قضايا إشكالية: “الهويَّة المواطنية”
حسين عيسو
تعرَّضَ مفهوم المواطنية كأحد أشكال الهويَّة الاجتماعية السياسية للكثير من النقاش والنقد، خاصة في دولة تعددية مثل بلدنا سوريا، ففي حين يراها البعض من المثقفين العرب مجرد حيازة للجنسية في القطر العربي السوري، يرد البعض من المثقفين الكرد باعتبارها نوعا من الخنوع والتفريط في الحقوق القومية للكرد، وهكذا يدور السجال بين طرفين متخندقين بعيدا عن البحث في الأسس التي تبنى عليها المواطنية، وهي قيم المساواة وتحقيق الحرية وتطبيق العدالة، كمقومات أساسية لبناء الدولة المدنية الحديثة “دولة الحق والقانون” التي تمارس الحياد تجاه مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الطبقية. ويعود الفضل في نشر مفهوم المواطنية “التي مازالت غير معروفة في بلدنا”! الى المشرِّع الإغريقي “ليكورغوس” حين أسبغ الصفة الرسمية على طبقة “المواطنين” المميزين الذين يملكون “حصصا متساوية في الدولة”، وذلك ضمن مجموعة من الإصلاحات الدستورية والاجتماعية والاقتصادية، قبل ثمانية وعشرين قرنا، بدأت في اسبارطة وانتقلت الى باقي “الدول – المدن” الإغريقية، “ومن بين شروط الحصول على صفة مواطن كان حيازة عقار في المدينة، فحتى الأجنبي الذي يشتري عقارا في المدينة كان ينال صفة المواطن” *، ثم طبقت في الإمبراطورية الرومانية، وتطورت بشكل كبير بعد الثورة الفرنسية ووصلت إلى ما هي عليه في يومنا هذا “لدى الآخرين طبعاً”!!!
فالهويّة تعريف للذات وتمييز له عن الآخر، وهي تتحدد بالآخر كما يقول هيجل حيث مع تعدد وجوه الآخر وتنوعها تتعدد وجوه الأنا وتتنوع، سوريّاً: – على سبيل المثال – الأنا الكردي يقابل الآخر العربي أو الكلدو آثوري.. والأنا المسلم يقابل الآخر المسيحي… لكننا جميعا سوريون مقابل كل العراقيين أو المصريين أو الألمان… والهويَّة حصيلة تراكم متجدد فما كان يشكل هوية الفرد في زمن ما قد لا يكون كذلك في زمن آخر، فالهوية في تركيا مثلا تحولت من عثمانية إسلامية إلى طورانية تركية ثم إسلامية “ليبرالية” اليوم، فالتطور يبقى من أهم سمات الهوية، أي أنها غير ثابتة وليست نهائية، ولكل إنسان أكثر من هوية، تتدرج بين الفردي والعام الشامل، فقد يعرَّف الفرد بعائلة أو طائفة أو قومية… لكن يبقى انتماؤه الأهم الى هويته الوطنية التي تشمل جميع أبناء الوطن.
خلال الحربين العالميتين في القرن العشرين والتي دارت رحاها بين ألمانيا وفرنسا بشكل خاص وتعرَّض البلدان نتيجتها للدمار الهائل وملايين الضحايا، برغم ذلك فان سويسرا التي تجاور البلدين المتحاربين والتي يشكل الألمان والفرنسيون قوميتيها الرئيسيتين بقيت على الحياد ولم تنقسم أو تتحارب القوميتان فيها لأن الهوية الوطنية في بلد عريق مثل سويسرا وإيمان مواطنيها من أبناء القوميتين بأن مواطنه السويسري أقرب اليه رغم اختلاف الانتماءات العرقية من الآخر الخارجي ألمانياً كان أو فرنسياً، فبقيت سويسرا على الحياد نتيجة الوئام والولاء الوطني الذي تغلَّب على كل الولاءات الأخرى، فالولاء للهوية الوطنية يجب أن يبقى الأهم في تصرفاتنا وسلوكنا العام أمّا هوياتنا الأخرى القبلية أو الدينية أو القومية فيجب ألاّ يصل شعور الفرد بالانتماء إليها حد التعصب الذي يطغى على الهوية الوطنية الشاملة، فيهدد استقرار المجتمع ويودي به الى التفتت والتفكك والانزلاق الى هاوية التطرف الفكري والتعصب والانكفاء وعدم تقبل الآخر بينما الهوية الوطنية تستوعب الكل الاجتماعي وتدفعهم الى الاندماج في هوية ذات طابع يشترك فيها الجميع.
تعرَّف هوية الفرد في الدولة حسب الأنظمة القائمة فيها:
1 – في النظام الملكي المطلق “غير الدستوري”، حيث يستمد الملك شرعيته من الحق الإلهي أو الوراثي يعامل أفراد الشعب كرعايا في الدولة، لا حقّ لهم غير إظهار الولاء لشخص الملك وكل ما ينالونه منح كريمة من جلالته وما عليهم سوى الشكر والإذعان باستسلام.
2 – في الأنظمة الاستبدادية والشمولية حاضنة الدكتاتورية وحكم الفرد المطلق ولو أنها عادة ما تبدأ بحكم حزب أتى إلى السلطة بعد ثورة دموية كما في الاتحاد السوفييتي السابق أو بعد الفوز في انتخابات ديمقراطية كالحزب النازي وهتلر في ألمانيا وكذلك حكم ماركوس في الفيليبين أو الانقلابات العسكرية كحزب البعث في كل من سوريا والعراق، هذه الأنظمة تشبه عمليا النظام الملكي المطلق، الاّ أنها تفتقد الشرعية التي ينالها النظام الملكي، فتخترع ما يسمى بالشرعية الثورية أو الجماهيرية معتمدة في ذلك على الاستفتاءات وحشود جماهير الغوغاء التي تهتف للسلطة أو الحاكم الفرد كنوع من الشرعية، يقول الكواكبي: “الاستبداد يعتمد على وسيلتين: جهالة الأمة، والجنود المنظَّمة، وهما أكبر مصائب الأمم، وأهم معايب الإنسانية،…والاستبداد صفة الحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية من حساب”.
وتقول حنَّة أرندت**: “لا تكتفي الدولة في النظام الشمولي بالسيطرة على الحياة السياسية فقط، بل تقبض على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتتدخل في صياغة عقول ومخيلة الأفراد، وتحاول تحديد قناعات الناس ووجهات نظرهم، وتفرض صورة مرسومة للعالم والتاريخ والحياة على المجتمع، وتضع معاني الحياة الجماعية والثقة والصدق أمام فكرة الشرخ، وتجعل الشك والريبة موقفين سيكولوجيين يربطان الأفراد والمجموعات ببعضها. وبذلك، تلغي تلك المسافة الموجودة بين الدولة والمجتمع، فتقوم بدولنة المجتمع، أو زج جميع خلاياه في أحشاء الدولة. تخضع السلطة الشمولية جميع المؤسسات المدنية لهيمنة الدولة، ولا تترك حيزا للاختلاف السياسي، وتحول التقاليد الأخلاقية والثقة الاجتماعية إلى منظومة تدير فيها الشك والريبة وخوف الأفراد فيما بينهم”!!!
وهكذا يعتلي الوصوليون المناصب العليا ليقرروا مصائر الناس ويتحكموا بمعيشتهم، فيتحول المواطنون الى رعايا مذعنين لا حول ولا حياة لهم إلاّ بإذن أزلام سلطة الاستبداد ونتيجة القمع والخوف تنتشر اللامبالاة بينهم فينجرف الوطن مع الزمن الى الهاوية.
