من أيّ شيء تتكون الكتابة؟
أحمد ياسين
في خطوة نوعية غير مسبوقة في أوساطنا الأدبية والثقافية، صدر حديثاً الكتاب الموسوم بـ “كتابة الكتابة (نصوص في الإبداع)”، وذلك على قاعدة كيف تكون الكتابة الإبداعية مادة كتابية؟ أو بمعنى آخر، كيف يكون النص الأدبي نفسه، شعرياً كان أم نثرياً؟ موضوعاً للكتابة من خلال الوقوف على مصادر تكوينه أو ينابيع انْبثاقاته أو أرحام انبجاساته، لمعرفة بواعث إرهاصات ولادته وكيفية تَمظهرات تشكلاته الجمالية في تماثلات تجليات استوائه جسداً وروحاً (شكلاً ومضموناً) كائناً قابلاً للحياة. هذه هي محورية مضمون هذا الكتاب الهادفة إلى تدريب كتّابنا الناشئين / الواعدين، على الكتابة الإبداعية، سعياً إلى “تلقيح” مواهبهم بحقن أوردتها وشرايينها بأمصال الصنعة الأدبية التي تؤهلهم تبعاَ لاكتساب المهارات المطلوبة لبلوغ درجة الاحتراف المنشود.
وتوضح مدخلية هذا الكتاب أنه “ليس في المكتبة العربية كتابٌ للتدريب على الكتابة. كتابٌ يعكس تجاربنا نحن. وهذا الكتاب تجربة أولى لسد هذا النقص”.
لذا، فهي تُقرر: “إنها المرة الأولى التي يكشف فيها كُتّاب عرب ولبنانيون عن أسرار صنعتهم ويتكلمون عن تفاصيل تجاربهم وكواليسها وخلفياتها”.
ذلك لأنهم تطوعوا لشرح فنونهم بأنفسهم من أجل تعليم فن الكتابة وأسرار الصنعة الأدبية. وعليه فإن هذا الكتاب وخلاصة تجارب سبعة أدباء (خمسة روائيين وشاعرين) هم: الروائي والصحافي محمد أبي سمرا، الروائية والصحافية نجوى بركات، الشاعر والصحافي يوسف بزي، الشاعر والصحافي عباس بيضون، الروائية والصحافية إيمان حميدان، الروائي والصحافي حسن داوود والروائية والصحافية علوية صبح. ثُلّة من نخبة كُتّابنا الذين موضعهم تكريسهم في القلب من مشهدنا الثقافي المعاصر لما لبصماتهم الدامغة من لمعان لافت في المجالين الأدبي والصحافي على السواء. فبينهم مَن ترجمت بعض أعماله الأدبية إلى لغات عالمية عدة. وبينهم من نال جوائز ثقافية مشهورة.
وبما أنه كتاب تدريبي/ تعليمي فقد جاء في الشكل، مطابقاً تماماً، لشكل كتب الأدب العربي للتعليم الثانوي من حيث وضْع ثبت تعريفي مختصر وسريع بالكاتب ومؤلفاته ومهنته تحت صورة شخصية له. هذا إلى وضع أسئلة تمرينية حول نصوص عن كتاباتهم ونصوص من كتاباتهم المدرجة هنا، مستلة من أجوائها، موجهة للمتدرب توجيهاً عملانياً مباشراً. وهكذا فنحن، هنا، – عدا النصوص الأصلية أمام سبعة نصوص إرشادية، تأسيسية في حقل “كتابة الكتابة” الإبداعية هي عبارة عن سبعة نماذج متفردة بخصوصيتها التقنية والأسلوبية من حيث مُنْعقدات فنيتها التي تشكل كل منها حالة قائمة بذاتها، بهدف اطلاع القارئ المعني لتأدية الغرض على تعدد الأساليب وتنوع التقنيات، على خلفية إشباع ذائقته الأدبية بما يمكّنه من انتهاج ما يلائم سليقته أو ما ينسجم مع قريحته، اعتماداً على ما تصح تسميته هنا، اختلاف “خيارات” أو “بدائل” مطروحة.
تحت عنوان: “رواية البنى التحتية لشخصيات موصومة” يفرّق محمد أبي سمرا بين مقتضيات كتابته الصحافية والبحثية وبين مقتضيات كتابته الروائية اللتين يقوم بجمع موادهما الأولية من مقابلات يجريها مع أشخاص يحفظ أصواتهم في أشرطة تسجيل يخصصها لهذا الغرض. ويقول إنه في الحالة الأولى يعتمد كتابة ما تغيّره وتبدّله الحياة والزمن في الأشخاص، أي كتابة الزمن الاجتماعي والثقافي المتحوّل والمتغيّر في حياة واحدة أو في جيل أو من جيل إلى جيل آخر. ومع أنه يعترف بأن الكتابة الروائية، عموماً، لا تقوم على العناصر الثابتة في حياة الإنسان، إلا انه في رواياته يكتب “ما لا يقوى البشر على تغييره وتبديله في حياتهم وأجسامهم وأنفسهم طوال أعمارهم القصيرة، رغم قدرتهم على الانتقال من زمن اجتماعي وثقافي إلى آخر، من بيئة ولغة إلى بيئة ولغة أخريين، ويدعّم وجهة نظره الخاصة هذه مستشهداً بما فعله المؤرخ الفرنسي الكبير الراحل فرنان بروديل في كتاباته التاريخية كلها، وهو التأريخ للبنى شبه الثابتة في الحضارات الإنسانية. وهذا النوع من التأريخ سماه بروديل: تأريخ الأمد الطويل، أي التأريخ للبنى التحتية شبه الثابتة للحضارات. وعليه فلقد قام أبي سمرا برواية ما يمكن تسميته البنى التحتية شبه الثابتة في الشخصيات الإنسانية، في رواياته الثلاث “بولين وأطيافها” و”الرجل السابق” و”سكان الصور” التي يعتبرها محاولات لرواية مصائر شخصيات تشعر بأن جريان الزمن وتقلبها في العيش لا يبدّل مصائرها.
وتحت عنوان “في حسب سكان الروايات ونسبهم” تقول نجوى بركات، وهي المتغربة عن وطنها لبنان: “عشرون عاماً وأنا أحيا في باريس، عشرون عاماً والكتابة هي موطني الوحيد، واللغة داري” وهي تؤمن بأن الرواية هي فن الشك بامتياز. ذلك لأن أبطال رواياتها الستة الذين هم من القتلة والمنافقين والفاسدين “ليسوا أبطالاً إذ أين تكمن البطولة في شخصيات تؤدي بي دوماً إلى الشك”. وتعلن بركات: “في فضاء الكتابة، أنا مواطنة تملك كامل الحقوق عينٌ على العالم وما يجري فيه والأخرى على مخيلتي لا تخضع لاعتبارات دخيلة ولا يسيئها أن تُعْزل أو أن تُرْجم لأنها غردت خارج السرب أو سبحت عكس التيار”. لذا فإن انحيازها الوحيد “هو إلى شخصياتي لا أتنكر لها، وإن بلغت أقصى الشر، أحميها كما يحمي الطير بيضه، لأن بها خلاصي هي الرافضة لكل تطويع”. كما ترى بركات أن الرواية لا تستوي في إلغاء الآخر، كائناًَ من كان، ولا تنهض على نفيه أو إبعاده حتى وإن كان ليس دوماً للتقدير والاحترام (كالعدو والخسيس والقامع.. الخ) فـ “عالم الرواية لا يقوم سوى بأهله الذين هم ليسوا من نسل كاتبها”.
لذا تؤكد بركات أن على الكتابة الروائية وضع مسافة ضرورية ما بين الكاتب ومخلوقاته الورقية التي كأنها تولد من ذاتها (من مجموعة عوامل لا تتصل في ما بينها أو من أزمنة وأمكنة غير متآلفة) والتي قد تصل متأخرة عن المشروع الروائي أي بعد اكتمال مناخه العام، لكنها ما ان تطأ أرض الرواية حتى تستولي على سلطة السرد، لذا على الروائي أن لا يطغى عليها ويعاندها حتى لا يفسد سرده وأن لا يخضع لها كلية حتى لا تأخذه إلى ما تحمد عقباه.
“بسبب ظني أن الشاعر هو صاحب نص يحاول فيه، بتكثيف جمالي، قول “الحقيقة” واللحظة التاريخية، وما هو داخل وما هو خارج.. أسعى لأن أكتب دائماً قصيدة تقول “أناي” وتقول بيئتي. وأقصد بـ”البيئة” اللحظة السياسية والاجتماعية بما هي لحظة اضطراب وقلق بشريين دائمين”. هذا ما يقوله يوسف بزي في نصه تحت عنوان “أنفاس اللغة” وهو يعتقد أن الكاتب هو المعني بسؤال “الشرط الإنساني” ويرى بزي أن الأدب هو ضرب من “الاحتيال” على الواقع، وبمعنى آخر “تنظيم الفوضى”. ويشير إلى حافزين دائمين في الكتابة، يقول إن من الخطأ الظن أنهما متعارضان أو أن أحدهما يلغي الآخر، لكن من المهم جداً ترتيبهما بطريقة صحيحة. فبحسبه، إذ يجب أولاً أن نقول “كيف” نكتب، ثم نقول “ماذا” نكتب.
وفي خضوعه لشروط كتابة الشعر يؤكد بزي أنه منحاز دوماً للفن أولاً وثانياً لـ”التركيب” لا لـ “التحليل” في تشكيل قصائده، حتى أنه يعمد أحياناً، إلى تضمين قصيدته، موقفاًُ شخصياً “وقحاً” إذا اقتضى الأمر يفرض عليه انحيازه المطلق لما يسميه “فتنة الأدب” لهذا فهو ينصح “من يستح فليترك الكتابة” لأن الكتابة برأيه هي “فضيحة”. كذلك ينحاز بزي في كتاباته إلى شيء من سيرته الذاتية لكي يستطيع أن يكتب من دون أن تلوثه “ذاكرة القراءة” التي عادة ما “تخدع” الكّتاب (على قوله) وتملي عليهم ما هو منجز في تاريخ الكتابة. لذا يعلن أن على الكتاب أن يضيفوا إلى ما كتب حتى يمنحوا شرعية لا تستقيم إلا إذا كانت “حواراً” مع كل ما كتب. ويجب أن تتشبع كتاباتهم بالمحلية وتتصل بانقلاب العالم المستمر. لذا فهو يرى أن من شروط اللغة الجوهرية أثناء الكتابة تتمثل في أن يعمد الكاتب إلى إزاحة كل عبارة عن معناها الأصلي من دون خيانته تماماً، أي دفع العبارة خارج منزلها وهو ما يفعله في كتاباته الشعرية “وهذا ليس على سبيل المجانية بل بهدف، توسيع الخيال، وتطوير التواصل (اللغة بين الناس) والارتقاء بهذه اللغة “العامة” درجة صغيرة إضافية، وهذا ما يسمح للأفكار بالتفتح”. وهو يعتقد باستحالة وجود أدب من دون وعي سياسي فـ “أغلب الظن أن أي فن هو موقف من العالم ومن القيم”. فـ” الشرط الإنساني” هو الذي يعطي أي نص قيمته الأدبية” ويرى أن مشكلة أي شاعر ليست في تأليف العبارة “الجميلة” بل في أن “يعرف كيفية شق وجهته الخاصة أي الصوت الذي سيقول لحظته في بناء مشروعه اللغوي المستقل ببصمته الفردية التي يجب أن تجمع بين الذاتي والموضوعي (الخاص والعام) معاً.
“نيابة عن مجهول” جاء عنوان نص عباس بيضون الذي يتحدث فيه عن الصعوبة التي واجهها كشاعر في كتابة الرواية. فقد خاض في ذلك تجارب صعبة للغاية في محاولات انتقاله من كتابة الشعر إلى كتابة النثر (مع أنه هو نفسه شاعر قصيدة نثر). ويؤكد بيضون أن هذه الصعوبة عائدة، وبالدرجة الأولى إلى ما يسمى في لغات أخرى “عاهة الاحتراف” “فمن اعتاد الأسلبة والنظم وتوقيع الكلام (على الصعيد الشعري) لا يسعه أن يكتب شيئاً غير مُؤسلب ولا منظوم ولا موقع”. أي يتحدث بيضون هنا عن صعوبة صراع الكاتب مع أسلوبه وفنه بسبب ما تقتضيه طبيعة الفروقات الجوهرية بين صناعة الشعر وصناعة النثر، في معرض شرحه لكيفية كتابته لروايتيه الأولى التي لم تنشر بعد لأسباب خاصة، والثانية التي نشرت بعنوان “تحليل دم” هي التي “كانت محاولة” لإنشاء رواية من مجهول تام”. إذ ان الراوي/ الكاتب وهو بعد طفل لما يزل توفي عمه (شقيق والده) في المهجر الأفريقي. أي أنه لم يعرف هذا العم ولم ير له وجهاً.
وبما أن وفاة هذا العم التي كانت مأساة عائلية حقيقية تحولت هذه الوفاة إلى “تابو” عائلي حتمت على الكاتب أن يكتب رواية “تحليل دم” لرواية هذا التابو. ولأن هذه الرواية هي رواية عم مجهول جعلته وفاته أكثر مجهولية وحولته إلى سر، كان على بيضون أن يفتح مغاليق هذا السر برواية أشياء من لا شيء تقريباً وهذا لا يؤمنه بالضرورة سوى الخيال المحصن، “وحين باشرت كتابتها كان علي في كل لحظة أن أجسم هذا اللاشيء، وأن اجعله في حكاية”. لذلك تطلب بناء هذه الرواية محاولات استدعاء “تأثيرات” عدة كان لا بد للكاتب من أن يلجأ إليها لاستواء تركيبة معمارها الروائي لكي ترى النور، أي إنها احتاجت إلى “اختراعات” فانتازية بالكامل. لتكون مدخلاً إلى عالم بقي لأسباب واعية في مجهولية نسبية هو عالم العائلة. فجاءت الرواية اعترافاً ونوعاً من التحليل الذاتي النفسي “حتى أجد هكذا للعائلة روايتها الضائعة المفقودة” من خلال كشف أسرار رمزها (العم) لتستطيع هذه العائلة مجتمعة الخروج من مجهوليتها بالعثور على قصتها ووجودها.
“لا توجد وصفة خالدة للكتابة” تؤكد إيمان حميدان تحت عنوان: “الجملة الأولى” لافتة إلى أن ما يعذبها فعلاً هو كيفية إيجادها للجملة الأولى لبداية نصها الروائي. وتقول في ممارستها الطقوس كتابتها إنها تقع تحت يدها “من أوراق في السيارة إلى الفوط الورقية في المقهى، أو حتى قوائم الطعام وحافات الجرائد وظهر فواتير الكهرباء وإيصالات المشتريات”.
وتوضح: “قد أجد في ما بعد حين أقرأ ما كتبت من أفكار عامة مخرجاً من طريق مسدود بقيت وقتاً طويلاً فيه لأنني لا أعلم أين أذهب بشخصيات روايتي وبسيرورتها” من هنا فإن الرواية لدى حميدان “بناء مستمر لا يأخذ خطاً مستقيماًُ بل أشكالاً عدة تتناوب ضمن عملية البناء وتختلف”. وهذا بحسب منطق النص الداخلي الذي يفرض نفسه عليها أثناء الكتابة، لا علاقة له بالتسلسل الزمني للأحداث. ويتعلق أيضاً بحالات الشخصيات الروائية. إن الكتابة هي قبل كل شيء رحلة اكتشاف تقرر حميدان. وتؤكد ان هناك فرقاً شاسعاَ بالطبع، بين حقيقة الواقع وما نكتبه عنه.
فالمهم برأيها أن نكتب عن هذه الرحلة وبهذا نكتب الحقيقة التي رأيناها نحن من دون أي تفسير للواقع كما هو. وترى حميدان أن لا ثبات في لحظة الكتابة.
التي أثناءها كل شيء معرض لزلزال اللايقين، رغم إيمان أعمى والتوضيح للكاتبه هنا بأن تلك اللحظة “هي لحظة اليقين الوحيدة”.
وتشدد حميدان على حتمية صناعة الكاتب للغته الخاصة أي الذاتية الصرفة، و”كأن لا ذاكرة معرفية لنا أو معرفة موروثة”.
“في شباط 2001 سطا أحدهم في باريس على حقيبتي التي كانت في سيارة أصدقاء آخذاً، إلى أشياء أخرى احتوتها الحقيبة، مخطوطة رواية أملت أن أكتب خاتمتها هناك، كانت تلك النسخة الوحيدة من الرواية”.
هكذا استهل حسن داوود حديثه عن تجربته الروائية تحت عنوان: “ما يبقى من رواية ضائعة” فمن باب فقدان الأمل نهائياً من العثور على تلك المخطوطة بالرغم من كل المساعي الحثيثة والكثيرة التي بذلت من قبله وقبل أصدقائه في باريس في هذا السبيل يؤكد داوود على استحالة أن يولد نص مكتوب مرتين.
إذ إنه قد بذل محاولات عدة لإعادة كتابة “الرواية الضائعة” لكنه لم يستطع، بعد ذلك توقف عن المحاولة لأنه أكتشف ان النص الذي هو في الحالة الأولى كتابة، بطبيعة الحال، لن يكون في الحالة الثانية، وبطبيعة الحال أيضاً، الا تذكراً، وطبعاً، الفرق شاسع بين الحالتين، بما لا يقاس.
ف “ما كنت قد كتبته في الرواية الضائعة.. تحول الى وجود مكتمل وراسخ لا يحتمل سياقا آخر غير الذي وضعته الكتابة فيه، كأن ما ألفته تأليفاً، وما صنعت أشخاصه وحوادثه كان اكثر قوة من قوة ما عرفته في عيشي الحقيقي، حيث ان ما حفظته ذاكرتي من عيشي، منفتح على المخيلة تغيره وتتصرف فيه. أما الحياة المصنوعة من مزيج التخيل والتذكر، الحياة التي أنجزت كتابتها، فلا تقبل تغييراً أو تصرفاً. ذلك “اللعب” بما نتذكره آملين ان نستخلص منه أدباً، لن يسمح بأن نعاوده لأنه لا يطرح ثمراته الا مرة واحدة. فهو، بعد ان يكتب ويصير في نص، ينغلق على نفسه مثلما تفعل تلك الزهرات الكبيرة اذ تضم ورقاتها اليها.
ويؤكد داوود على ان ميله الى تكثيف نصه الروائي، عادة، قد اتاه من تعلقه بالشعر، الذي حفظ منه أبيانا لا عد لها، اضافة الى ما وجده من شعر في قراءته للروايات العالمية، ويتطرق في حديثه الى الترجمة (التي هي كتابة أخرى للنص المترجم) داعياً الى اعتماد “نقل” روحية (جوهرية) النص لا حرفيته (شكلانيته) “تلك المكبلة لليد والعائقة للخيال”. ويقول انه يترك لبطل روايته ان يتكلم بصيغة المتكلم، ذلك لأنه يعتقد بأن بطل الرواية ليس الا انبثاقا من الكاتب بل هو وليده الذي خرج من مخيلته “لذلك، ربما نؤثر ان يكون للرواية بطل واحد” أو أحياناً نحاول ان نتبنى ذلك. يؤثر حسن داوود ككاتب ان يعيش في الماضي ـ دائماً ـ ليخرج “من الضيق الذي يكاد يبلغ به حد انقطاع النفس”. أي ينشد ـ مرغماً ـ ارتياد مكان أوسع وارحب، وهذا ليس له وجود الا في الماضي من ايامه، لذلك يعمد (هو الراوي) الى استخدام طريقة “الفلاش باك” كخلفية مضيئة لأعماله الروائية فيفتح ارشيف التذكر في الحالتين: التلقائية والاستدعائية معاً. من هنا نعرف لماذا يكون دائماً “المكان اولا (وكما يؤكد هنا) في أعماله الروائية. ف “الماضي هو الأمكنة الباقية في الذاكرة مغلفة أو مشحونة بتلك الطاقة المقاومة للنفاد، تتأسس أو تنزرع في رؤوسنا حين نكون وحدنا ازاءها. والماضي هو البشر متفرقين في أنحائها (أي الأمكنة) ـ الداخلية والخارجية ـ ومتعلقين بها على نحو ما تتعلق تلك الصدفات البيضاء بظهور السلاحف”. فالراوي/الكاتب (أو كما يشير داوود هنا الى بطل رواية “موت في البندقية” (في فيلم فيسكونتي) الموسيقي وقد بات في أواخر خمسيناته أو أوائل ستيناته) الذي يشعر بثقل ماضيه عليه، ففي ذلك المقلب من العمر (أي الاضي) يضمر التعويل على ما سيأتي به الطموح. يروح يقتنع “بأنه موجود في ماضيه لا في ما سيأتي من أيامه”.
على “لعبة المرايا” تقوم الكتابة الروائية لدى الروائية علوية صبح التي تتحدث عنها هنا تحت عنوان “أهجس بالشخصية” تقول: “تتلبسني الرواية لفترة طويلة قبل البدء بالكتابة” اذ تهجس بالرواية (أو البطلة الرئيسية).. حتى تصير قريبة وأليفة “فأتقمصها أو تتقمصني” فتبدأ معها رحلة الكتابة التي لا تنطلق فيها علوية من تصميم جاهز ولا ترتيب معين لفصول الرواية، بل تشعر بأنها خلال الكتابة، تحفر لتفهم وتعرف وتستكشف حيوات الشخصيات.
وهي تفترض ان لكل عمل اسراره، يولد تقنيته الخاصة من دون اسقاط أو تبن لتقنية جاهزة سلفا “فالتقنيات ليست قالبا نسكب فيه ما نود قوله، ويجب ان تكون من روح النص ولحمه” على ما تؤكد علوية، وهي تشبه “النص بالجنين الذي يتكون، بمعزل عن رغبة مفتعلة أو خارج سلطة الكاتب/ الأم، وان كانت الكتابة لا تتم على مساحة معزولة عن الرؤية و “قلق الكاتب”. وتعترف علوية بأنها تشك في وجودها اذا لم تمارس الكتابة “لأني لا أستطيع أن أعيش الحياة بلا كتابة”.
وفي كتابتها الروائية عموما تمزج علوية الرواية بالحياة “هاجسي دائما ان تكون الشخصيات من لحم ودم ليتسنى لها ان تعيش بمعزل عني، ان كانت لها القدرة على ذلك لأن حمايتي لحيواتها تنتهي بعد الكتابة وتصير المسافة بيني وبينها كالمسافة بينها وبين القارئ”، كما تجاور علوية الشخصيات الروائية، والعامية بالفصحى أو الشخصي بالعام ضمن بناء فني لم تكن الحكايات لتروى بمعزل عنه. كما تقول.
المستقبل