قراءة في العنف البوليسي في فرنسا
هيثم مناع
لم يخطر على بال بيير أن مشاركته في مظاهرة مرخص لها في مدينة نانت الفرنسية ستكون سببا في خسارة عينه اليمنى مدى الحياة من رصاصة مطاطية أطلقها عنصر أمن ملثم.
رئيسة منظمة موريتانية لحقوق الإنسان تحاول التدخل على متن طائرة الترانزيت التي استقلتها لوقف إهانة شخص مبعد، فإذا بها موضوع توقيف وإهانة هي الأخرى، إذ تم إنزالها وتفتيشها جسديا ثم من جديد، في زنزانة اقتيدت لها تمت تعريتها من ملابسها مع طلب أن تبعد قدميها لفحص مهبلي لمعرفة هل كانت تخبئ شيئا.
كانت تحمل طفلها على ظهرها عندما سحلها البوليس أمام أعين من حولها ليرى الجميع الطفل يتدحرج كالكرة دون أي رد فعل إنساني من عناصر الشرطة المشاركين في عملية إبعاد وحشية تصدم صورها كل من يشعر بمشاركة الضحية سمة الإنسانية.
أكثر من عشرين مراجعا من الجنسين استقبلتهم في عشر سنوات تعرضوا لتوقيف وصل أقصاه إلى 153 يوما خارج القضاء، التعرض لضربات على الأنف وكامل الوجه والرأس، رفس بالأقدام، كلمات مؤذية لا تخلو من نبرة عنصرية (عربي جانح، أسود قذر، مومس كبيرة..).
وعندما أتابع تقارير المنظمات غير الحكومية وبين الحكومية أكتشف حالات جديدة لم أسمع بها أو مرت عرضا في وسائل الإعلام.
يكاد المرء يظن أن هذه التجاوزات والانتهاكات لا تصيب إلا العامة فإذا به أمام بطلة أولمبية فرنسية نالت عدة ميداليات أو محام معروف أو ناشط بارز في العمل الجمعياتي أو طالب متفوق.
وما يثير الحنق أننا في كل مرة نعتقد بأن هذا الحادث الذي تعرضت له صحفية من القناة الثالثة أو شخصية مدنية معروفة أو رياضية مشهورة ستقوم بعده لجنة تحقيق مستقلة أو تحرك برلماني أو إدانة سياسية صارمة توقف التدهور. فتكون المفاجأة أن الأمور من أسوأ إلى أسوأ، وأن من يدافع عن الوحشية يرفع أسهمه السياسية ومن يطالب بالحزم والتشدد البوليسي يصبح أكثر شعبية.
فهل هي أزمة عابرة أم خطر كبير على سلامة الحقوق الأساسية في بلد يطلق على نفسه اسم موطن حقوق الإنسان؟
لا يمكن فهم تصاعد ظاهرة التوحش البوليسي في أوروبا عامة وفي فرنسا بشكل خاص، دون متابعة الاهتزازات المركزية التي نالت صلب العلاقة بين اقتصاد السوق المعولم والدولة القومية المضطربة وحركة البشر من المحيط المتسارع في فقره إلى المركز المتخم بغناه.
لكن السؤال المركزي الذي طرحه العديد من نقّاد الديمقراطية الغربية مبكرا هو هل تخلصت الدولة من مفهوم الضرورة الأمنية وانعكاساته على سلوك المؤسسات الأمنية في الغرب؟ ألم تثبت أوقات الأزمة أن النواة الصلبة للحقوق يمكن أن تصبح موضوع نقاش في أكثر البلدان الأوروبية عراقة؟
وهل تثق الحكومات الديمقراطية الأوروبية اليوم بخيارات حضارية مثل تعزيز مفهوم الأمن الإنساني أو ضرورة حماية الحقوق والحريات المضمونة في النظام الأوروبي لحقوق الإنسان كوسيلة تقدم وازدهار أوروبيين؟
لا شك أن المثال الفرنسي يعطي صورة مصغرة عن التداخل بين دولة القانون وأمن الدولة، والمصلحة القومية ومنطق الدولة مع حالة فصام معلنة بين الخطاب والممارسة يصل إلى أغلبية فعلية من الطبقة السياسية والجمهور.
إذا كانت الثورة الفرنسية قد أعلنت القطيعة مع النظام القديم، فهي لم تنجح في قطع الحبل السري مع الدولة الأمنية والحالة الاستثنائية.
فقد أصدرت الجمعية التأسيسية الفرنسية في 8 يوليو/تموز 1791 مرسوما بإعلان حالة الحصار، وبعده في 25 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام تشكيل لجنة المراقبة (التي سيصبح اسمها لجنة الأمن العام).
وستأخذ الحالة الاستثنائية شكلا أكثر تفصيلا في قانون توجيهي يعود إلى 27 أغسطس/آب 1797 ولكي يترك كل منعطف في تاريخ فرنسا بصماته، المرسوم النابليوني بتاريخ 24/12/1811 يؤكد على مفهوم حالة الطوارئ.
وفي العقد الثاني لولادة الدستور 1814 تم إدخال مبدأ تعليقه فيما كان يسمى وقتئذ (إمبراطورية الدستور)، وذلك في المادة 14 التي تعطي الحاكم سلطة إصدار التوصيات واللوائح والأوامر الضرورية لتطبيق القانون وحماية أمن الدولة.
وفي الملحق الإضافي لدساتير الإمبراطورية (22/4/1815) تمت الإشارة إلى حالة الحصار التي يتم إعلانها بقانون.
ومنذ ذلك الحين، والتشريع الخاص بالحالة الاستثنائية ينظم الأزمات الدستورية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ورغم تعديل وسائل التدخل والمقاربة الأمنية قرابة اثنتي عشرة مرة، فقد بقي الحال على ما كان عليه.
وحتى دستور 1958 الذي يعلن فيه الشعب تمسكه بحقوق الإنسان والسيادة الوطنية، تعطي المادة 16 منه رئيس الجمهورية الحق في اتخاذ الإجراءات الاستثنائية الضرورية بعد استشارة رئيس الوزراء ورئيسي الجمعية العامة ومجلس الشيوخ ورئيس المجلس الدستوري.
إلا أنه من الملاحظ منذ عقدين من الزمن تقريبا، جنوح الحكومات المتعاقبة إلى استبدال الحالة الاستثنائية بتعميم متصاعد لمعايير استثنائية أمنية تصبح مع الوقت جزءا من آليات الضبط الأمني العادية التي تتمتع بقوة القانون بحيث تتزاوج شرعية القوة الفاعلة مع ما أسماه جاك ديريدا “قوة القانون، أو الأساس الأسطوري للسلطة” في عنوان لمحاضرة شهيرة له في نيويورك عام 1989.
إذا كانت “الحرب على الإرهاب” قد سرعت التدهور والهدم فيما تحقق في الأربعين عاما التي تلت الحرب العالمية الثانية، فإن المؤشرات العامة للتدهور قد بدأت قبلها على الأقل بعقد زمني.
فقد لاحظ تقرير حقوقي في 1991 عن العنصرية والبوليس في فرنسا تصاعد العنصرية بشكل سافر في أجهزة الأمن الفرنسية. وبدأت منظمات جديدة لمناهضة العنصرية بالتشكل منذ الثمانينيات بعد ظهور مؤشرات أساسية لتقدمها في البلاد.
ويمكن القول إن التجاوزات الأمنية قد سبقت ما يسمى في لغة وزارة الداخلية “بالتصرفات العدوانية تجاه البوليس في الأحياء الصعبة”.
ويمكن القول إن ظاهرة رهاب الأجانب قد بدأت منذ مطلع الثمانينيات وتوافقت مع إغلاق المصانع الكبيرة والمناجم والتحولات الاجتماعية الاقتصادية آنذاك، هذه التحولات التي جعلت الأتمتة (المكننة أو استخدام الآلة مكان الإنسان) العدو الأول لقوة العمل البروليتارية التقليدية.
وكما ينوه إريك هوبسباوم فقد “فشلت رأسمالية السوق الحرة المعولمة وأيديولوجيتها كل الإخفاق في تأسيس حركة دولية حرة للعمالة”، فسبقت الحرب على الهجرة السرية الحرب على الجوع، وعززت العداوة الاقتصادية للهجرة والبطالة فكرة مفادها أن حفظ النظام والأمن للمواطنين أضحى مهمة أكثر صعوبة من ذي قبل.
وأطروحة من هذا النوع لا تجعل الزيادة في حجم الشرطة وأجهزة الأمن ترتفع بشكل ملحوظ وحسب، بل تدخل مفهوم “الرهبة من البوليس” كطرف في معادلة حماية الدولة والمجتمع من الانحراف والجوائح الاجتماعية والتطرف الديني والانغلاق الإثني… إلخ.
الأمر الذي يتجسد عمليا في ارتفاع نسبة الاعتداءات البوليسية على الجماعات المستضعفة من أجانب عموما وأفارقة ومغاربة بشكل أخص، وسهولة استخدام التقنيات الجديدة في مواجهة المتظاهرين أو المعتصمين أو من يرفض ركوب طائرة الإبعاد إلى بلاده.
ومع صيرورة التعنيف البوليسي وغياب المحاسبة في منظومة أمنية متكاملة ازدادت القطيعة بين شباب الضواحي ودوريات الشرطة ويسود جو انعدام ثقة كامل يسمح بفورات كتلك التي شهدتها “أولني سو بوا” في 2005 التي أظهرت بوضوح هذه القطيعة وعلاقتها الوثيقة بالغزل البائس بين الطبقة السياسية اليمينية والعنصرية.
في خمسة أعوام فقد سبعة أشخاص النظر بإحدى العينين لضربهم بالرصاص المطاط، وقتل عدة أشخاص في ظروف ما زالت موضوع تحقيقات أبطأ من سلحفاة.
وقد بدأ القرن الجديد شاحب الوجه صارم الخيار بين الاختيار الحقوقي والاختيار الأمني حتى أصبح من المشروع اليوم طرح السؤال عن العلاقة بين المعيار والقرار أو القواعد القانونية والممارسات اليومية خاصة ونحن نشهد عملية اعتداء جماعية تنال الجسد والنفس والكرامة ونجد تفهما من قطاعات غير قليلة من الرأي العام المحلي لما يحدث.
يمكن القول إن ناقوس الخطر قد جرى تحريكه بكل الوسائل الكلاسيكية للتعريف بالانتهاكات وشجبها واقتراح التوصيات الملائمة للخروج من هذا الهبوط الحر لعنف ووحشية تزداد يوما بعد يوم.
ففي السنوات الخمس الأخيرة أدينت فرنسا من لجنة القضاء على التمييز العنصري 2005 ومفوض حقوق الإنسان في مجلس أوروبا توماس هاماربرغ الذي أكد أن شعورا بغياب المحاسبة يسود أوساط الشرطة وقليلا من حالات العنف البوليسي يمكن أن تؤدي إلى محاسبة قانونية متناسبة مع الفعل مع سيادة نوع من عصبية التضامن في أجهزة الأمن، ولاحظ أن البوليس يسبق في أحيان كثيرة الضحايا لرفع دعوى قضائية؟
كما أدينت من لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة 2006 واللجنة الأوروبية للوقاية من التعذيب 2006 ولجنة حقوق الإنسان 2008… إلخ، إلا أننا حتى اليوم دون مستوى رد حكومي أو برلماني مناسب.
عشرات المبادرات ظهرت في الفضاء غير الحكومي وتوجت بأكثر من تحالف وشبكة لمناهضة العنف البوليسي في المجتمع الفرنسي، نذكر منها للمثال لا للحصر “اللجنة الوطنية: مواطنون، عدالة، بوليس” في يوليو/تموز 2002 من الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان ونقابة القضاة ونقابة المحامين في فرنسا، وقد أصدرت تقريرين لاحظت في الثاني 2006 أن الوضع بعد خمس سنوات قد تفاقم وأن ثمة انتشارا لإجراءات الازدراء و”حالة رضا عن النفس مبالغ فيها، وأن استماع السلطة القضائية لجانب واحد من القصة يجعل من شبه المستحيل معاقبة التجاوزات، كل هذا يؤدي إلى اختزال الشرطة في دور حارس السجن بعيدا عن أية خدمة عامة للمواطنين”.
وقد وثقت منظمة العفو الدولية للعنف البوليسي في تقريرين الأول عام 2005 “من أجل عدالة فعلية” والثاني في 2009 “فرنسا: الشرطة فوق القانون”، وقد لخص ديفد دياز جوكيس من منظمة العفو الدولية التقرير الأخير بالقول “في جو يتيح للانتهاكات التي ترتكبها الشرطة بالمرور دون وازع فإنه من غير المقبول أن يتمتع هؤلاء بما يرقى إلى حصانة ضد الملاحقة القانونية”.
وقد استنفرت الجمعيات المدافعة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع منظمات حقوق الإنسان لطرح مشكلات النبذ الاجتماعي وزيادة الفروق الطبقية وصيرورة الأجانب جماعة مخترقة الحقوق وغياب العدالة والمساواة عن السلوك البوليسي والتحقيقات، وأخيرا المشروع المؤرق لمجتمع تحت الرقابة يشمل الجميع؟
وقد تشكلت في العامين الماضيين مبادرة واسعة من الجمعيات الحقوقية والنقابات الكبرى والأحزاب اليسارية باسم “تجمع الحرية المساواة العدالة (
CLEJ)” وهو يقوم بتعبئة قومية واسعة من أجل مواجهة العنف البوليسي بمختلف أشكاله.
كذلك ولد “مرصد لأشكال العنف البوليسي غير المشروع” في عدة مناطق لرصد الانتهاكات ومتابعتها.
ويمكن القول إن المبادرة الأكثر أصالة جاءت من أوساط الهجرة نفسها، فقد ولدت شبكة “لنقاوم معا ضد العنف البوليسي والأمني” قبل خمس سنوات لتستلهم تجربة حزب الفهود السود في الستينيات في الولايات المتحدة، فكرة مراقبة البوليس وتجاوزاته.
وهذه المجموعات لها قواعد سلوكية لاحترام القانون واستعمال التقنيات الحديثة وتدريب الأشخاص على التصرف بهدوء مع البوليس، ولكنها في واقع الأمر خير معين للضحايا على تجميع الأدلة على الاعتداءات التي تقع بحقهم.
وهناك محاولات لتنظيم المساعدة القضائية للضحايا للأسف لم تنجح بعد بسبب عدم وجود اهتمام كاف للضحايا من أبناء الجاليات المسلمة والأفريقية بهذه الفكرة.
ولا شك في أن تنظيم المقاومة المدنية السلمية واستنفار الترسانة الحقوقية لمواجهة العنف البوليسي وتعزيز وعي الضحايا بحقوقهم وواجباتهم المباشرة وغير المباشرة، تشكل أفضل الأسلحة لمواجهة هذا السرطان الخطير على الديمقراطية بشكل عام والجماعات المستضعفة بشكل خاص.
الجزيرة نت