في واقع الحريات الدينية في العالم العربي والإسلامي
أكرم شلغين
ربما يؤثِر بعضنا تحاشي الخوض في موضوع واقع الحرية الدينية في العالمين العربي والإسلامي نظراً لما له من حساسية في هذه المجتمعات التي أخذت في السنوات الأخيرة تميل عموماً، أكثر من ذي قبل، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، نحو الراديكالية الدينية، حيث يبدو الاقتراب منه سباحة بعكس التيار ومجازفة قد تحتمل سوء الفهم لأن قلائل في العالمين العربي والإسلامي من يقدّرون انتقادهم إيجابياً ويفهمونه بالشكل الذي يعلمنا إياه عظماء التاريخ عن حقيقة أن نقادنا هم أصدقاؤنا ومن ينتقدنا فإنما يدلنا على ما نعجز عن رؤيته بأنفسنا، إلا أن ما للأمر من أهمية بالغة يتطلب المسؤولية العالية في تناوله وتوصيفه بموضوعية ومعالجته بشفافية، وذلك لأن واقع الحرية الدينية في العالم العربي، والذي يندرج، مثل بقية الحريات، تحت عنوان عام لحقوق الإنسان، هو جزء مما يعيشه العالم العربي والإسلامي من أزمة فكرية منهِكة ليس فقط بما تتجلى فيه من تغييب أو استلاب للحريات، بل أيضاً وبما ينجم عنها من آثار هدامة في بنية مجتمعاته وهي الأخطر.
بالرغم من أن الموضوع المطروح يشمل الحرية الدينية للجميع، على قدر المساواة ودون تمييز، إلا أن المقصود بالحرية الدينية في العالم العربي والإسلامي ليس حصراً أو تحديداً حق ممارسة العبادة للمسلمين الذين يشكلون عددياً الأكثرية السكانية في معظم البلدان العربية، فهؤلاء، وبحكم التركيب الاجتماعي الديني للدول العربية والمسلمة، يمارسون عبادتهم بالشكل السائد دون عوائق أو عقبات، ولا تعتمرهم نفس الهموم الاجتماعية التي تؤرق أبناء المجموعات الدينية الأخرى الأقل عدداً والتي من المفترض ـ إن لم نقل البديهي ـ أن تكون جزءاً من التكوين والنسيج الاجتماعي لهذه البلدان. بعبارة أخرى، هناك دفع نحو الإشكالية في اعتبار ممارسة المسلمين لطقوسهم وعبادتهم وإقامتهم لشعائرهم الدينية في هذه الحالات أو إدراجها تحت عنوان ممارسة الحرية الدينية لأنهم، وببساطة، يشكلون الأكثرية العددية وهذا ما ينبغي ألا نخفق في التنبه والالتفات إليه، وأما ما يجب التركيز عليه حقاَ فهو موضوع الحرية الدينية لمن يعيش إلى جانب المسلمين في المجتمعات العربية من أتباع الأديان الأخرى وكذلك الأقليات المذهبية ضمن تلوين الدين الإسلامي نفسه، ودراسة واقعهم وحقيقة ممارساتهم لعباداتهم ومساواتهم ومراعاتهم والنظر بجدية لما يقلقهم ولما يتهددهم ويضطرهم إلى هجرة أوطانهم وأوطان آبائهم وأجدادهم. فهؤلاء من يتعرضون لاضطهاد مضاعف مرة لحقيقة كونهم يتجاورون مع من يصنفهم بـ”الآخر” دينياً وأخرى لأن “الآخر الديني” يصبح الآخر السياسي. ففي المجتمعات العربية التي نتحدث عنها نجد أن الدين قد أصبح مسيّساَ حيث استبدلت القضايا الروحانية الصرفة، والتي يفترض أن تشكل أسس الدين مضفية سمة مثالية لمعتنقيه، بهواجس مادية الطبيعة تلغي روح التسامح والاعتراف والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع أياَ كان منشؤها أو نوعها وتثير الفتن فتطفو بتجليات اجتماعية، سياسية واقتصادية شتى. لقد غدا أمراً واقعاً في البلدان العربية والمسلمة عموماً أن يدفع أبناء الأقليات الدينية ضريبة ما يحمله المناخ السياسي العالمي. وأما العبارات التاريخية التي تحكي عن الإسلام والمحبة والتعاون وأن الإسلام جاء لا ليلغي الأديان الأخرى بل ليتممها فتغيب ليحل محلها عرف، يسوّد له تدريجياً، أساسه التكفير والتحريم والتخوين وبالتالي الاضطهاد والتمييز (سنعود لاحقاً لذلك).
