صفحات مختارة

ثلاث سلطات تلاحق المثقف

عبد الحسين شعبان
يعتبر مصطلح “المثقف” مستحدثاً في اللغة العربية من أصل كلمة “Intellectual” حيث كانت العرب لوقت قريب تستخدم مصطلح “الأديب” أو تطلق لفظة “الكاتب” على ما تقصده بالمثقف اليوم أو ما يقع في دائرته.
ارتكزت السلطة المعرفية تاريخياً على ثلاثة أطراف هي أولاً: الحاكم الذي بيده الملك ويريد من الثقافة والمثقف حماية سلطته وبسط سلطانه والانصياع لقراراته، وثانياً العالِم الذي يمثل سلطة الفقيه الديني أو رجل الدين (الوسيط، والمؤدلج لما يريده الحاكم وحلقة الوصل مع الرعية) باستثناءات المثقف أو العالِم “المنشق” الذي يمثل “سلطة” الاعتراض والممانعة، وثالثا العامّي حيث يمثل “العامة” وهم المتلقون وجمهور “الرعية” أو “المواطنون” أو “الشعب” بالمفهوم الحديث.
أما اليوم فقد اختلف الأمر كلياً فلم تعد سلطة “الكاتب” (المثقف) “الجديد” مثل سلطة الكاتب “القديم” تستمد قوتها من الدين (وإنْ كان له قوامه الخاص)، لكنه أخذ تدريجياً يؤثر في الرأي العام ويساهم في تنمية العقل والوجدان وفي تجسيد الأخلاق ونشر الأفكار، مع أن هذه المكانة تصطدم في أحيان كثيرة بدور السياسي والديني وموقعه في سلطة القرار وبخاصة في البلدان النامية، ومنها بلداننا العربية والإسلامية.
وقديماً قالت العرب إن المتأدب هو “من يعرف شيئاً عن كل شيء، ويعرف كل شيء عن شيء”. والأدب بمعناه الواسع الثقافة وهو “الأخذ من كل علم بطرف”.
إن المعنى الاجتماعي اليوم لكلمة “المثقف” يتسع ليشمل كل من اشتغل بالثقافة إبداعاً ونشاطاً بما يتضمن العاملين في حقل العلوم الطبيعية والدين والفن والفلسفة والكتابة والصحافة والتأليف وغيرها.
ويواجه مثقف اليوم وبخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ثلاث سلطات:
الأولى هي السلطة الرسمية الحاكمة، التي تحاول أن تطوّعه وتدجّنه بالإقناع أو بالاقتلاع.. بمحاربته بلقمة الخبز أو بمقص الرقيب أو بالعزل أو الاتهام أو السجن أو النفي أو بكاتم الصوت الذي يلاحقه، أي “بالقمع الفكري والأيدولوجي أو بالقمع البوليسي”. وقد استعارت بعض المعارضات وربما بالعدوى “أخلاق” الجلاد أحياناً، فسارت في طريق العزل والتهميش والإقصاء إزاء الرأي الآخر.
أما الثانية فهي السلطة التقليدية أو ما نطلق عليه الثيوقراطية الدينية، وهي وإن لعبت أدواراً إيجابية في تخريج النخب، فإنها وقفت في بعض الأحيان ضد عمليات التطوير والتحديث تحت عناوين مختلفة، فتراها تتدخل أحياناً في حرق الكتب وإباحة دم المثقف وتحريم الأفكار، لدرجة أن الحداثة والشعر الحر يصبحان “بدعة وضلالا”، فما بالك بالمسرح والموسيقى والنحت والرقص وغيرها.
وإذا كانت فترة أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قد شهدت ولادة مصلحين وتنويريين كبار أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميّل وسلامة موسى وفرح أنطوان وعلي عبد الرازق وصولاً إلى طه حسين، وخاصة بارتفاع رصيد الدعوات النهضوية، فإن انكفاء وتراجعاً شهدته الدول الوطنية -خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال- ساهم فيه إضافة إلى احتدام الصراع السياسي وشحّ الحريات، اندفاع المؤسسة الدينية أو بعض أطرافها، إما للانضواء تحت مؤسسة الدولة والعمل تحت راية الحاكم، أو للاندفاع بمعارضتها والعمل تحت راية “الإسلام السياسي”، لاسيما عبر تنظيمات دينية بمبررات اتهامها بعدم الالتزام بتعاليم الشريعة الإسلامية والخروج على الدين، وهو ما يسوّغ لها أعمال الإرهاب والعنف.
ويصبح كتاب مثل “ألف ليلة وليلة” أو “رباعيات الخيام” أو “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ أقرب إلى الزندقة، ويتم اغتيال الشيخ الجليل حسين مروة والمفكر المبدع مهدي عامل والباحث فرج فوده ويلاحق نصر حامد أبو زيد ويقاضى بتفريق زوجته -بما يسمّى بالحِسبة- باسم الدين، وظلّ يعيش في المنفى حتى رحيله، وتثار فتنة في القاهرة ضد حيدر حيدر وروايته “وليمة لأعشاب البحر” رغم مرور 17 عاماً على صدورها، وكذلك أثيرت حملة دعائية ضد الفنان اللبناني مارسيل خليفة بحجة تجاوزه على “المقدسات”.

كل ذلك يجري باسم الدين في حين أن غاية كل دين هي الإنسان الحر، وذلك بعيداً عن أصابع المفسرين والمؤولين الذين يدّعون أنهم وكلاء الله، ويتم تدمير العقل ونعمة التفكير وهو موهبة ربانية ميز بها “الباري” الإنسان عن سائر المخلوقات، بل الثقافة كقيمة عليا تزيد من إنسانية الإنسان، فالإنسان جوهر كل دين وهدفه الذي يتجلى بالرحمة والغفران والتسامح والصفح والتآزر والحوار “.. وجادلهم بالتي هي أحسن..” (سورة النحل: 125).
إن مثل تلك الإجراءات والتنظيرات والمواقف المتشنجة التي تتعكز على الدين، لا يجمعها جامع مع الدين الإسلامي أو المسيحي أو أي دين آخر. ولا يمكن أن يجتمع الدين بما فيه من مُثل وقيم إنسانية، بالتصفية الجسدية بسبب الاختلاف في الرأي والتحريم للأفكار والآراء.
وفي الوقت الذي ينبري بعض رجال الدين المتطرفين والمتعصبين والغلاة برفع أصبع الاتهام إزاء أي رأي حر أو عمل إبداعي يفسرونه على طريقتهم “الظلامية”، تراهم يسكتون حين يُنتهك تراث العرب والمسلمين وتداس كراماتهم كل يوم وكل ساعة على مرأى ومسمع من السلطة التقليدية، سواءً بالاحتلال أو بالتبعية أو السجون أو الحصار أو الجوع أو الأمية أو التخلف أو تبديد ونهب المال العام، أو كل ذلك، ولا يتم تحريك ساكن “ضد سلطان جائر”!
وهل تكفي بعض أصوات الاحتجاج الخافتة إزاء استمرار الانتهاكات الصارخة والسافرة ضد الشعب العربي الفلسطيني أو العدوان الإسرائيلي ضد لبنان عام 2006 أو حصار غزة الذي يستمر منذ أكثر من أربع سنوات والحرب المفتوحة ضدها أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009، وكذلك ما تقوم به القوات المحتلة في العراق من أعمال وحشية منذ العام 2003، في حين تستثار “الغيرة” ويشمّر البعض عن ساعده إزاء نص إبداعي قابل للتفسير والتأويل وفق قراءات متعددة ومختلفة، أو اتخاذ موقف من النقاب في فرنسا أو الاستفتاء على الترخيص لبناء جامع أو تشييد منارة في سويسرا، الأمر الذي يعكس إزدواجية وعدم توازن بين قضايا أساسية وذات أولوية تتعلق بالوجود وبالإنسان وقضايا أخرى رغم أهميتها.
إن الذين يدّعون اليوم أنهم يسيرون على هدي السلف يتخذون مواقف متطرفة، بل مفرطة في الغلو والتعصب ولا يجمعها جامع مع الإسلام، بل ومع أطروحات السلف الذين كانوا أكثر انفتاحاً وتسامحاً وقبولاً لحرية الرأي والتعبير، لاسيما في العهود الإسلامية الأولى!!
أما السلطة الثالثة فهي قوة العادات والتقاليد وسكونية المجتمع، وتدخل فيها اندفاعات الغوغاء كعنصر ضاغط تستخدمه السلطات أحياناً -إضافة إلى الثيوقراطية الدينية- ضد حرية التعبير وحرية التفكير، وغالباً ما يستجيب المجتمع لما اعتاد عليه وما دلّ عليه تواتر الاستعمال من موروث وعادات وتقاليد. أما تأمّل الفكر وأجواؤه الرحبة والسير في دروبه المتعددة ومنعرجاته الكثيرة، فتراها بعيدة عن “العقل السائد” الذي يصبح كل جديد صادماً له، فضلاً عن المعوّقات والعراقيل التي يساهم التخلف في تعميمها كقاعدة، ويصبح التغيير والتجديد استثناءً.
إن العادات والتقاليد الموروثة التي عفا عليها الزمن، تشكل أحياناً عائقاً أمام تقدم المجتمع، خصوصاً إذا تم توظيفها سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً بحيث تصبح حجر عثرة أمام التغيير، بل سلطة كابحة لكل جديد ومعرقلاً بوجه كل تقدم، ولا يختلف في ذلك إن كان “الموروث” دينياً أو طائفياً أو عشائرياً أو اجتماعياً أو غير ذلك، حيث يكون الجامع والمشترك له هو الوقوف ضد التقدم والتغيير.
إن الثقافة بمفهومها الواسع تشمل أنواع وأشكال المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقيم والعادات والتقاليد ونمط العيش والسلوك، في حين يقصرها البعض على مفهوم ضيق يشمل الإنتاج الفكري والإبداعي بشكل عام.
وبقدر ارتباط الثقافة بالحياة تعبّر وتعكس درجة التقدم المادي، الاقتصادي والاجتماعي والتقني والعلمي، إضافة إلى اللغة والدين والفلسفة والفنون والآداب والمأكل والمشرب والأزياء والعمران.
وفي ثقافتنا فإن مكوناتها تستند إلى اللغة والدين والتراث بكل ما تحمله من مركبات، وتشكل قاعدة للهوية الثقافية بانفتاحها وتعدديتها وتفاعلها مع الغير وتأثرها وتأثيرها به، لا بانغلاقها وجمودها وعزلتها.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى