بين الخنوع والتمرد
د.أكرم شلغين
من بين الأسئلة التي تتكرر لدى الكثير من الرازحين تحت حكم الديكتاتوريات في المنطقة العربية، من مشرقها إلى مغربها، تلك التي تتمحور حول الخوف الذي يطبع العرب، أفراداً وجماعات، من الأنظمة التي تتسلط عليهم وتستلبهم حقوقهم وحرياتهم، وكذلك عن الأسباب التي تضعهم في موقع العاجزين عن تحدي تلك الأنظمة والوقوف بوجهها. ونظرة مقارنة إلى ما يحدث في هذه المكان أو ذاك من العالم توقظ التساؤل عما يجعل سكّان منطقتنا يختلفون عن نظائرهم من الناس، خاصة حينما ننظر إلى الشعوب الأخرى تنتفض وتهب بوجه أنظمة لا نغالي، ربما، إن صنفناها بالوطنية وبالليونة تجاه محكوميها قياساً لما تنتهجه الأنظمة الفاسدة والقمعية في منطقتنا. بل، ناهيك، وأكثر حينما نرى أن أمر الانتفاض لا يقتصر على شعوب العالم التي تحكمها أنظمة طاغية وحسب وإنما أيضاً في البلدان الديمقراطية حيث لا تبدي الشعوب استعدادها للمساومة على ما هو حقها الطبيعي أمام من انتخبته ليحكمها، فلا تتباطأ بالاندفاع إلى الشوارع للتظاهر ولتطالب بإقالة الحكومة، لأصغر الأسباب، كما لو، على سبيل المثال، ارتفعت أسعار سلع استهلاكية.. وأما في منطقتنا فلا من متسائل جاد واع يحرك، أو يستطيع تحريك، ساكن بغية الخروج من دوامة التفقير والتجويع والتهميش الاجتماعي والسياسي التي زُجَّ بها من قبل أنظمة ليس بها واحداً تم انتخابه ديمقراطياً، هذا إن لم نتوقف عند الاستبعاد (الطّوعي والقسري) عن مسائل أخرى في غاية الأهمية، لطابعها الوطني والإنساني، والتي يفترض أن تكون في دائرة الاهتمامات المباشرة للأفراد والجماعات. وبشكل عام، لا تنحصر السمات التي تميز حياة البشر حيال فقرهم وجوعهم في العالم العربي فقط بالخنوع للواقع الراهن وعدم المساءلة عن مسبباته وإنما تتعداه فنجد أن الجميع مُرغَم على الصمت في كل الظروف ـ حتى لو قَتلت أو غَيبت الأنظمة اللاشرعية الحاكمة عشرات الآلاف من السكان فما من حرٍّ عزيز النفس يواجه المافيات الدموية بالسؤال البديهي (الذي لا يقبل أن يبقى بدون جواب وبدون تحمل مسؤولية تاريخية وإنسانية) عن ولده المقتول أو المفقود خوفاً من البطش. والأكثر غرابة، بل وصعقاً للعقل، ويصعب على المراقب من خارج العالم العربي ـ وليس له مصلحة باستمرار الوضع على ما هو عليه ـ هو مشهد اللامبالاة وسلبية الشعوب العربية حيال واقعها وكذلك هضمها السلس لقضاياها المريرة وتصويرها برواقية قل نظيرها، كما لو أن ما هي إليه من بؤس وشقاء ليس إلا حتمية لابد منها. لا يوجد ما هو أكثر وضوحاً بدلالاته على ضياع البوصلة الإنسانية وحجم المأساة التي وصلت إليها هذه الشعوب من منظر هرب شباب العرب المتعلقين بقوارب الموت وحقيقة تزويد العرب الرخيص لأسواق العالم للاتّجار بالبشر (وخاصة في الشكل الأكثر شيوعاً وهو إطناب مختلف أسواق دعارة العالم بفتيات العرب) وفي نفس الوقت الدّعاء للملك و”الرئيس” بالعمر المديد في كل المناسبات (بل واعتباره خارج دائرة المسؤولية عما يحصل). إزاء هذا الواقع، ثمة مراجعات كثيرة ومحاولات مطلوبة لتحديد مواطن الخلل الاجتماعي الذي يجعل الشعوب العربية تقف مكتوفة الأيادي مراقبة سرقتها وسرقة أوطانها وإذلالها من قبل مافيات عميلة (أ/و خائنة) تتوارث الأوطان بما، وبمن، عليها أو أن تهرب متناسية ممتلكاتها في بلدانها للصوص ومفضلة العيش على فتات العالم طلباً للأمان أو أن يقف مثقفيها يصفون واقع الشعوب العربية مفتقرين لتشخيص دقيق لأمراضها!