3- في الأنظمة القومية أو الدينية والأيديولوجية، يمنح الفرد المنتمي الى الجماعة السائدة موقعا تفضيليا، ويصبح ارتباطه بجماعته محور سلوكياته فتطغى الهوية الخاصة بتلك المجموعة على الهوية الوطنية الشاملة، وتنفرد تلك الفئة باتخاذ القرارات وإقصاء الآخر والاستئثار بالسلطة وممارسة القمع والتحريض ضد المختلف قوميا أو دينيا، ويتحول الوطن الى رهينة في أيدي تلك المجموعة وتصبح الوطنية حكرا عليهم وينظر الى الآخر الوطني بعين الشك والريبة في وطنيته، فلا يجد ملاذا له إلاّ ضمن جماعته الطائفية أو القبلية أو القومية، بحثا عن الحماية والأمان في ظلها ويستقوي كل فرد بهويته الفرعية وتتحول الولاءات الى ما دون الوطنية فيتفكك المجتمع،ويفرغ مفهوم المواطنية من مضامينه السياسية والمجتمعية ليحل الاستبداد وحكم الفرد المطلق.
4 – في الدولة المدنية تتحدد علاقة الفرد لا بفرد آخر كما في الأنظمة الملكية والاستبدادية ولا بمجموعة أفراد كما في الأنظمة الدينية والقومية الشوفينية، ولكنها مرتبطة بالدولة، كعلاقة قانونية، فالمواطنية مرتبطة بدولة القانون التي تقوم على منطق احترام التنوع والمساواة في الحقوق والواجبات، ولا تعامل أيا من مواطنيها بأسلوب تفضيلي بسبب قوميته أو دينه أو طبقته أو لونه أو جنسه، ولا سلطة فيها لغير سلطة القانون التي يتساوى أمامها جميع المواطنين، فالشعور بهذه المساواة من قبل المواطنين يوحدهم ويزيد التضامن بينهم ويؤدي إلى الاحترام المتبادل والتحلي بالتسامح والسعي المشترك نحو تحقيق المصالح العليا للوطن وخير المجتمع، والعلاقة وطيدة بين مفهومي المواطنة والديمقراطية فلا مواطنية بدون ثقافة ديمقراطية للمجتمع ولا معنى للديمقراطية بدون مواطنين أحرار يعون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، يشاركون في صنع القرار ومحاسبة المسئولين عن أعمالهم في دولة مدنية تمارس الحياد تجاه مواطنيها وتتولى تنظيم العلاقات داخل المجتمع قانونيا، يقول جون لوك: يبتدئ الطغيان حيث تنتهي سلطة القانون.
يقول العالم الألماني يورجين هابرماس: لا ترتبط المواطنية في مفهومها بالهوية القومية، أمّا المحامي الفرنسي بودوين فيقول في خطبة شهيرة له: ان كامل القوام الوطني يشكل “أمَّة” حتى ولو كان هناك تنوع في اللغة والعادات والدين والعرق.
ففرنسا على سبيل المثال تشكلت من عدة قوميات “غاليون، وبريتون، وكورسيكيون، وايطاليون وباسك وسكان الألزاس واللورين،..) وإسبانيا تشكلت من أغلبية قشتالية إضافة إلى الكاتالونيين، والباسك والأرغونيين وغيرهم من القوميات”.
ويحدد “مارشال”*** ثلاثة أشكال للمواطنية وهي:
– المدنية: وتشمل حرية التعبير وحق التملك والحق في العدالة.
– السياسية: وتعني حق المشاركة في ممارسة السلطة السياسية.
