صفحات العالمميشيل كيلو

لا سـلام ولا مـن يحزنـون !

ميشيل كيلو
لا أتذكر كم مرة كتبت أو قرأت مقالات عنوانها «لا سلام ولا من يحزنون». منذ عام 1967 حتى اليوم، جعلت هذا العنوان يتصدر مقالات كثيرة كتبتها، أكدت فيها أن السلام ليس في متناول أيدينا، ليس فقط لأن العدو توسعي واستيطاني وعدواني، بل كذلك لأننا ضعفاء وعاجزون عن انتزاع حقوقنا منه بوسائل غير سلمية، في حال فشلنا في استردادها بالتفاوض والمحادثات السلمية واللقلقة الدولية .
في الفترة الطويلة، التي تفصلنا عن عام 1991، عام بدء محادثات مدريد، تفاقمت عدوانية العدو واستيطانيته وتوسعيته، وتزايد ضعف وعجز العرب مع تزايد انقساماتهم وانتقال مركز ثقل خلافاتهم وتناقضاتهم مع أعدائهم إلى داخلهم، بعد أن كان خارجيا، يتيح شيئا من وحدة المواقف وتنسيق السياسات. إذا أضفنا على ما تقدم رغبة أمـيركا في تطويع العرب من خلال الاحتلال الإسرائيلي، وما تفرضه هذه الرغبة من امتناع مقصود عن الضغط على تل أبيب، وانتقال حضورها داخل بلداننا وحولها، بعد سقوط السوفيات، إلى طور مباشر وعنيف بانت علاماته بصورة دامغة خلال السنوات القليلة الماضية، مع انفراده فوق كامل الرقعة العربية والمجاورة من بغداد إلى الصحراء الإفريقية الكبرى، مرورا باليمن والصومال والسودان، أدركنا أن الظرف الراهن غير ملائم لتحقيق السلام، وأن جهود الرئيس أوباما ليست غير جزء وحسب من طريقة أميركا في إدارة الأزمة: أزمتنا وأزمة الوجود الصهيوني في قلب وطننا والحضور الأميركي العسكري إلى بلداننا، حيث يرتطم أكثر فأكثر بأنماط غير رسمية من المقاومة، بعد أن عجز العالم الرسمي أو خاف من مواجهته.
ليس الزمن زمن سلام، بما أن أميركا تتراجع أمام تل أبيب، وهذه تندفع نحو الانخراط في نظام إقليــمي لا مكان للــعرب فيه، يضمها إلى تركيا وإيران ويكون على حسـاب أمتــنا المسكينة والمغلوبة على أمـرها، يتنـاقض دور إسرائيــلي فـيه مع قيام دولة فلسطينية، أو تراجع الصهاينة عن الاستيطان والتوسع، أو تنـازلهم عن أي جــزء من أرض فلسـطين التاريخية، التي يؤمنون أنها لهم وحــدهم، وأن من الكفر إعطاء أي جزء منها للأغراب (غويم)، أو تقاسمـها مع أي طرف فلسطيني، لأن ذلك يعد انتحارا استراتيجيا، سيطلق شرارات جديدة للصراع بدلا من أن يخمده. وكيف أو لماذا يتنازلون ويعطون، إذا كانوا يعتقدون أن الصراع على فلسطين صار إلى حد بعيد وراءهم، بحكم الضعف العربي والانقسام الفلسطيني، واتساع الاستيطان وتزايد هوة التقدم العسكري والتقني، التي تفصلهم عن جيرانهم، والهدوء السائد على جبهاتهم، ويكمل بالتخويف هنا وهناك فعل معاهدات السلام مع مصر والأردن، متيحا ظروفا لطالما سعت إسرائيل إليها، من شأن استمرارها المساعدة على تحقيق الحلم الصهيوني، بدلالة ما أنجز منه خلال السنوات القليلة الماضية: سنوات الجمر والرماد العربية/ الفلسطينية.
لا يعقل أن تتقدم إسرائيل نحو نظام إقليمي جديد مليء بتحديات مجهولة وخطرة، بينما هي تتراجع أمام نظام عربي منهار إلى الحد الذي يجعلها تعيد إليه أراض لا يسعه استردادها بأية وسيلة حربية أو سلمية. ومن غير المعقول أن تتقدم في النطاق الخارجي لوجودها بينما تتقهقر في نطاقه الداخلي: مصدر حياتها الرئيس. ثم، إذا كانت التسوية مع العالم العربي تعني اعتراف العرب ـ الصريح أو الضــمني ـ بيهودية فلسطين في مقابل رد أراضيهم المحتلة إليهم، فإن من غير المــعقول أن تمس إسرائيل بيهودية دولتها عبــر رد جزء من أرضــها الخاصة إلى فلسطينيين/ خرجوا أو هم في طريق الخروج من الصراع العسكري معها، لم يبق لهم من أسباب القوة غير تصريحات حماسية أو متحمسة لا تسمن ولا تغني، هي دليل إضافي على عجزهم وتخبطهم، وليس علامة على اقتدارهم وقوتهم.
ليس السلام مع الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين أولوية إسرائيلية، وينصب اهتمام الصهاينة اليوم على إيران، وعلى مكانهم في نظام إقليـمي يتشــكل تحت أنظارنا، بــدأت صراعاته ونزاعاته تتابع، كما تبين خلال الأحـداث والملابسات التي سبقت ورافقت قيام تركيا إرسال أســطول الــحرية إلى غزة، عندما اندفعت إسرائيل إلى تسديد ضربة عسكرية وسياسية موجعة إلى تركيا : أقرب حلفائها الإقليميين. وهي تكرس منذ بعض الوقت جل جهدهــا لإيران وقنبلــتها النووية المزعومة، وتنجح شيئا فشيئا في تعبــئة مزيد من القــوى الدولية وراء سياساتها حيالهما، بدلالة التصعيد الأميركي والفرنسي والبريطاني، الذي يأخذ أشكالا عسكرية متعاظمة، والروسي والصيني، الذي يذهب نحو أشكال تصاعدية من المقاطعة، مع ما يرافقه من «تطنيش» أميــركي عن عـروض إيران التفاوضية، والخطوات التي أعلنت طهران استعدادها للقيام بها كوقف تخصيب اليورانيوم العالي المستوى، وعزمها على تسليم معظم ما لديها من يورانيوم منخفض التخصيب، وعلى الدخول في حوار على أعلى مستوى مع أميــركا حول مسائل الخلاف بينهما، علما بأن أوباما كان قد نصــب فخا لكل من تركـيا والبرازيــل حين أوهمهما برغبته في مبادلــة اليورانيوم الإيراني بيورانيوم أوروبي (روسي وفرنسي)، ثم تنكر لالتزامه بما دونه في رسالة رسمية إلى رئيس وزراء تركيا: السيد أردوغان، الذي جعلها أساس الاتفاق مع إيران. وما ان أبلغ واشنطن بنجاحه في إقناع نجاد بما أراده أوباما، حتى بوغت بتنكر هذا للشروط التي كان قد وضعها بنفسه، وبرغبة أميركية في نقل صراعها مع طهران إلى مستوى جديد، يحتمل، بعد تشديد الحصار الاقتصادي والمقاطعة الدولية، خطوات عسكرية وضغوطا بالسلاح، يشجع عليهما تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق، واستكمال حشد بحري وجـوي غربي هو الأكبر منذ الحرب ضد العراق، يتمركز بين أوروبا وبحر العرب والخليج، وإنهاء استعدادات إسرائيل ومناوراتها تمهيدا لانخراطها في الحرب، أو في عمليات عسكرية نوعية، يمكن أن تقع في أي وقت.
هـذه التطـورات جميعـها لها معنى وحيـد: إن أمـيركا وإسرائيل ليستا اليوم في وارد سـلام مع العرب يؤدي إلى انسحاب الاحتلال من أراض يمكن استخدامها في الحرب ضد إيران. وليس بين أولياتهما، كذلك، قيام دولة فلسطينية لا يجبرهما شيء أو أحد على إقامتها في أمد قريب. يجب التأكيد على هذه الحقيقة، بما أن أميركا لم تلزم نفســها حتى اللحظة بأية حدود للدولة، ولم تقدم أي وعد لأية جهة كانت حول موعد قيامها، ولم تجعل قيامها مرجعية المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة، ولم تعلن عزمها على جعلها دولة سيدة مستـقلة، وأبقت هويتها غامضة بالقول: إنها ستكون قابلة للحياة، دون استبعاد أن تكون حياتها في ظل إسرائيل العسكري والاقتصادي القاتل!
لا سلام في الأفق، فالعدو الإسرائيلي لا يريد السلام، ولا يسعى ـ ولن يسعى بالتأكيد ـ إلى تسوية سلمية مع عرب عجزوا طيلة قرابة نصف قرن عن استعادة أراضيهم، التي هود أجزاء كبيرة منها. وللعلم، فإن نتنـياهو ورفاقه في اليمـين الحاكم يقولون جهارا نهارا، بمناسبة وبلا مناسبة: إنهم يرفضون سلاما يعيد الأرض إلى العرب، ويريدون سلاما مقابلـه الأمن: السلام لهم والأمن للعرب، فلا ارض محتلة تعاد ولا سلام مع نظم عربية لا تضمن يومها، ناهيك بغدها، ليس السلام معها مجـديا، ولا يعدو أن يكون تنازلا لا لزوم له حيالها، الخاسر الوحيد فيه إسرائيل، التي لا يوجد نظام عربي قادر على تحديها. فلماذا تكون حمقاء؟ وهل هي دولة تتوسع أم مؤسسة خيرية تقوم بأعمال البر والتقوى، وتضع مصلحة الفلسطينيين والعرب فوق مصلحتها الخاصة؟.
ليس السلام قريبا. وكلما خال العرب أنه صار قريبا، انفجر وضعهم هنا أو هناك، وبدأت دورة عـنف جديــدة في بلد أو أكثر من بلدانهم، وأخـذت تناقضاتهم طابـعا تصاعـديا كثيـرا ما يكون مباغتا. عندئذ، تنطوي صفحة السلام قولا وفعلا، بانتظار دورة جديدة تبطل فيها وقائع العنــف وعود السلام، وهكذا دواليك.
بقيت نقطة تستحق الذكر: إن إلحاح أميركا عـلى بدء المفاوضات الإسرائيلية/ الفلسطينية المباشرة، ووعودها التي تضمنتها رسالة تهديد زاجرة أرسلها أوباما إلى محــمود عباس، لا تدل على جدية مباغتة بدلت مواقف واشنطن واستراتيجيتها حيال الصراع العربي/ الإسرائيلي، بل هي ترتبط، بحسب اعتقادي، بالتصعيد ضد طهـران، الذي يعزز احتمــالات المواجهة معها ويحتم، في الوقت نفسه، تحـييد انعكاسات القضية الفلسطينية على خططها، ويستوجب إثارة الوهم بأن الحل صار في متناول اليد، أخيرا وبعد طول انتظار، فلا بأس من مفاوضات حافلة بالوعود، ريثما تتم إزالة المشكلة الإيرانية من الطريق !
ليس الوقت وقت سلام. إنه وقت التصدي لأزمة شديدة تتخطى خطورتها المنطقة العربية وجوارها، إن تم حلها كما تريد أميركا وإسرائيل صار من السهل على واشنطن لحس وعودها، دريا على عادة تكررت خلال العقد الأخير، قدمت فيها وعود قاطعة، ثم تم لحسها وطيها في عالم النسيان !

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى