صفحات ثقافية

رسالة في الياسمين الدمشقي: لا يزال لدى مصطفى الياسين أكثر من الرسم

null
فاروق يوسف
لست متفائلا. لا يرى المرء كل يوم رسوما تتسلل إلى عينيه بخفة نظافتها وعادات العيش اليومي المترف، رسوما تهب النظر معنى خالصا هو معنى التماهي مع ما يُنظر من غير الحاجة الى البحث عن أسباب النظر، بل يمكنني القول بثقة إن الرسم صار عزيزا في زماننا. كثر الكلام عن زهرة لا تزال كامنة في البذرة وما من يد تمتد لاستخراجها. لا تقول المتاحف كل الحقيقة. الصالات تفعل الشيء نفسه لكن بطريقة شرسة. تعدنا بشيء وتهبنا شيئا آخر. في (سُدرتاليا)، وهي بلدة سويدية صغيرة تقع في محيط العاصمة، التقيت ذات مرة رساما من النوع الذي لا يلتقيه المرء دائما. حدث ذلك قبل سنوات. صفة رسام لا تكفي لتقوله كاملا. قبل أن أرى البلدة رأيته فأدرت ظهري للبلدة أياما إلى أن غادرتها في اللحظة التي غادرها ذلك الرسام. اختفت المدينة لأنني اكتفيت بمدينته الخيالية النائمة تحت سطوح رسومه. أتذكره الآن لأنني لم ألتق رساما (لم أتعرف عليه من قبل) من بعده يعيدني إلى زمن الرسم. مصطفى الياسين. لا يحتاج الى اضافات. لا يحتاج حتى الى رسومه ليكون موجودا باعتباره فنانا. سلوكه الشخصي هو محصلة كل القوى غير المرئية التي صنعت جنته. بلا مقدمات ينتقل المرء معه إلى قلب القضية. الرسم باعتباره تلويحة يد أخيرة قبل الطوفان. بالنسبة إليّ فان الرسام تفضحه أشياء عديدة، ليس من بينها التقنية: يده التي لا تشبه يد نجار، عينه النائمة على حلم صياد متعفف عن القتل، خطوته التي لا ترى في الأرض مجالا وحيدا لإلهامها، جمله المتقاطعة التي يذهب بعضها في اتجاه كائنات لا تُرى. لدى مصطفى الياسين أكثر من ذلك. لديه اللغة المقتضبة التي تشحن الهواء من حوله بتوتر عاطفي يشع أملا. ‘هو ذا رجل يقود أسراب طيوره إلى مهاجعها وسط التيه ولا ينام إلا بعد ان يطمئن إلى أن الصمت عمّ العالم.’ تقول وأنت تودعه فلا يختفي.
2
أقول لك: ‘لا يخترع الراعي خرافه يا صديقي، الخراف هي التي تخترع راعيها. ينبعث ذلك الراعي في لحظة عوز تاريخي. الجماهير تنتظر خلف الباب. الجماهير مثل مياه السد الحبيسة. الجماهير هناك، لكنها لا تكتفي بالانتظار. هي تفعل اشياء كثيرة: تطرز أوهاما، تنسج حكايات، ترسم ببغاوات. الجماهير تفعل أشياء كثيرة، أشياء مفيدة من أجل أن لا يفسد مزاجها. وغالبا ما تكون تلك الأفعال من غير معنى. هل تبحث أنت عن معنى؟’ تضحك وتقول لي: ‘أرجوك. ما تراه في رسومي جماهير لكن من نوع مختلف. إنها حشود الياسمين الدمشقي، جوقات المتصوفة في حلب، طيور الشام التي لم تحط على السطوح منذ عشرين سنة هي عمر غربتي في فنلندا، أكف الفتيات القرويات في الصحارى الذاهبة إلى العراق’. تطلع من رسومك كمن يعتذر، مطمئنا إلى أن صوتك الهاديء لن يزعج أحدا. تختصر الجهات في نظرة حزينة. ‘النظر لا يكذب. الخيال هو الآخر لا يكذب. ولكن هل ضاعت أيامنا ونحن ننبش الحقول بحثا عن شجيرات منسية؟’ تسألني. أهذا إذاً ما يجعلك مرهفا ترافق الدمعة إلى مستقرها. ولعك بالمنسيات يجعلك أشبه بمن يقفز الموانع وهو يخشى أن تدوس قدماه على حلزون ضائع. تضج حكاياتك بالنساء العاكفات على تهذيب مكرهن البريء وحشرات نسيجهن. حكايات تضرب وسائد النوم بخفقة جناح خفي. جناح الطفل الذي كنته في لحظة إلهام هاربة. سلالتك المعجونة بالمرويات الخاشعة تسيل من الفرشاة مع الأصباغ. سلالة لينة وناعمة تعيد تشكيل عصفها لكي لا يؤذي مرورها الهضاب النائمة. مثلك تماما. حين تمشي وحين ترسم وحين تتكلم وحين تحلم. خفيفا تنساب وأنت تخترق الأشياء بقوة خفائك. لا تكتمل معادلاتك إلا بما تفرضه سلطة شفافيتك من قوانين. تجتاز ثلاثة أرباع المسافة حتى نشعر أنك قد سبقتنا. ‘ما الذي يفعله مصطفى هناك؟’ نتساءل. ‘يجمع يرقات’ نسمع من يجيبنا. ليس أنت طبعا.
3
أركز النظر على رسومك وأحاول أن أنساك. انت ترسم لا من أجل أن تستخرج أشكالا بل من أجل أن تخفي كل شكل متاح. كل شكل يسعى إلى أن يتحرر من مادته. ما من شكل يستعصي ولكن هناك أشكالا تقسو في ظهورها. هناك ما لا يُحتمل من الأشكال. تجد أن عليك يقع واجب أن تمضي بالأشكال إلى حقائقها، إلى مغزى ظهورها، في الرمق الأخير من شعورها بالاكتمال. فأنت في الواقع لا تنشىء شكلا لكي تهدمه في ما بعد. لا تعلب شكلا لكي تخفيه عن أنظارنا. لا وجود لمفهوم الصلابة في عالمك. كل شيء يسيل ذاهبا إلى أصله. يكون الرسم بهذا المعنى محاولة تصويرية تهدف إلى التماهي مع المادة في ارقى حالات صفائها. إنصات لهذيان سابق لكل حضور خليقي. هناك من يرسم ولكن ذلك لا يعني ان هناك ما يُرسم. تتيح لي تلك الفكرة الاسترسال في تفكيك دواعي شقائك وسعادتك على حد سواء وبالقوة نفسها. المرآة التي ما إن تنقلب حتى تكشف عن الجانب الآخر من كينونتك. وأنت في الحالين لا تفرط في يأسك أو في نشوتك. ذلك لأنك تعرف أن مزاج الرسم لا يثبت على حال بعينها. هناك أوهام بصرية يمكنها أن ترقى إلى مستوى الحقيقة. كذلك الوهم الذي يجعلك تستيقظ على نداء شخص آخر يدعوك إلى الرسم بيده فترسم كما لو كنت شخصا آخر. فهل يحق لك التنصل عن مسؤولية ما رسمت يدك التي هي في الوقت نفسه يد ذلك الشخص؟ تلهمك مادة الحياة عزيمة أن تولج خيالك في مخيلة ذلك الصانع الذي يسبقك إلى الرسم، قرينك الذي يعمل أثناء نومك. تعزز رسومك الشعور بان مخيلة الرسم لا تكف عن العمل أثناء عمل الرسام، وهي مخيلة يعتمد عملها لديك على المزج بين عالمي اليقظة والنوم. تلك المادة التي تسيل يمكنها أن لا تكون مرئية دائما، ويمكنها أن تشف عما يتوارى خلفها. كما لو أن الرسم يقيم في مادته وأنت تسعى جاهدا إلى تخليصه منها.
4
أعود اليك وإلى لقائنا في سُدرتاليا. غريبين، منفيين، هامشيين كنا. أنت قبل رسومك. لو أنني عدت إلى بلدتي قبل أن أرى رسومك لما تنازلت عن حقي في القول انني التقيت رساما. لم تتكلم عن الرسم كثيرا لكن شيئا في سلوكك كان يشي بسيرتك: صياد كائنات خفية ويدا تلوح بفرشاة وهمية. كدت أقول جامع فراشات وقاطف كروم. ذلك أن المرء لا يخطىء بصريا حين يرى فراشات وهمية تحط على كتفيك وعنقود عنب بين شفتيك. اسوأ ما يمكن أن تفعله الرسوم حين تخفي رسامها. ولكنك لا تتفادى رسومك. لا يخيفك ما يمكن أن تفعله بك. لن تقوى تلك الرسوم إلا على التشبه بك. بشغبك الروحي وأنت لا تلتفت إليها. لقد حاولت أن التقط لك صورة معها لكني فشلت. فما كنتَ تقف قريبا منها إلا بعد طلب. كنت تتحاشى الاستغراق عميقا في المكابدة. تعرف أن ما ينقص رسومك ينقصك. الصدمة عينها. الشعور عينه. الفقدان بعينين فارغتين. ولأن الموسيقى التي تسيل هناك على سطح اللوحة إنما تنبعث من أعماقك في لحظة انسجام كوني فما كان في إمكانك أن تقوى على تحمل سحر سيكون له أثر مضاعف. الرسوم تذهب. مثل الأماكن والأبخرة والصور وبطاقات البريد والمسافرين والامواج والنظرات والدموع والأكف في نهاية الرحلة والدخان والضحكات والثلوج الفنلندية. شيء واحد يظل يشق طريقه إليك من غير أن يصل. من غير أن تستطيع أن توقف تقدمه. تحرص على أن لا تسميه وتحرص رسومك على أن لا تخاطبه إلا خفية وبخشوع. تقتفي أثره من غير أن تجرؤ على النظر في عينيه. شيء يذهب منك إليها ويعود إليك منها ليرتد ثانية إليها مثل هواء مشحون بالرسائل في حرب عاطفية لا يفكر أحد في أن يضع حدا لها. ذلك الشيء الذي يحدث جرحا في فضائك هو ما ينقصك وما ينقص رسومك. ما من شيء يهزمك مثل ذلك الغصن القادم من شجرة ياسيمن. تلك الشجرة التي سقاها جدك بمياه مستلهمة من حكايات متصوفي حارته الدمشقية. وما من شيء يغوي رسومك ويخضعها لنضارته مثلما يفعل هواء ذلك الغصن الذي يعصف بزمن الرسم.

‘ شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى