من القطبية الأحادية إلى اللاقطبية الفوضوية
ثمة إجماع الآن بين المحللين على أن الحيوية الدبلوماسية الجديدة التي يشهدها الشرق الأوسط، من اتفاق الدوحة إلى مفاوضات اسطنبول، لم تكن لتحدث لولا وجود فراغ في السياسة الخارجية الأمريكية مكّن القوى الإقليمية من حرية الحركة.
وثمة إجماع آخر على أن سبب الغياب الأمريكي مزدوج: حرب العراق التي فرملت المشروع الطموح للمحافظين الجدد في إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، ودخول الإدارة الأمريكية في حال الشلل المعتادة خلال كل سنة انتخابية رئاسية.
لكن ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وهو مركز الأبحاث الذي يعتبر الصانع الأهم لكل من الرؤساء والسياسات الخارجية الأمريكية، له تفسير إضافي: حرية حركة القوى الإقليمية نبعت من تقييد حركة أمريكا، بسبب نهاية عهد القطبية الأحادية وبداية عهد ما يسميه “اللاقطبية العالمية“.
يقول: “القرن الماضي بدأ متعدد الأقطاب، ولكن بعد حربين عالميتين وعدد من النزاعات، أصبح ثنائي القطبية. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، دخل النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية (الأمريكية). أما الآن، فالنفوذ العالمي موزّع ومشتّت، الأمر الذي يشكل بداية المرحلة اللاقطبية”. وما سمات هذه اللاقطبية؟ إنها ثلاث:
– الأولى، فقدان الدولة- الأمة لاحتكارها للسلطة ولتفوقها كحجر الزاوية في النظام العالمي، بفعل التحديات التي تواجهها على الصعد كافة، من الأعلى عن طريق المنظمات المحلية والدولية، ومن الأسفل بواسطة الميليشيات والمنظمات غير الحكومية والشركات.
– الثانية، بروز عدد متزايد من اللاعبين المؤثرين إقليمياً ودولياً، مثل الصين والهند واليابان وروسيا والاتحاد الأوروبي والبرازيل وجنوب إفريقيا، ووراءهم مباشرة قوى إقليمية من الدرجة الثانية كتركيا وإيران وباكستان و”إسرائيل” والأرجنتين.. الخ.
– الثالثة، العولمة التي زادت من حجم وسرعة وأهمية التدفقات العابرة للحدود، من البريد الالكتروني إلى غازات الدفيئة والفيروسات، مروراً بالأسلحة. العولمة تدفع إلى اللاقطبية عبر مدخلين: تنفيذ العديد من التبادلات عن طريق جهات غير حكومية وخارج سيطرة الحكومات، وتعاظم قدرات هذه الجهات كالشركات المصدرة للنفط والشبكات الإرهابية والأنظمة المتطرفة.
كل هذه العوامل مجتمعة تقود إلى طاحونة اللاقطبية. وهذه الطاحونة تقود بدورها إلى الفوضى العالمية الراهنة. والحل يكمن في نظام تعددية قطبية جديد، كذاك الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر في عصر الأمير ميترنيخ.
لكن، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة ليست في وارد التخلي عن نظام القطبية الأحادية، لا الآن ولا ربما بعد عشر سنين. والسبب الرئيس هو العسكرة عالية الوتيرة للاقتصاد الأمريكي المترافقة مع انتقاله من الإنتاج إلى الخدمات، ما جعله في حاجة دائمة إلى استثمارات خارجية دائمة، وأيضاً إلى حروب دائمة. هذا أيضاً ما يجعل الخلافات الراهنة بين الجمهوريين والديمقراطيين على السياسة الخارجية، مجرد اجتهادات تتعلق بإدخال تحسينات وتنويعات على هذا النظام لا استبداله بآخر.
والحصيلة؟ إنها واضحة: الحيوية الراهنة للقوى الإقليمية في الشرق الاوسط، ليست مدخلاً إلى نظام عالمي جديد. ليس بعد. إنها مجرد تكرار روتيني لما يجري عادة حين تنهمك أمريكا بنفسها ومع نفسها في السنة الانتخابية.
لا بل أكثر: مع إدارة بوش، ثمة خطر دائم وداهم بأن تكسر أمريكا مثل هذه القاعدة التاريخية، لتخوض مغامرات كبرى جديدة قد تقود إلى حروب كبرى جديدة. وهذا نابع أساساً من الحقيقة بأن بوش وصحبه الأكثر رفضاً من غيرهم للفكرة بأن عهد القطبية الأحادية قد انتهى.
وحين لا تقتنع دولة عظمى ما بحقيقة الواقع وبضرورة التكيف معه، تكون النتيجة عادة دموية. دموية للغاية