عن الاحتباس والمعارضة والفرص السياسية
موفق نيربية *
هنالك حالة احتباس سياسي في المجتمعات العربية أعيت الباحثين فيها، وعمّقت الإحباط وجعلته حالة عامة ومهيمنة. ولم يعد كافياً الاحتجاج بأن السلطات باستبدادها تغلق الطريق على المشاركة السياسية أو «تلغي السياسة» وتعمّم الخوف بسياساتها الأمنية واستقرار دعمها الخارجي، على رغم صحة ذلك.
لا بدّ من البحث في عقم المعارضة الموجودة وتأخرها وعجزها عن اختراق الحاجز. فذلك لا يرجع إلى بنيتها العتيقة وعقليتها وتعلقها ببرامج شكلانية تتأسس على الهوى الموروث أحياناً وحسب، بل على عوامل أخرى، منها موهبة تضييع الفرص السياسية.
ولتفكيك هذه المعضلة، لا بدّ من تكرار المحاولة من جهات عديدة، فيما يأتي إحداها.
نظرية الفرصة السياسية، وتُعرَف أحياناً باسم نظرية العملية السياسية، هي إحدى نظريات الحركات الاجتماعية على أساس علم الاجتماع السياسي، تبحث في كون هذه الحركات تتأثر في شكل واسع بالفرص والمناسبات السياسية المتاحة – ومن خارجها غالباً.
تقول النظرية إن هنالك ثلاثة مركبات حيوية لتشكيل الحركة: وعي العصيان والقوة التنظيمية والفرص السياسية. يعود وعي العصيان إلى أفكار الحرمان والمظالم. ومضمونها أن شعوراً بالجور والتهميش يشمل أفراداً وشرائح في المجتمع، أو أن النظام القائم لا يعدل بين الناس. وتتوافق القوة التنظيمية مع نظرية أخرى لتحريك الموارد (الجماهير؟)، لتجادل بأنه لتنظيم قوة فعل اجتماعية لا بدّ من وجود قيادة صلبة تعرف ما تريد وطريقة تحقيقه، مع موارد بشرية ذات طاقة ودينامية كافية. كما ترجع الفرصة السياسية إلى مدى تقبل النظام السياسي القائم لوجود المعارضة وتشريع نشاطها عند خضوعه لمقتضيات التكيّف والتطور المتجانس تدريجاً مع العالم والحاجة إليه، أو هشاشة هذا النظام في أحوال أخرى. هذه الهشاشة قد تكون نتيجة لواحد أو أكثر من الأسباب: تطور التعددية السياسية بفعل عوامل مختلفة بين حالة وأخرى، أو تراجع مفاعيل الاضطهاد لارتفاع «روح الأمة» وتراكم الشعور الجَمعي فيها، أو تشرذم النخب السائدة وانقسامها وتباعد مصالحها وبرامجها أو حتى قيمها، أو توسيع مداخل المشاركة في عمل المؤسسات القائمة في حقل العمليات السياسية، أو دعم المعارضة المنظمة من قبل النخب الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
تدعم النظرية أيضاً فكرة كون دينامية النشطاء تعتمد على وجود أو انعدام فرصة سياسية نوعية. لكن البعض يؤكد أيضاً على «أن أبعاد الحراك السياسي الدؤوب – من دون أن يكون بالضرورة منهجياً أو متواصلاً – الذي يشجع الناس على الانخراط في سياسة الاحتجاج» لها تأثيرها المتبادل مع الفرصة السياسية ونضوجها. وبالانسجام مع منظّري تحريك «الموارد البشرية» الذين يعملون في الحقل ذاته، يؤكد كتّاب نظرية الفرصة السياسية على الدفع نحو تحريك الموارد المذكورة من الخارج إلى قلب الحركة. كما لا يختار النشطاء أهدافهم عشوائياً، لأن المسارات السياسية هي التي تفرض متابعة مظالم معينة تلتف حولها وتأتلف تلك الحركات. وهذا لا يعني أنه لن يحدث أحياناً أن يكون «النشاط» بحدّ ذاته فرصة سياسية ينبغي اقتناصها، للبناء عليها في «حركة» أكبر فيما بعد، أو لتسخيف اعتماد السلطة على فكرة غياب المجتمع إطلاقاً.
إطلاق كلمة البنية أو الهيكل المتكامل على الفرص السياسية – كما يحدث لدى بعض الباحثين – قد يكون ملتبساً، مع أن معظمها يُبنى على القبول العام، وهي ظرفية إلى حد كبير، وتتفاقم شروطها وتتوالد بطريقة ليست مفهومة دائماً، أو أنها لا تنطبق على مخططات جاهزة. الفرصة السياسية مائعة مطاطة وماكرة، ويمكن أن تحدث خلال أيام أو عقود. وتلعب العوامل الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للسكان دوراً في خلق «بنية» نوعية يمكن اللاعبين ضمن الحقل أن يربحوا ويستفيدوا منها، أو يخسروا ويفقدوا الفرصة، على ما اعتادت نخبنا في السلطة والمعارضة معاً.
يتساءل باحث غربي عن سبب شمول اضطرابات الستينات لمدن أكثر من غيرها في الولايات المتحدة، ويلاحظ أن ذلك حدث في مدن وولايات تضيق فيها فتحات الحرية والمشاركة السياسية الاجتماعية للمظلومين. فغياب إمكانية التعبير الشرعية قد يجعل من الشغب وسيلة التعبير الأكثر احتمالاً. ومن ذلك يمكن اشتقاق تحذير لأنظمتنا من الاستمرار في إغلاق المداخل على الناس والنشطاء والمعارضة، التي قد تكون نفسها مخارج من الأزمة والاحتمالات الأكثر خطراً.
لاحظ باحث آخر في مراجعاته للنظرية أن السياق الأوسع أو المنفتح يمكن أن يؤثر في تحريك الناس، وتقديم مطالب على أخرى، وتأسيس تحالفات باتجاه أكثر من غيره، وتفضيل تكتيكات وآليات مختلفة، والتفاعل مع السياسة أو السياسات الرسمية بدلاً من رفضها الحادّ والمجرّد.
من فوائد النظرية تعاملها مع توقيت أو ظهور الحركات الاجتماعية. وبعض الحركات تنطلق من وعي العصيان وحده لتبدأ بالحراك، أو توفّر الجماعات الجاهزة للغضب والتحرك، أو ظهور الفرصة السياسية ووضوح معالمها. لكن ذلك غير صحيح، فالعوامل الثلاثة ينبغي أن تجتمع معاً، مع وجود قيادة ذات كفاءة وتماسك معقولين، قادرة على الحزم في المواقف، والمرونة في التحالفات، والجاهزية للتقدم أو التراجع في اللحظة المناسبة.
إضافة إلى ذلك، لا بدّ من أن توجد مستويات معينة من الاحتجاج الثقافي وثقافة الاحتجاج إن جاز التعبير على هذا الشكل. والمقصود بالاحتجاج الثقافي هو قدرة النشطاء أو المعارضة على البحث والدراسة في العمق، ليس لتبرير وتفسير تخلّف النظام وظلمه وحسب كما يحدث غالباً، بل للتوسع معرفياً في جميع الجوانب التي تتعلق بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية وغيرها، بموضوعية أقرب إلى الحيادية، لا تخشى أن تقدّم معلوماتٍ واستنتاجات قد تخدم النظام ذاته أحياناً. هنا يمكن أن تلعب الأيديولوجيا دوراً في تشكيل عقل من يدّعون انتهاءهم منها.
أما ثقافة الاحتجاج في المجتمع، وهي عامل رئيس يضيف شيئاً جديداً على تعقيد مسألة الحراك الاجتماعي السياسي، فلا يمكن أن تتبلور في بلادٍ عاشت على الخنوع الشرقي قروناً وقروناً، إلّا بالمِران والتدرّب والاحتكاك، من دون تعالٍ وعدمية وهروبٍ سريع، لا يجدر بالمهتم بالشأن العام أن يكون لديه شيء منها، على رغم صعوبة ذلك عملياً في أوضاعٍ معقدة وراكدة كأوضاعنا.
عكس الفرصة السياسية هو الانغلاق أو الاحتباس السياسي، وهو ما تضغط طبقاته الكثيفة على صدر النشطاء والمعارضين والمثقفين العرب، وفي شكل متفاوت هنا وهناك. وإذا كان للحالة أن تتغير، فلا بدّ من انتفاضة كاملة، يتقاعد فيها كثيرون في مكاتبهم ومكتباتهم، ويعيد الجميع النظر فيما يمكن فعله. فقد شاخت الأنظمة كثيراً، وشاخت معها المعارضة أيضاً، ولم يعد الأمل وحده مجدياً، كما اليأس.
* كاتب سوري
الحياة