صفحات مختارة

الاسلام السياسي ومستقبل الديمقراطية والتحديث في العالم العربي

سامية نوري كربيت
انقضى تقريبا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ولم يحقق العالم العربي لا مشروع تحديث ولا إقامة نظام ديمقراطي في إحدى دوله الاثنان والعشرون بل على العكس من ذلك زاد تمركز سلطة الدولة المركزية المتمثلة بالحاكم ,كما ساد الخطاب العربي التقليدي الماضوي المعطل لكل حركة تطور والذي استخدمته السلطة السياسية منذ قرون طويلة وغذت به عقول الجماهير العربية بوعي زائف بعيد عن الطريق العقلاني الذي يؤدي إلى بناء مجتمعات تنموية تنقذ العرب من حالة التردي والتخلف الذي تعيشه وتوصله إلى مستوى أفضل يشمل جميع نواحي الحياة , هذا التخلف الذي ينخر في جوانب المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بالإضافة إلى انقسامات سياسية ودينية وطائفية وما يتبعها من استقطابات أيديولوجية أدت إلى صراعات دموية في بعض منها , خاصة تلك التي تتميز بعدم التجانس في البناء العرقي أو المذهبي أو الطائفي بالإضافة إلى تداخل العناصر الحديثة فيه مع التقليدية , ومن المعروف أن العناصر التقليدية تعمل على كبح وإيقاف عملية التحديث التي لا يمكن أن تحدث إلا بإقصاء تلك العناصر التقليدية الكامنة في البناء الاجتماعي والثقافي .
أن كثير من الفئات الاجتماعية الممثلة بشيوخ العشائر والزعماء التقليديين ورجال الدين لهم تأثير كبير في التصدي لرياح التغيير في مجتمعات الدول العربية , هذه الفئات التي تبغي المحافظة على الوضع الراهن الذي يحافظ على مصالحها , وتشجع النزعات الماضوية والسلفية والرجعية وتعمل على التمسك بالماضي بسلبياته القائمة على التجزئة والتناحر وتشجع المنازعات وخلق المشاكل للوقوف ضد كل تقدم , علما إن إرساء البناء الديمقراطي في أي مجتمع لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها بل انه عملية مجتمعية تاريخية تراكمية تنطوي على تحولات في جميع جوانب المجتمع السياسية والثقافية والتعليمية والفكرية , وهذه التحولات لا يمكن أن تتم إلا من خلال عملية تحديث تشمل كل نواحي المجتمع وفئاته , وان سبب إعاقة تحديث المجتمعات العربية أو إقامة نظام ديمقراطي فيه لم يعد مقصورا على الزعماء التقليديين أو شيوخ العشائر ورجال الدين وإنما ظهر منذ أواسط القرن العشرين تيارا متشددا أكثر خطورة على التحولات الديمقراطية من أية جهة أخرى ألا وهو التيار الديني المتطرف أو ما يطلق عليه بالإسلام السياسي في كلا المذهبين الإسلاميين السني والشيعي .