– الاجتماعية: وتعني الاستفادة من الخدمات الاجتماعية كالتعليم والخدمات الصحية…
والمواطنية إضافة الى أنها علاقة بين المواطن والدولة هي أيضا علاقة بين المواطن والمواطن وتعني الاعتراف بالاختلاف والتسامح بين المختلفين دينيا وقوميا وأيديولوجيا، هنا يجب الإشارة الى أن المواطنية والديمقراطية ليستا جرعات دواء جاهزة وإنما ثقافة وممارسة لكي تترسّخ في المجتمع تحتاج الى تطور في ثقافته الاجتماعية والسياسية، يقول المفكر السوري “جورج طرابيشي”: “الديمقراطية قبل أن تمارس في صندوق الاقتراع يجب أن تبدأ من صندوق الرأس”، ويقول “روسّو” أن على المدارس أن تضمن فهم تلاميذها لقواعد المجتمع ومبدأ المساواة والإحساس بالإخاء. “فالتربية المواطنية” يجب أن تبدأ من المدرسة والحارة والنقابة والمدينة. وأفضل مكان لزرع بذور المواطنية والديمقراطية هو الجيل الصاعد وهي اليوم تحتاج الى جهود كبيرة للتغلب على ما انتشر في السابق من مفاهيم هدامة تعبوية أدت الى نشر ثقافة الضجيج وما يسمى بالإعلام الجماهيري الذي أنتج مجموعات الغوغاء والطفيليين والفساد وقمع الرأي الحر والذي أدى بدوره الى نشر اللامبالاة داخل المجتمع، وهذا ينذر بكوارث خطيرة على كافة الصُّعُد السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المستقبل، لذا فان مهمّات هائلة تقع على عاتق المثقفين والسياسيين اليوم وبدلا من النقاشات البيزنطية حول “جنس الملائكة”، لابدَّ من العمل الجاد في سبيل معالجة هذه المشاكل وإفهام الناس أن ما هو منتشر اليوم ثقافة فاسدة وأن الإقصاء والتشكيك والتقوقع لا تبني أوطانا بل تدمرها، وتعرضها للإملاءات الخارجية التي لن تكون في كل الأحوال في مصلحة وطننا ومجتمعنا. والحل يبقى في التواصل والتعارف بين أبناء الوطن الواحد. يقول سارتر: “الآخر هو ذلك الذي ليس هو أنا، ولست أنا هو”، أي أنه مختلف عني، وبدون وجود علاقة معرفية بيننا قد أنظر اليه كنقيض لي، فالاختلاف بين طرفين يجهل أحدهما الآخر يؤدي الى التشكيك والتعصب والإقصاء أما الاختلاف من خلال المعرفة المتبادلة يقودنا الى مزيد من الحوار والفهم والتفاهم وإزالة الشوائب التي أصابت علاقاتنا الثقافية والاجتماعية، من خلال مراجعة عقلانية جادة لمواقفنا تجاه بعضنا الآخر وإصلاح ما فيها من سلبيات، فالتواصل والتحاور هو الإطار الأمثل لتلاقح الأفكار وانتاج الوئام الوطني من خلال الاحترام المتبادل واستحضار الجانب الانساني في علاقاتنا وتمتينها بين مكونات المجتمع في سبيل بناء الوطن القوي الذي يستطيع رفض أملاءات الخارج ومخططاته اعتمادا على وحدة مجتمعه.
*- كان أرسطو يرى أن حيازة عقار شرطٌ للمواطنية في مدينته، وما زال امتلاك منزل من شروط الحصول على المواطنة في أغلب دول العالم – “للمقارنة بين بلدنا وباقي دول العالم”!.
**- باحثة ألمانية من أصل يهودي تعرضت للنقد والهجوم من قبل المنظمات الصهيونية بسبب كتابها “تقرير عن عادية الشر” لإعتبارها أن “أدولف أيخمان” المسئول عن ترحيل وإعدام اليهود في ألمانيا النازية لم يكن سادياً أو شريرا بطبعه، بل لأن النظم “الشمولية” تحِّول بعض البشر إلى أشرار مجردين من الأخلاق الإنسانية.
***- محاضرة في جامعة كامبردج تحت عنوان “المواطنية والطبقات الاجتماعية” عام 1949 م للأستاذ في علم الاجتماع “ت ه مارشال”
* كاتب سوري