صفحات ثقافية

ميشال تورنييه: عشت أكثر مما ينبغي وأشعر بصحراء قاحلة

null
نسيب طه حسين الذي يريد أن يستقيل من لجنة جائزة غونكور
اسكندر حبش
ميشال تورنييه، واحد من أشهر الروائيين الفرنسيين المعاصرين، الذين عرفوا النجاح والشهرة منذ روايته الأولى، ليستمر في البروز لغاية اليوم، وهو في الخامسة والثمانين من عمره. مجلة «لوبوان» الفرنسية التقت عضو لجنة أكاديمية غونكور الذي يصدر كتابا جديدا، يجمع فيه رحلاته عبر الشرق والغرب في حوار شيق، تطرق فيه إلى العديد من القضايا الأدبية والفكرية. هنا ترجمة لهذا الحوار.
هل ترددت حين عرضوا عليك تخصيص كتاب كامل حول رحلاتك؟
أبدا، إنه موضوع ممتاز، فأنا أستوحي من «الخارج» بشكل كبير. هناك، بهذا الشأن، تقليد مدرسي غريب يكمن في إعطاء دروس التاريخ والجغرافيا للمدرس عينه، في حين أن لا علاقة للأمرين بعضهما ببعض. التاريخ قضية غامضة وبخاصة عبر حروبه ومجرميه، بينما الجغرافيا ليست سوى احتفاء بجمال الطبيعة. من جهة نجد جول فيرن وكتابه «رحلة حول العالم في ثمانين يوما»، ومن الجهة المقابلة هناك كل كتبة المذكرات المرعبة، الدموية.
الرحلة إذاً هي أمر أساسي لمعرفة جمال العالم؟
أجل، كما أنها نصيحة أيضا: إن كان لديكم طفل، أعطوه موطنا ثانيا، اجعلوه يسافر إلى المكان عينه في أغلب الأحيان. ليكن له موطئ قدم في انكلترا، البرتغال، الولايات المتحدة، إيطاليا… ليحفر هناك حفرته، ليكن لديه أصدقاء، في أي حال لتكن لديه ذكريات طفولة. بالنسبة إلي، أعتقد أنني محظوظ، إذ بالرغم من أصلهما العادي ـ يدعى والدي تورنييه وأمي فورنييه ـ إلا أن أهلي ربياني في جو جرماني، وهذا ما أغناني بطريقة أكيدة. تاريخيا، يبدو الأمر كارثيا إذ هناك النازية، الحرب، الهزيمة، الاحتلال، باختصار هناك الرعب. لكن ومع ذلك، كان والدي ـ الذي شارك في حرب 1914 والذي أصيب هناك ـ يتحدث بطلاقة لغة غوته، بيد أنه لم يتفوه بكلمة ألمانية منذ صعود هتلر. لكنني كنت مع اخوتي وأخواتي، نذهب لقضاء عطلتنا الصيفية في فرايبورغ، في دير للطلاب الكاثوليك. وغداة الحرب، ذهبت لتكملة دراستي في الفلسفة في توبنغن، حيث استقدمت لاحقا صديقي كلود لانزمان وذلك بفضل أمر مهمة عسكرية، إذ كانت الطريقة الوحيدة كي يستطيع البقاء. بقيت هناك أربع سنوات، وقد كلفني ذلك «الأغريغاسيون» في الفلسفة.
أنا الغريب
هل كانت الدراسة أسوأ في فرنسا؟
كانت الأفضل! عندي شكوى ضد الأغريغاسيون. كنت أملك فكرة كونية عن الفلسفة، وأنا واحد من أشخاص قليلين ممّن يملكون أعمال كنط الكاملة باللغة الألمانية، لكن في امتحان الدخول، طرح عليّ موضوع لم أفهم منه شيئا. لم يكن لديّ إذًا أيّ فرصة، فتوجب عليّ الذهاب إلى «الإيكول نورمال سوبريور»، أنا الغريب. تحتم عليّ إذاً أن أبحث عن عمل، ترجمت ألاف الصفحات من الألمانية إلى الفرنسية لمنشورات «بلون»، وبخاصة أعمال إريك ماريا ريمارك، لكن أيضا محفوظات ويلهلمستراس السرية، أي محفوظات وزارة الخارجية في برلين، التي عثر عليها الحلفاء.
شكلت ألمانيا أيضا الموضوع الأكبر الذي كنت تتناقش مع فرانسوا ميتران حوله…
أجل كنا نملك نظرة مختلفة جدا حول ألمانيا الشرقية. لقد ذهبت إلى هناك، وقد نشروا كتبي في تلك المنطقة، لم يكن بلدا تستطيع السكن فيه، إنه البؤس المنظم، بيد أنه كان يخشى ألمانيا الموحدة، وكانت ألمانيا الديموقراطية تشكل بالنسبة إليه إضعافا ما للقوة الألمانية.
أي ذكرى احتفظت بها من زياراته تلك؟
لقد ذهب إلى هناك أربع مرات خلال فترة حكمه الأولى. ذات يوم دعيت إلى احتفال 14 تموز في قصر الإليزيه، وخلال حفل الاستقبال تم تقديمي إلى ميتران الذي قال لي: «يبدو أنك تعيش في الريف القريب، حسنا، إن دعوتني إلى منزلك، فسأقوم بزيارتك» بعد شهرين، تلقيت اتصالا من سكريتاريا الإليزيه: «يسألك الرئيس إن كان يستطيع المجيء للغذاء معك في اليوم الفلاني». قلت لجارتي التي حضرت وجبة بسيطة جدا. لم أصدق الأمر حين هبطت مروحيته في حقل مجاور. وكانت هناك سيارة تنتظره قرب منزلي، كانوا رجال الشرطة.
تقول إن الرحلات كانت تغنيك، لكنها أيضا تجعلك تتعرض «لألف ميتة». هل ثمة عذاب في كل رحلة تقوم بها؟
أجل، بل أكثر من ذلك، حين نقول اليوم سفرة فهذا معناه الطائرة. في الماضي كنا نسافر بالقطار، بالباخرة، كان لدينا الوقت للعيش، بينما في الطائرة اليوم لا وقت لديك لترتبط بمعرفة ما، حتى أنك لا تأكل، لا تنظر إلى الطبيعة. ليست الطائرة سوى تابوت طائر، أنت ميت فيها ولا تعود إلى الحياة إلا حين تهبط أرضا.
البركان الإيسلندي
بهذا الخصوص، ما الذي أوحي إليك به توقف الطائرات عن العمل بسبب البركان الإيسلندي الذي كنت تمتعت بالنظر إليه في إحدى رحلاتك؟
(يضحك) شعرت بأني دخلت في عالم معروف، عالم «علم الأرصاد الجوية» الذي تجهله الطائرة. لهذا السبب نجد أن الكائن البشري الذي لديه ميل إلى العيش بعيدا عن الطبيعة، خارج الطبيعة، يتلقى صفعة من وقت إلى آخر.
لقد تضاعفت إقاماتك القصيرة في الكثير من بلدان العالم، بسبب ترجمة كتبك إلى العديد من اللغات كما بسبب كونك أحد أعضاء لجنة تحكيم جائزة غونكور. هل من الصعب عليك أن تتجذر في مكان آخر؟
هذا صحيح، في أغلب الأحيان، أقول ـ حين أقضي 8 أيام في بلد لا أعرفه ـ إنه من المدهش أن أبقى فيه. هكذا اندهشت باليابان. فقط كان عليّ أولا أن أتعلم اللغة اليابانية… ماذا تريد أن أفعل، ليس لدينا سوى حياة واحدة. هل تؤمن بالتقمص؟ أخشى أن أعود بصفة كائن سفيه.
أين يمكن لك العيش؟
في تونس لسحرها، في مصر أيضا حيث لدي أقرباء. هناك نسيبة لأمي تزوجت بطالب مصري أعمى كان يدعى طه حسين وقد أصبح أكبر كاتب عربي في زمنه. كان من السهل جدا أن أحصل على كرسي الأستاذية في جامعة القاهرة، كان عليّ أن أمارس مهنة التدريس هناك، بعد أن فشلت بالقيام بذلك هنا.
هل أنت نادم على عدم ممارسة هذه المهنة؟
أبدا، لقد توجهت إلى عالم الأدب ولم يكن الأمر سيئا (يضحك). لقد تم «تدليعي» بشكل مدهش، إذ في العام 1967، ومنذ روايتي الأولى، «فوندرودي أو الحياة المتوحشة»، حصلت على الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية، وبعدها بثلاث سنوات، حصلت على جائزة غونكور بالإجماع عن كتاب «يمبوس المحيط الهادئ»! لكن لكي يبيع الفائز بجائزة غونكور العديد من النسخ، يجب أن لا يحدث أي شيء. لقد توفي دوغول في اللحظة التي حزت بها جائزة غونكور، وقد كلفني ذلك عشرات الألوف من النسخ! يعني ذلك، ان الناس لا تشتري الكتب الفائزة لتقرأها بل لتقدمها هدية.
ونوبل، هل حلمت بها؟
كدت أحصل عليها. منذ أربعين سنة تمّت دعوتي إلى ستوكهولم مع كلود سيمون. وخلال أسبوع تم استجوابنا ومحادثتنا من قبل أكاديمية الآداب، ومن ثم عدنا إلى ديارنا. بعد أيام، علمت بأن كلود سيمون ـ الذي لم أكن مجنونا بأدبه ـ حاز جائزة نوبل (يضحك). شفيت بسرعة من هذه الحادثة، لقد تعرضت إلى الكثير من الاعتراف المماثل، فأن أحوز نوبل ليس سوى عمل قذر.
كاتب كلاسيكي
هل تعتقد أن أعمالك ستنشر في سلسلة «لابلياد» وأنت بعد على قيد الحياة؟
لِمَ لا؟ حدثوني في الأمر، لكنه بالنسبة إلي يشبه دفنا من العيار الثقيل. أضف إلى ذلك أني لا أثمن هذا الأمر، هذا الكتاب الذي لا يقرأ، ثقيل الوزن. أفضل كتاب الجيب، الذي أعتبره «لابلياد المضاد» بامتياز، هو كتاب تستطيع أن تحمله معك في رحلتك، أن تنساه في القطار. برأيي، إن كتبي لا تنشر حقا إلا حين تصدر في سلسلة الجيب. انظر إلى الأرقام، لا مجال للمقارنة. يهمني الكتاب حين يتجاوز المئة ألف نسخة، وكل واحد تحت هذا الرقم هو صفر (يضحك).
تبدو رواية «فوندرودي…» كأنها نسخة مخففة عن الرواية اللاحقة «يمبوس…». هل ما زالت مبرمجة في المنهج الدراسي؟
أجل، وهي تشكل راتبا لي. لقد بيع منها، منذ أربعين سنة، أكثر من 7 ملايين نسخة. أعتبر نفسي كاتبا كلاسيكيا، لأنهم يقرأونني على مقاعد المدرسة! ومع ذلك، فأنا لا أكتب للأطفال ، ببساطة أفعل ما بوسعي لأكتب بمثالية صافية، باختصار وبأكبر قدر ممكن من الحسية. ربما لأن الفرنسيين لم يعودوا يقرأون أبدا أقول لنفسي أحيانا ـ وهذا ما يملؤني بالخوف والفخر في آن معا ـ بأنه سيتكاثر عدد الذين لن يقرأوا سوى كتاب واحد في حياتهم: وهذا الكتاب هو كتابي.
هل ما زلت تذهب للحديث عن رواياتك في المدارس؟
توقفت عن ذلك منذ أشهر عدة، أصبحت شخصا تعبا جدا. لكني ما زلت أستلم رسائل من الطلاب، أجيب عنها بشكل شفهي، على كاسيت، مشددا على تعداد أسماء التلاميذ كلهم.
لماذا لم تعد تدلي بصوتك في اجتماع جائزة غونكور؟
ثمة عمر لكل شيء. أنا اليوم في الخامسة والثمانين من عمري، أذهب بصعوبة إلى باريس ولم أعد أشعر بالجوع. «دروان» مطعم رائع نذهب إليه تقريبا لهذا السبب، كي نتناول الطعام مع الأصدقاء. لا أظن أنني سأذهب للاجتماع القادم. في هذه الحالة سأقدم استقالتي وسأقترح تعيين جاك لانغ مكاني.
جاك لانغ؟
لِمَ لا؟ إنه شخص جيد، بدأ حياته في المسرح، ولديه ماض ثقافي مدهش. المشكلة الوحيدة تكمن في عمره. العمر الأنسب لكي ندخل إلى أكاديمية غونكور هو سن الأربعين. هذا يعني أن ليس لاقتراحي أي قيمة. سيفعلون ما يرغبون فيه.
أنت الذي تقف ضد «السياسة الصائبة» والعقد الأخلاقي، ما رأيك بالجدل الذي دار مؤخرا حول كتاب فريديريك ميتران؟
لقد بحث عن ذلك، ألا تظن ذلك؟ حين ننشر كتابا بعنوان «الحياة السيئة» ليس من المستحسن أن نجلد أنفسنا دوما. ومع ذلك لا أفهم كيف يمكن للمرء أن يكون وزيرا، أنا شخص ضد كل سياسة، السلطة شيء سيئ في الذات البشرية.
«التحليل النفسي كلب الفلسفة الصغير»، كما قلت ذات يوم، ما رأيك ببحث ميشال أونفراي الأخير حول فرويد، هل أعجبك؟
من حقه أن يكتب ما يريد، لكني لا أرى ضرورة لذلك. بالنسبة إليّ فرويد كان طبيبا، والتحليل النفسي، طريقة علاج. نذهب إلى المحلل النفسي حين نشعر بالعذاب، بيد أني أجد من العبث جعل هذا العلاج وسيلة معرفية…
لا يعنيك الاستبطان إذا؟
لست رجلا يبحث في دواخله، لهذا عنونت يومياتي بـ«يوميات خارجية ـ داخلية»: لا تعنيني الحياة الداخلية، كتابة حياتي الحميمية أمر أجيده.
إذاً هناك العديد من الرويات المعاصرة لا تعجبك؟
إنهما أمران مختلفان. هناك ذوقي الشخصي وهناك حكمي. حين أقرأ، أبحث عن شيء من المستحيل تحديده وهذا ما يشكل القيمة الأدبية.
هل تزعجك الشيخوخة؟
أجل، إنها طريق يؤدي إلى الكاراج. لن أنتحر ولكني أجد أني عشت كثيرا. أتألم من الشيخوخة: لن أقوم بأي شيء بعد، لن أسافر بعد الآن، إني أشعر بالسأم.
هل أنت راض عن حياتك؟
قمت مؤخرا بإعداد لائحة صغيرة ذات معايير أجدها مهمة، ويمكن لنا أن نضيف إليها بعض الملاحظات كي نحاكم حياتنا: الشكل الخارجي، العائلة، عصرنا، الأصدقاء، الغراميات، المهنة. في نهاية الأمر تقوم بجمع المعدل وترى إن كنت سعيدا أم لا. بالنسبة إليّ هناك أمر مرعب: عصرنا، كنت في التاسعة حين استلم النازيون السلطة. أما بالنسبة إلى الباقي، فما زال شكلي مقبولا، لست مرعبا، الأصدقاء: لدي ما أرغب فيه. الغراميات: إنها الصحراء القاحلة. المهنة: أتممت واجباتي. النتيجة: إيجابية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى