عمي السيارة في الشوارع مثل المجنون لينقذ حياتي. تمكن من الوصول الى أطراف المدينة بسلام. لكن جميع المعابر المؤدية الى الأقضية والقرى، كانت تحرسها نقاط تفتيش عسكرية. الحل الوحيد أمامه هو التوجه الى الطرق المهجورة. اختار طريق مزارع الحنطة شرق المدينة. ربما ذعر عمي أنساه الطرق المناسبة. حتى الطفل في المدينة كان يعرف سلسلة التلال الصخرية الوعرة بعد مزارع الحنطة. ربما كانت صور تعذيب الناس في دائرته الأمنية تشتت ذهنه. لعله تخيل جماعته يذيبونه في أحواض حامض الكبريت (ضابط أمن يهرّب غبن أخيه في برميل طرشي). كان يقود السيارة في مزارع الحنطة مسيطرا بالكاد على المقود. المطبات كسرت ضلوعي والغبار الذي تثيره السيارة يدخل من الثقوب في البرميل بدل الهواء. كانت رائحة البرميل مثل جيفة القطط الميتة في مزبلة الحي. هل كان عمي يقلع الأظفار ويفقأ العيون ويحرق الجلود بمكواة في أقبيه دائرة الامن؟ ربما قادته أرواح المعذبين الى الهاوية، ربما هي روحي الشريرة. ولعلها الروح التي كتبت كل شيء، فان، غامض، في هذه الدنيا الزائلة.
سبعة براميل تقبع في ظلام أسفل المنحدر مثل حيوانات نائمة. انقلبت السيارة بعدما حاول عمي اجتياز التل الصخري الثاني. تدحرجت البراميل مع السيارة الى الهاوية. أمضيت الليل غائبا عن الوعي في جوف البرميل. في ساعات الصباح الاولى. كانت أشعة الشمس تتسرب من ثقوب البرميل، كأنها خيوط أنفاس ممدودة الى غريق. كان الدم يملأ فمي، ويداي ترتعشان. كنت فريسة الإثنين: الألم و الرعب. رحت أرقب أشعة الشمس وهي تتشابك بغرابة في البرميل. أردت التخلص من الفوضى التي لحقت بوعيي. شعرت كأني دخّنت طنا من الماريهوانا: سمكة تفيق في علبة سردين. دودة ميتة في جوف بئر مهجورة. جنين متعفن سحقت عظامه في رحم على شكل برميل. الى أن استقرت في ذهني صورة أخي النازل الى قاع البالوعة وأنا أغوص وراءه.
كان ثغاء الماعز يصلني ضعيفا أول الأمر، كأنها فرقة أنشاد تتدرب على الغناء. تثغو عنزة ثم أخرى ثم كل العنزات معاً، كأنها وصلت الى الميلوديا المناسبة. قبل أن يصيح الراعي على القطيع، وتنطح عنزة البرميل، تحرك شعاع وسقط في بؤبؤ عيني. تبولت على نفسي في جوف البرميل، مشدوها من قسوة العالم الذي سأعود اليه.
النهار