من بين ما يثير الانتباه في المجتمعات العربية المسلمة هو الانغلاق في التعامل مع أتباع الأديان الأخرى والحرص على عدم الخسارة العددية للمسلمين، كمثال تقييد حق الفرد الذي ولد لأبوين مسلمين ومنعه من حرية اختيار الدين الذي يريد أو أن يكون لا دينياً، ولو حاول الفرد المصنّف بالمسلم اعتناق ديانة أخرى غير الإسلام فإنه يعامل كمرتد “يجوز” تنفيذ حكم “الشرع” به ومعاقبته بــ”القتل” (مقابل ذلك يهلل المسلمون عندما يتحول المسيحي أو اليهودي إلى الإسلام في بلد على وجه الأرض). وقد أثار هذا الأمر جدلاً قبل حوالي عامين بين مجموعة مثقفين عرب أبدوا برأيهم حين أثار قرار فرد مسلم عربي باعتناق الديانة المسيحية حفيظة الغالبية فجاءت معظم هذه الكتابات خجولة في مسألة تحديها للعرف الاجتماعي والديني، في حين أن الكثير من المثقفين الديمقراطيين العرب امتنعوا عن الإدلاء بدلوهم في موضوع ساخن كهذا.
من مظاهر الخلل في التعامل مع الأقليات الدينية غير المسلمة في المجتمعات العربية مسألة حرمان أتباع الأديان الأخرى من بعض الحقوق التي تتبع للحريات الشخصية والمدنية، فعلى سبيل المثال لا الحصر مسألة منع زواج الذكر المسيحي من امرأة مسلمة ما لم يتخلى عن دينه ويعتنق الإسلام (في حين أن العكس، أي زواج المسلم من المسيحية، لا يجادل أحد به لأن هناك اعتقاد مبطن أن الذرية ستتبع حكماً لدين الوالد). يضاف إلى ذلك منع بناء بيوت عبادة لأتباع الأديان الأخرى ضمن معظم البلدان التي يتدين سكانها بالإسلام، فبناء كنيسة يتطلب نضالات شاقة ليست دائماً مثمرة، ناهيك عن أن مسألة السماح بالتبشير في البلدان المسلمة تبقى من المحرمات التي تعاقب عليها السلطات وخاصة في المملكة السعودية حيث الوهابية تعتبر أن في ذلك تعد سافر عليها (مع العلم أن السعودية تنفق الكثير على بناء مساجد في مناطق عديدة من العالم).
لا تقتصر مسألة التمييز الديني على في البلدان العربية والمسلمة على أتباع الأديان الأخرى بل ـ وكما أسلفنا ـ على أتباع المذاهب المختلفة ضمن نفس الدين الإسلامي. في السعودية نجد أن الأدبيات الدينية، بالإضافة إلى موقفها المتطرف من الأديان الأخرى، فإنها تدعو إلى التميز ضد كل مغاير ضمن الإسلام نفسه فتكفر الشيعة والإسماعيلية والدروز والنصيرية وينعكس موقفها المتشنج على المعاملة للشيعة السعوديين، سكان المنطقة الشرقية من المملكة، حيث تضيق الحكومة عليهم وتميز ضدهم ليس فقط في عدم تعيينهم في المراكز الإدارية بمؤسسات الدولة بل وفي حصولهم على الوظائف. والنهج الانتهاكي تتعرض له الأقليات الدينية والمذهبية في معظم الدول العربية ودول العالم الإسلامي (كما يحصل في اليمن، السودان، مصر، العراق، إيران، أفغانستان، باكستان، وماليزيا ـ التي أفتت، في وقت ليس بالبعيد، بعدم السماح للمسيحيين باستخدام كلمة الله في صلواتهم. ومن المعروف أن الحكومات والأكثرية الدينية، على حد سواء، تبحث في كثير من الأحيان عمن تُسقط تقهقراتها السياسية عليهم فتنخرط في انتهاكات جسيمة ضد الأقليات الدينية والمذهبية معتبرة إياهم طابوراً خامساً وعدواً داخلياً، وبسبب ما يحصل من اضطهاد ضد تلك الأقليات وتهديد لها تضطر مرغمة إلى تغيير دينها أو الهجرة لمكان آمن بالنسبة لها، بالرغم مما تعنيه هجرة هؤلاء من خسارة للبلدان الأصلية على المدى البعيد، ولا يوجد شح في الأمثلة عن نزوح الأقليات التي تتعرض للإضطهاد كما يحصل لمسيحيي العراق وأقباط مصر وما ترشح به الأخبار بين الفينة والأخرى عن اضطرار أقلية دينية ما للهجرة بعد أن تتعرض للتهديد من قبل جماعات إسلامية متطرفة.
حيال واقع كهذا يبدو أن الترويج لثقافة التسامح واحترام الآخر ومعتقداته وأفكاره، والعمل بمبدأ “عش ودع غيرك يعيش” ليست فقط ستجد صعوبة في الوصول إلى الآذان، بل يبدو أن التفكير بمجتمعات مدنية حداثية، انطلاقاً من غياب أو بؤس أحد أوجه الحريات، قد أصبح حلماً يحتاج تحقيقه ـ بالمختصرـ للكثير من الجهد المضني للمعنيين ويمر عبر بوابات كثيرة تربوية وسياسية واقتصادية.
الحوار المتمدن