ما بقي لنا أكثر مما مضى
فيديل سبيتي
كان لا بد من الوقت
كي ننظر في ما تركناه خلفنا.
ارتكاباتنا… فعلتا المصافحة والتقبيل على سبيل المثال
والغفران والاعتذار، وإمساك الأقلام للكتابة وتبادل التقريع
رفع تابوت قبل رميه في الحفرة
إهمال ذكريات الميت
والتذمر والضجر، والتبجح بأننا ولدنا من غير إرادتنا.
كي نكبر ونظن ان ما بقي لنا أكثر مما مضى
كان لا بد من الوقت كي تتجسد التفاهة
ونحار في أمور المسكنات والمهدئات والحبوب المنوّمة
…
كان لا بد من السأم
كي لا تكون الحياة عزيزة علينا
توديع أقارب مثلا
رفع توابيتهم على الأكتاف
إرضاء الحزانى منهم بأن الموت ضريبة الحياة
ثم العودة إلى أعمالنا وملابسنا وبيوتنا التي نلوذ بها من الموت
وإلى القيلولة التي تأخذنا في عالم النوم وكلما أكثرنا منه نتعايش مع الموت
ولا يمحوه الا لقاء الغرباء
الذين كلما ابتعدوا تغرّبوا
بلا سأم يصير كل جامد تحفة، إذا لم نحتسب سأم الله
السأم غطاء أسود فوق رأس مصوّر أنوار الحياة.
…
كان لا بد من الضجر
كي لا تتسلسل الأيام على مهلها، لكسر “الريتم” على سبيل المثال
لتقول ان وهمك مخطئ ورغم ذلك انت منه
ولا تهاب الرتابة والتكرار..
والشعر الذي تكتبه ابن كل هذا الضجر المبجّل
ولتظن أنك في وحدتك
والآخرين جميعا في وحدتهم
ولا تسهم الكتابة في دفع الضجر، فأقصى ما يمكنها تلوينه.
الضجر ثان بعد التنفس
في دورته المهيبة
…
كان لا بد من السخاء
لتقترب الهررة من أصابعك المرتبكة
والذباب من جلدك المسلوخ
ليكون وجهك مقبولا رغم سماكة القناع
كي لا تشعر بكفيك مضمومين
وبأنك تحتسب ان لا موت بعد الحياة
السخاء صنو الفناء
ضد الفقر وجالبه
هكذا كلما مججت سيجارة وكرعت كأسا تعرف انك سخّي في قتلك
وهكذا حين تنثر أطرافك تدب في التراب حشرات وبكتيريا وسماعات يقيس بها الأطباء طرقات القلب
السخاء متعة الثراء في غيابه
…
كان لا بد من الحب
ترى العينين فتنقرهما نورا
ترى الرقبة فتطيلها
ترى البطن فتقبلها
ترى المدينة السرية فتبحث فيها عن خليلة
ولا ترى سريرا وإلا وحبيبتك تغويك فوقه
الحب فعل البشر الأول، إيروتيك الصدمة الأولى
إدمان الصدمة يبقي الرحم طازجا حتى اليوم
إنشداد البشر إلى الطمأنينة
…
كان لا بد من الحقارة
كي نتعاون مع آخرين ظنوا انهم أصدقاء
وان بينهم وبيننا مودة
وان حياتنا متلاصقة
وكي لا تبقى اليد وسيلة القتل المتوفرة
الحقارة
لفهم الاصدقاء وتسوّلهم
“بعد ظهر نبيذ أحمر
بعد ظهر خطأ كبير”
…
كان لا بد من الضحك
كي لا يُظن ان الشفتين ملتصقتان
وان الحزن يهدّل الجفنين
وليقال ان العينين فرحتان
وان الهموم متروكة في الجوارير كما تترك الجوارب
الضحك صنعة محترفي الحياة
المنقوعين في آزوتها
رافعو زوايا شفاههم نحو خدودهم
فيما تركد فوق ظهورهم
أطنان السلاحف وبيضها
صور شاعرية عما أرادوا أن يكونوه
وما صاروا عليه
الهراء الكامل الذي يرّسبه الضحك في الدم
…
كان لا بد من الملامة
انت تقولين انت
وانا أقول انت
تلفين يديك حول رقبتي
واضع يدي في رقبتك
ثم نفلتها لنمسد قلق البارحة
والملامة راحة اليد قبل ان تصفع
سؤال جبّ القصب عن سر الماء
وتلوين العين بقوس قزح
تآلف البشر مع فكرتهم عن الأصابع
مع شعورهم باليد التي تمسد عضلات الظهر
كان لا بد من الملامة كي لا تبدو الحياة هناء بهناء
…
كان لا بد من حقيبة الظهر
ليس للانتقال
بل لتوقع الانتقال
إلى حيث السماء مرصوفة بالأرض
والأرض مرصوفة بالسماء
الانتقال في مكان الأب القديم
ولعبه مع أولاد يحبهم
…
كان لا بد من الاستعباد كي نرى أشخاصا
بألوان أخرى يسيرون بيننا
يقفون على الشرفات ويتذكرون حياتهم القديمة
ويقبلون بنا لأننا نعاملهم بأرق من العبيد
نمنحهم شفقة الحاجة إلى أشخاص جدد
وصفات الأشياء الكثيرة في منازلنا.
المستقبل