ومنذ القرن التاسع عشر قام علماء الاجتماع بوضع نظريات مختلفة تصف التغيرات الرئيسية التي مرت بها المجتمعات الأوربية والتي أدت إلى ظهور الديمقراطية , ومنها انتشار البروتستانتية ودورها في فصل الدين عن الدولة , ظهور عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الذين ساهموا في تأسيس النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعاصر , انهيار الإقطاع وازدهار التجارة وظهور الصناعة وتطورها , وقارنوا تلك الدول بالدول التي تمتاز بصفات تقليدية غير أوربية وتوصلوا إلى قناعة بان المجتمعات الغير أوربية سوف تمر بنفس مراحل التطور التي قطعتها المجتمعات الغربية الحديثة , أي أن المجتمعات الغير ديمقراطية سوف تمر بمراحل وأطوار مختلفة وان كل طور يكون أكثر تطورا من سابقه , فهل سوف تتحقق قناعات علماء الاجتماع فيما يخص العالم العربي أم هي مجرد أضغاث أحلام لا يمكن أن تجد لها موقعا في دول ساد فيها الإسلام المتشدد والإسلام التكفيري وأصبح فيها التطرف الديني هو الغالب ؟
ونحن نعلم أن جميع الأنظمة العربية فاقدة للشرعية بسبب وصولها إلى السلطة بطرق وأساليب بعيدة عن الشرعية القانونية والدستورية , إذ أن قسم من هذه الأنظمة تستند في حكمها واحتكارها للسلطة على أساس ديني وقسم آخر على أساس تاريخي , وبعضها عن طريق الانقلابات أو القفز على كراسي الحكم بالقوة أو بالتلاعب بالدستور ومن ثم احتكارها للسلطة وعدم السماح بتداولها بين مختلف القوى السياسية , ولهذا السبب نجد استمرار هذه الأنظمة في ممارسة القوة والعنف ضد شعوبها مما افقدها المبرر الأخلاقي لوجودها لأنها تعمل دائما من اجل تامين مصالحها ومصالح المنتفعين الملتفين حولها , كل هذا أدى إلى تصاعد حركات الإسلام السياسي في ظل شيوع مفاهيم دينية تحض عل الثورة ومحاربة الظلم ومعاداة الحاكم الظالم بسبب انفراد الأنظمة الحاكمة بالسلطة المطلقة والثروة الوفيرة بينما يقبع الشعب في الذل والمهانة , وتمارس عليه شتى أنواع القمع والقهر في عالم يتجه نحو الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان التي تعهدت بها المواثيق الدولية فحكومات العالم العربي تمارس كافة ألوان القمع والإرهاب والتعصب ضد مواطنيها , ويستشري الفساد المالي والإداري والأخلاقي في مؤسساتها بالإضافة إلى تبعيتها المطلقة للقوى الكبرى
كما إن ازدواج المعايير لدى دول العالم الغربية الغنية المعروفة بعراقة أنظمتها الحقوقية التي تنادي بحقوق الشعوب وهي من ناحية أخرى تقيم علاقات مع النظم الشمولية الدكتاتورية دون أن تحقق للشعوب أدنى فائدة مما ولد عند بعضها عدم قناعة بالنظام العالمي الجديد والقيم الإنسانية التي تنادي بها الدول الكبرى , مع عجز الشعوب عن بلوغ مرحلة الاستقلال والاعتراف بحقها بالعيش الكريم والآمن , ويذكر الباحثون إن من أهم عوامل ظهور التطرف في العالم الإسلامي هو الصراع الاقتصادي خاصة بعد انهيار النظام الشيوعي حيث عملت الشركات الضخمة الأوربية والأمريكية إلى استغلال البلدان التي تزخر بالثروات دون أن تحقق تنمية اقتصادية لتلك الدول التي استغلت ثرواتها بطرق غير قانونية وغير أخلاقية .
هذه العوامل وغيرها أدت إلى ظهور حركات تطرف في العالم العربي وتيارات إسلامية متشددة والتي هي وليدة بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية متخلفة ساهمت قسم من الأنظمة العربية على تكوينها بناء على مصالحها الأنانية , كما إن الدول الأوربية وأمريكا ساعدت ومولت هذه المنظمات الجهادية خدمة لمصالحها في أفغانستان بعد احتلاله من قبل السوفييت بالرغم من معرفتها بعقيدة هذه التنظيمات الجهادية المتصلبة , ولكنها دعمتها أيضا خدمة لأغراضها الخاصة ولمصالحها الذاتية .
وعلى الرغم من تعدد أسماء التنظيمات الدينية وأهدافها وتوجهاتها سواء أكانت سنية أو شيعية فهي يجمعها هدف واحد وهو الاستيلاء على السلطة وإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية , وهذا واضح جدا في كتابات مؤسسي هذه الحركات مثل كتابات أبو الأعلى المودودي , وحسن ألبنا وسيد قطب زعيمي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر , وزعيم تنظيم جماعة التكفير والهجرة في مصر شكري مصطفى , وزعيم تنظيم الجهاد في مصر صالح عبد الله سرية الفلسطيني الجنسية وغيرهم , هذا في الجانب السني , وفي الجانب الشيعي حزب الدعوة في العراق الذي ساهم في تأسيسه السيد محمد باقر الصدر وصالح الأديب والسيد مرتضى العسكري والقاموسي والسيد مهدي الحكيم , وتقوم نظرية حزب الدعوة الإسلامية على المرحلية في تحقيق أهدافه التي هي ( المرحلة الفكرية , المرحلة السياسية , مرحلة تسلم السلطة , مرحلة الحكم والرقابة ) , وكذلك من الحركات الشيعية الأخرى في العراق المجلس الأعلى للثورة الإسلامية , وحركة جند الإمام , ومنظمة العمل الإسلامي , وحركة الوفاق الإسلامي وغيرها الكثير من هذه المنظمات التي تدعو إلى قيام دولة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية في الحكم وفق الفهم الشيعي .
وليس كل ما ذكرته فيما سبق هي المنظمات الإسلامية الوحيدة التي ترفع شعار الإسلام هو الحل أو تدعو إلى قيام الدولة الإسلامية بل تمتد المنظمات الإسلامية في كل الأقطار العربية فهي إما فاعلة وتقوم بعمليات جهادية كما تسميها في كل من المغرب والجزائر وموريتانيا وغزة والسعودية واليمن والصومال والسودان ولبنان والعراق , أو هي نائمة في الأقطار الأخرى تنتظر ساعة الصفر لتبدأ بعملياتها الجهادية , فهل يمكن في هذه الأجواء المتشددة دينيا أن يقوم في أي بلد عربي نظام ديمقراطي من أهم مقوماته فصل الدين عن الدولة ووضع قوانين مدنية تطبق على الجميع بالتساوي , والمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن الجنس أو الانتماء الديني , واحترام حرية الفرد , وتهيئة الإمكانية التي من خلالها تقام البنيات المؤسسية القادرة على استيعاب التحولات المختلفة التي تطرأ على المجتمع .
إن نظرية التغيير تقوم على فكرة محورية هي أن الإنسان التقليدي غير قادر على صنع التغيير بنفسه , انه بحاجة إلى من يعينه على تحقيق هذا التغيير , فالثقافة الحديثة تولد عند الإنسان التقليدي القدرة على الانجاز فتحوله إلى إنسان منجز , والقدرة على الاختيار فتحوله إلى إنسان حر , والقدرة على التصور فتحوله إلى إنسان قادر أن يتصور ما هو واجب عليه وما هو حق له , ومن خلال هذا الإنسان حامل الثقافة الحديثة يتحرك المجتمع التقليدي من سكونه التقليدي إلى خط التحديث لا على المستوى الثقافي فحسب وإنما على المستويين الاقتصادي والسياسي كما أن التحديث لا يؤدي إلى تفكك اجتماعي كما يعتقد البعض بل على العكس من ذلك فهو يتضمن تكاملا اجتماعيا يعتمد على قواعد منظمة ومعايير ذات طابع أخلاقي عام .
إن استعداد المجتمعات العربية لتقبل التحديث والديمقراطية يرتبط بمدى الوعي السياسي والفكري لدى أبناء المجتمع لأنهم الفاعلين الأساسيين الذين يعطون للديمقراطية مضمونها الحقيقي من مفاهيم تحترم الحرية الفردية من جميع النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية , والتي بدورها ترسخ مبدأ الحقوق المدنية والتعددية السياسية والحزبية والحريات الفردية وحرية التعبير والفكر واحترام حقوق المرأة ومساواتها بالرجل وحق التعلم وتطوير التعليم وغرس القيم الايجابية للحرية والديمقراطية , وإعطاء الأولوية للتحديث والتجديد الثقافي وتنظيم العلاقة بين المجالين الديني والسياسي , وان ترسيخ الحريات المدنية والحقوق الفردية ضرورة يفرضها واقع التحول الديمقراطي والذي أجده بعيدا جدا عن التحقيق في الوقت الحاضر وفي الظروف الحالية خاصة وإن الإسلاميين يريدون العودة بالمجتمع العربي الى غزوات ومفاهيم القرن الأول من الدعوة الإسلامية لأنهم سيسوا الدين لكي يحققوا مصالحهم وأهدافهم وتطلعاتهم للسلطة من خلاله , ولن يسمحوا بأي حال من الأحوال نجاح أية تجربة ديمقراطية مدعومين من الحكام العرب الذين يعلمون جيدا بان الديمقراطية ستطيح بسلطتهم وتجردهم من المكاسب والمزايا التي تمنحها لهم تلك الكراسي .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى