نواقص في تسريبات ويكيليكس
ماكسميليان فورت
إن تسريب موقع ويكيليكس وثائق القوات الأميركية الخاصة بالحرب في أفغانستان في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2010، وطوفان التقارير الذي صاحب ذلك، مما نشرته الصحف الثلاث (دير شبيغل الألمانية وغارديان البريطانية ونيويورك تايمز الأميركية) بعد أن حصلت عليها قبل أشهر، لهو حدث في غاية الأهمية في عصرنا الحاضر.
وفي هذه المقالة، سأناقش بعض المشاكل الخطيرة التي تشوب تلك السجلات والطريقة التي نشرها بها ويكيليكس، بالإشارة إلى العديد من القضايا التي فشلت وسائل الإعلام الرئيسية في طرحها، والتي لم يستجوب ويكيليكس بشأنها.
فما أهم المشاكل الخطيرة التي تشوب كشف ويكيليكس الذي قد يلحق ضررا بالنوايا الكامنة وراء الكشف، وبأولئك الذين كشفت أسماؤهم في الوثائق؟ لماذا يمكن أن يكون هناك ما هو أقل مما نطمح إليه؟
عندما يتعلق الأمر بالكشف عن وحشية الجيش الأميركي والعمليات السرية في أفغانستان وباكستان، فليس هناك في حقيقة الأمر الكثير مما هو جديد في هذه السجلات, ولا ما يمكن أن ينافس التسريبات التي تقدمها وسائل الإعلام الراسخة التي تحظى بمكانة عالية جدا.
ويبدو أن ويكيليكس يعول الآن على الأفراد للتدقيق بشكل سري في آلاف الوثائق، ومن ثم نشر نتائج ذلك بعد أشهر من الآن كما يفترض خارج الصحف، وحول أحداث ربما وقعت قبل سنوات. وهذا شأن عظيم بالنسبة للمؤرخين لا للنشطاء المناهضين للحرب الذين يتعاطون مع القضايا الراهنة والفورية.
وهنا لا يوجد الكثير للتنافس مع تسريبات عمليات القتل الأميركي الجماعي للمدنيين، وانتهاك حقوق الإنسان التي كشف عنها نظام حامد كرزاي نفسه، أو المراسلون الجريئون مثل جيرومي ستاركي ومايكل هاستينغز.
ومهما يكن ما توصل إليه فلن يكون على قدر التأثير الذي أحدثته مقالة مجلة “رولينغ ستون” حول الجنرال ستانلي ماكريستال، واعترافاته بشأن الإخفاقات في هجوم منطقة مرجة، والجانب المظلم من الحرب الذي قد يجعل معظم الأميركيين يتخلون عن تأييدها لو عرفوا عنها أكثر.
يستطيع الأميركيون أن يعلموا الكثير ولكن إذا ما بذلوا بأنفسهم جهدا كبيرا، وهذا قد يبدو متوقعا على نحو كبير من مواطني الشبكة العنكبوتية، ولاسيما عندما يصرفون أنفسهم عن ملاحقة المتع على الإنترنت.
لقد افترض مدير ويكيليكس جوليان أسينج أن نواياه حسنة بما يكفي للسيطرة على الرواية التي قد تنسج حول تلك الوثائق. ولكنه قد يجد الأمر بشكل مختلف، فقد أبلغ أسينج صحيفة دير شبيغل أنه يستمتع “بسحق الأراذل”، وقال للاري كينغ من محطة سي إن إن إنه يقصد بالأراذل القوات الأميركية في أفغانستان.
المشكلة أن وسائل الإعلام جعلت بالفعل السؤال بشأن من هو “الرذيل” أكثر تعقيدا وغموضا، لإظهار الفظائع التي تزعم التقارير أنها من صنيع طالبان.
غارديان تحدثت لأول مرة عن استخدام طالبان للعبوات الناسفة، “العبوات لا تستهدف فقط القوات الأجنبية التي تقوم بالدوريات البرية والمواكب البرية، بل إنها سلاح الإرهاب العشوائي الذي يقتل ويصيب آلاف المدنيين… ويبدو أن مقاتلي طالبان مستعدون لنسف أعداد كبيرة من الناس من أجل اغتيال هدف منفرد، كاستهداف مسؤول رفيع المستوى أو رئيس شرطة”.
وتقول المقالة إن التقارير تشير إلى أن طالبان مسؤولة عن غالبية القتلى من المدنيين في أفغانستان. إننا نشك في أن بعض عناصر الرأي العام الأميركي سيستخدمون هذا النوع من المعلومات لتجديد دعوتهم لسحق طالبان، وهي الجماعة الوحيدة التي سيصفها الأبطال الأميركيون بـ”الأراذل”، وكأن قتال طالبان هو النهاية في حد ذاته، وكأنه يستحق ما يبذل لأجله من دم ومال أميركيين.
هل ثمة خيط منطقي واضح يربط بين هذه السجلات واتساع رقعة التأييد الشعبي للحركة المناوئة للحرب؟ من الواضح أن الجواب لا، فبعض التقارير الصحفية الأولى انصبت على إظهار أن جهاز المخابرات الباكستاني والجيش لا يمكن التعويل عليهما شريكا للولايات المتحدة.
هذا بالنسبة للبعض يعني الدفع نحو المزيد من القوات الأميركية السرية في باكستان، وبذلك توسع أمركة الحرب، وهو ما حدث في فيتنام.
أما الصدمة الكبيرة بالنسبة لي شخصيا، فتمثلت في مقالة غارديان “سجلات حرب أفغانستان: عمليات إيران السرية في أفغانستان”. وفقا للمقالة، فإن “إيران مشاركة في حملة سرية مكثفة لتسليح وتمويل وتدريب وتجهيز متمردي طالبان، وأمراء الحرب الأفغان تحالفوا مع القاعدة والانتحاريين لاستئصال القوات الغربية والبريطانية من أفغانستان”.
أهو ربط بين إيران والقاعدة؟ أليس هذا هو الاقتراح بالربط بين صدام حسين والقاعدة الذي استخدمته إدارة جورج بوش السابقة لنيل دعم الرأي العام بنجاح من أجل غزو العراق؟
والآن وبما أن الولايات المتحدة وأوروبا صعدتا من العقوبات على إيران إلى درجة أن الخطوات التالية قد تفضي إلى الحرب، أفلا تقدم هذه السجلات خدمة للداعين والمروجين لهذه الحرب؟
وفي الوقت الذي أكتب فيه هذه المقالة، صبت “فوكس نيوز” الموالية للحرب اهتمامها على هذا الجانب من وثائق ويكيليكس.
من خلال بحثي في هذه السجلات وبمشاركة علماء اجتماع أميركيين، خرجت بنتائج هامة، منها أن هذه السجلات ما هي إلا جزء يسير مما يمكن أن يكون لدينا، فهي غير مكتملة ومجتزأة.
هل يمكن أن يصدق أحد أن الوثائق التي حصل عليها ويكيليكس –نحو 110 آلاف- هي كل السجلات التي كتبها الجيش الأميركي خلال فترة تغطي ست سنوات من الحرب؟
إذا كان الجواب لا، فما الذي حجب؟ ولماذا سربت هذه الوثائق دون غيرها؟ وكيف لنا أن نصدر حكما ذا مصداقية على أساس هذه الوثائق دون أن نعلم ما حجب عنا؟ وماذا لو أن ما حجب عنا ربما يحدد نوعا ما أو يصيغ ما نسعى الآن لمعرفته؟
هذه السجلات كتبها مقاتلون على جانب واحد من الحرب، وهم عناصر من الجيش الأميركي أخذوا في الاعتبار الجمهور العسكري وما يتناسب مع أهدافه.
وكون هذه السجلات تقوم على أساس الشائعات والمزاعم الواهية التي لا تصمد أمام أي مراجعة على مستويات عالية من الاستخبارات العسكرية، قضية أخرى.
وهذه السجلات تفتقر إلى العمق، فهي قصيرة، وهي عبارة عن رشقات من المعلومات المقتضبة التي لا تكشف المعنى ولا تساعد على الفهم، فهي مجرد بيانات، والبيانات تبقى ميتة حتى يمنحها المحلل الحياة بإضافة القيمة لها.
وأسوأ ما يمكن أن يحدث هو وجود جماهير كبيرة تصر على أن شيئا ما صحيح لأنه ورد في هذه السجلات.
ولإضافة العمق والسياق لهذه السجلات، يتعين على المرء فحصها بدقة ومراجعة سجلات أخرى، وإجراء مقابلات مع المشاركين وفهم الأهداف العليا والروايات، فالذين يكتبون هذه التقارير ليسوا معصومين من الخطأ ولا موضوعيين.
وإذا ما فهم عدد قليل من الناس ذلك، فقد نخرج بحجج تبدو قوية واقعيا، ولكنها تفتقر إلى المنطق.
الآن كرر جوليان أسينج من مدير يكيليكس تأكيد ما قاله لدير شبيغل في مقابلة معه بأن مصدر التسريبات خضع “لعملية الحد من إلحاق الأذى” (لا نعلم ماهية تلك العملية، ولا هوية المصدر). وأضاف أسينج “نتفهم أهمية حماية المصادر السرية، ونفهم سبب أهمية حماية مصدر معين سواء كان أميركيا أو من قوات الإيساف”.
وفجأة، يعلن الشخص نفسه الذي صرح بأنه يستمتع بسحق “الأراذل”، عن قلقه بشأن حمايتهم، ولكنه لم يقل شيئا عن حماية هوية العديد من المصادر الأفغانية التي ذكرت في السجلات.
ويقول أسينج “لقد حددنا الحالات التي يمكن أن تكون فيها فرص لإصابة الأبرياء بالضرر”، ووفقا لذلك حددت السجلات وحررت. ومع ذلك لم أر أي دليل يدعم زعمه.
ففي المقام الأول، عندما يجري شخص ما تعديلا على وثيقة أصلية، يتعين عليه الإشارة في تلك الوثيقة بأن شيئا من هذا القبيل قد حدث، مثل “حذف الاسم”، أو “حذف الجزء”، أو بكل بساطة يمكن تظليل النص باللون الأسود للتدليل على أن جزءا منه قد حجب.
ثانيا، أبقيت أسماء المخبرين الأفغان على مرأى من الناس جميعا، وهذا يعرضهم لاحتمال القتل على يد طالبان، وسيكون ذلك بفضل ويكيليكس.
قال أسينج لمجلة تايم إن “مجموعاتنا –نيويورك تايمز ودير شبيغل وذي غارديان وويكيليكس- تناولت نحو ألفي تقرير بالتفاصيل”. هذه فقط ألفان من أصل نحو 92 ألفا كشف عنها. وباعترافه، خضع جزء يسير من السجلات لعملية مراجعة بالتفاصيل.
فمن شارك في عملية المراجعة؟ وهل كان أحدهم من المتخصصين الاستخباريين والعسكريين؟ وهل هناك أحد منهم ممن شاهدوا تلك الأوضاع التي وصفت في السجلات؟ وهل اشتملت عملية المراجعة على الأفغان الذين ذكرت أسماؤهم؟ وهل شملت أيا من الأفغان على الإطلاق؟
أسينج الذي لم يصل إلى أفغانستان قط، ولم يخدم في الجيش، لن يملك الخبرة والحساسية لفهم ما يشكل معلومات ضارة، خارج السياق المحلي. فماذا لو انطبق الأمر كذلك على من كان مسؤولا عن المراجعة ذات الحجم الصغير؟
إنني أتفهم الحاجة إلى حماية هوية المصادر -وهذا ما أؤيده تماما- ولكن ليست حماية هوية الذين يفترض أنهم ساعدوا ويكيليكس في عملية المراجعة. اذكروهم وأبلغونا بمؤهلاتهم، دعونا نسمع منهم.
هناك أيضا افتقار أسينج للمصداقية بشأن قضية اختياره فجأة الاعتماد على وسائل الإعلام التقليدية للكشف عن السجلات، أو أنه على أقل تقدير أخفق في تفسير الأمر بطريقة واضحة.
فعندما كشف ويكيليكس عن شريط فيديو مصور من طائرة أباتشي يظهر قتل المدنيين بالعراق “القتل غير المباشر”، فقد جرى ذلك بمنأى عن وسائل الإعلام الرئيسية.
وعلى موقع يوتيوب وحده، استقطب ذلك الشريط أكثر من سبعة ملايين مشاهد. ولا يبدو أن ويكيليكس فشل في لفت الانتباه، إذ ما تزال وسائل الإعلام الإخبارية تتحدث عن ذلك التسريب.
فلماذا إذا أصبحت وسائل الإعلام التقليدية التي انتقدها أسينج بسبب فشلها في القيام بواجبها نحو الكشف عن حقيقة حرب أفغانستان، هي الآن الوسيط الأساسي لهذه التسريبات؟
الجواب بسيط، فهذه السجلات المكتوبة هائلة، ومكتوبة بلغة خاصة، وتتطلب خبرة صحفية لاستخلاص القصص الخبرية. في حين أن الفيديو يمكن أن يشاهده أي شخص ويفهمه على الفور. أو هذا ما يعتقده البعض. ولكن ليس هناك شيء واضح المعالم بشأن الصورة البصرية، ويمكن الطعن فيها.
الاستناد للجمهور مصدرا فكرة مثالية لكنها قليلة الجدوى. بعد اختيار وسائل الإعلام الرئيسية أولا لنشر القصص الخبرية الأولى على أساس السجلات، يتحول ويكيليكس فجأة إلى قاعدة عامة أوسع لجمع الآراء والتحليلات من الجمهور. ولو كان ويكيليكس يؤمن بتلك العملية، لكان قد تفهم وقدر على نحو أفضل النطاق الواسع من الخبرة في المجتمع العالمي من المدونين، ولفهم أيضا أن القوة لكسب الاهتمام بقصة معينة يمكن أن تأتي من الأسفل بقدر ما هي من الأعلى.
من المفترض أن ويكيليكس فهم ذلك، وأنه يؤيد ذلك المبدأ، وهو ما جعل اختياره الاعتماد على وسائل الإعلام أمرا غريبا. فالجمهور ليس متجانسا، والجمهور -شأنه في ذلك شأن وسائل الإعلام التقليدية- يضم متخصصين حساسين، ودعائيين سيئين، ولا مفر من ذلك.
فعندما يتوجه المرء نحو الجمهور عليه أن يتوقع الكثير من الآراء التي تستند إلى الفهم الضعيف والتدريب غير المناسب والقراءة الانتقائية والتمنيات والرغبة في تشويه ما تتضمنه السجلات كي تتلاءم مع غايات سياسية معينة.
والنتيجة ستكون مختلطة، وهذه السجلات ستبقى محل نقاش مستمر، ولكن علينا دائما أن نتوقع المفاجآت، بما فيها السيئ منها
الجزيرة نت
التحالف الخطير