لا تدّخر أحاديث وكتابات العرب عموماً جهداً في التذكير بأن فلسفة هذا الحاكم العربي أو ذاك، في نظرته إلى، وتعامله مع، الشعب الذي يحكمه اعتمدت، فيما اعتمدته، القول المعروف “جوّع كلبك يتبعك”. هذا القول، بحد ذاته، لا يأتينا بالجديد فيما يخص أحد جوانب علاقة الحاكم بالمحكوم في العالم العربي من مغربه إلى مشرقه، إلا أن الغاية من استحضاره والاستهلال به تنبع من حقيقة كونه يدور ضمن المفاهيم المعتمدة لدى الحاكم والتي لا غنى عن تحديد أطرها وتوصيفها ودراسة معالمها على التوازي مع تشخيص تفاعل، أو امتثال، المحكوم لنزعات الحاكم؛ وفي ذلك إضاءة زاوية أساسية يتداخل ويترابط ما بها بمتانة مع ما يسمى “علاقات القوة” (Power Relations) وممارساتها في منطقتنا.
أن يؤثِر الحاكم العربي القول الآنف الذكر فذلك يحكي الكثير، ليس فقط عما لا ينسجم وزماننا في النظر لا إلى الإنسان ولا إلى الكلب ـ ولا نريد الخوض به الآن ـ وإنما أيضاً عما هو أكثر أهمية لنا هنا ونختصره بالإشارة إلى أنه بجانب نظرة الحاكم لشعبه كـ”كلب” وهو “مالك” ذلك الكلب فإنه يعرف أنه يمتلك أيضاً مفاتيح تحكمه، إذ يكفي تجويع الكلب ليتبعه، وبيت القصيد هنا هو التبعية والطاعة. وما دام الحاكم يجزم بأن كلبه الجائع سيتبعه فإنه سيشعر بالأمان لأن الجائع، برأيه، سيبقى تابعاً، خانعاً ومنصاعاً. لكن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: هل فكر الحاكم (أو النظام المتسلط) بشكل مختلف تماماً حول إمكانية ردود أفعال أخرى لـ”الكلب” المجوَّع غير تلك التي يتوقعها بحكم معرفته وخبرته بها؟ هل التجويع يعني دائماً وبالضرورة التركيع والطاعة والخضوع!؟ أم أن هناك احتمالات أخرى لم يتنبأ بها الحاكم!؟ أم هل لأن الحاكم يعرف بدقة آفاق من يحكمهم فإن ذلك يطمئنه كفاية إلى الحد الذي يجعل عقلنة مفاهيمه أمراً متعذراً أي إنه لن يذهب بتفكيره بالتالي إلى توقُّع ما هو غير مُتَوقَّع؟ أم هل ما دام الحاكم لم يعرف من الشعب ردود أفعال واعية ومقاتلة ضد سياسة التجويع، بل ـ وعلى العكس تماماً، فقد تثاقل الشعب حتى انتهى إلى الاستكانة والامتثال ـ فإن فلسفته (أي الحاكم) لن تتغير جوهرياً لتصبح: “جوّع كلبك يعضك!” أو “جوّع كلبك فينهش لحمك ويمزقك”!؟
بالتأكيد من يعطي لنفسه الحق ليحكم دون أن يكون منتخباً من قبل الشعب لا، ولن، يفكر بطريقة أخرى؛ وبدقة أكثر، أن يسعى الحاكم (في أي بلد في عربي) لنمط مغاير لعلاقته بالمحكوم فإن ذلك يتضارب ويتناقض مع مصالحه، من هنا ينبغي تركيز مراهنات المحكوم لكسر علاقة تبعيته بالحاكم وخضوعه له على العوامل التي يستمدها من معرفته ومن شروطه الذاتية لرسم آفاق تبقى ضمن نطاق المعقول في التفتيش عن الخيارات واستنباط الوسائل التي من شأنها غرس، أو تشكيل، عقلية الإنسان الحر في فرد منطقتنا وبالتالي تنمية روح التمرد لديه لكي يتحرر من نفسية العبد، التابع، الخانع المذعن، الأمر الذي يضعه على الطريق الآمن في بحثه عن العيش بشكل يتناسب وإنسانيته.
***
حينما نتكلم عن الشعوب الأخرى وتمسكها بحقوقها، سواء تلك التي لها والديمقراطية تاريخ عريق أم تلك التي تحاول السير في درب الديمقراطية والحريات، ينبغي ألا يكون غائباً عنا حقيقة أن مسيرتها لم تكن بتلك السهلة ولم تصل إلى ما هي عليه من دون جهد ونضال دؤوب متنوع الأوجه نظراً لأن القوة التي تعيَّن عليها أن تواجهها كانت تتحصن ليس فقط وراء عتاد وعدة واضحة بمعالمها بل أيضاً تمتعت بقوة دعم أيديولوجي تطوّر وتنامى على مر العصور إلى أن تغلغل في ثنايا العقول وبات تحديده ومقاومته وتفكيكه على قدر عال من الصعوبة. ومن الضروري تذكر تجارب تلك الشعوب التي قالت قولتها، بشكل أو بآخر، في الثورات التي اجتاحت أوربا على مر التاريخ أوفي الإصلاحات التي اضطرت إليها دول أخرى منذ زمن وليس فقط، وأولاً، في القرن العشرين.
سيكولوجية الفرد الخاضع كحصيلة لتركيب اجتماعي (Social Construction)
ترافق وجود القوي والضعيف في المجتمعات البشرية منذ القدم وعلى العموم بوجود منظومة من “المفاهيم” (set of conceptions)، و”القيم” (values) والخطابات (discourses) والأيديولوجيات التي تبرر و تشرعن للتمايز وترى به حكمة، سواء كانت غيبية تنحصر معرفة كنهها بـ”خالقها” أم اجتماعية حاضرة يعيد إنتاجها ويقيس عليها متبنيها مثل واجدها. فالإنسان، وفقاً للمنظومة المذكورة، موضوع (أو مزروع ـ إذا صح التعبير) بمكانه الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي بإرادة كبرى إلهية تعرف وتدبر وتسيّر كل الأشياء في هذا الكون وفق نظام “مُصمّم” بدقة، ولهذه الإرادة امتدادها الاجتماعي بما يتبعه من معايير، أعراف، مقاييس ونواميس تحدد مواصفات ومعالم الفرد “السوي” وترسم مقومات وشروط حركته في المجتمع، وبنفس الوقت تحارب من يحاول مساءلة هذه الحكمة أو القدسية (الإلهية وقرينتها الاجتماعية) أو الخروج على تعاليمها ومقاييسها المرسومة بدقة للإنسان [أو “المخلوق الضعيف” كما يحلو لمشرعني التفاوتية، أو الطبقية، الاجتماعية (Social Stratification) نعته]. لم يكن لنظام الأشياء هذا (The Order of Things) أن يستمر ويأخذ الدور الرئيسي الفاعل في قوننة الاستغلال في المجتمعات البشرية لولا حمايته بشكل أساسي عبر ثقافة مؤدلِجة مروّجة تشيّع وتطبّع لهذا الشكل من العلاقات الاجتماعية عبر ترويض الفرد وقولبة عقله وإخضاعه.
في دراسته حول التهذيب والتأديب (المراقبة والعقاب: ولادة السجن) (1) يبيّن ميشيل فوكو كيف انتقلت آلية تطويع وإخضاع الفرد بتركيزها من الجسد إلى العقل، ففي القرون الغابرة وقبل ولادة السجون في أوربا كانت تتم محاسبة العصاة (دينيا، اجتماعيا أو سياسيا) في العلن بساحة عامة أو في جانب من شارع يتخذ منه مسرحاً للاقتصاص من جسد العاصي أمام جمهور مدعو خصيصاً لمشاهدة “عملية المعاقبة” في غاية تعليمية لهم وفي دروس مفادها أن من يعترض على السائد أو يخرج عن المألوف فسيكون حسابه ومصيره نفس ما يلاقيه المعاقَب أمامهم. وقد بقي هذا الشكل من العقاب التعليمي سائداً إلى حين أن تمت عملية إعادة تنظيم وترسيم “القوة” في أوربا القرن الثامن عشر إذ (وتحسباً لتدخل الجمهور المُتَحشّد لمراقبة الاقتصاص الجسدي) بدأت المعاقبة والمحاسبة تحصل بعيداً عن الأعين عامة، في السجن حيث يتم إعادة قولبة عقل السجين عبر إخضاعه لنمط حياة يومية يتعلم بموجبها “التأديب” أو “الانضباط” في كل تفاصيل حياته كالنوم والاستيقاظ والأكل والشرب والتأهب ومزاولة طقس ما….إلخ (يصورها فوكو مترافقة مع قرع الطبل كمنبه صوتي في داخل السجن). وبعملية ممنهجة انتقل نمط التطويع المتبع لأفراد في السجن الصغير إلى “السجن الكبير” (المجتمع) عبر إخضاع البشر عامة إلى عمليات “تربوية” بطبيعتها لتصبح “معيارية” بتفاصيلها وتعقيدها وتتفوق بنجاعتها في أداء الغرض على طريقة الإخضاع الجسدي القديمة. بعبارة أخرى، تم استهداف عقل المرء بدلا من معاقبة جسده لقسره على الخضوع، وانتقلت العملية تدريجياً من التطويع الفرضي القهري للأفراد لتأخذ شكلاً آخر يتمثل في ابتداع معايير وأعراف ونواميس اجتماعية تتمثل بمجموعة من المفاهيم والنظم يدخل ضمنها، على سبيل المثال، المسموح والمحظور، الاستواء والشذوذ، المرغوب والمنفر، الصواب والخطأ في ثقافة اجتماعية تسوّد ويروج لها وفق خطاب إيديولوجي متعلق بكل مفهوم (ولم يعد هناك من داع للمنبه الصوتي المسموع المتبع في داخل السجن بل أصبح محسوساً حيث غدا سلوك الفرد “المقولَب” “موزوناً” و”منضبطاً” نفسياً واجتماعياً بآلية قريبة من تلك التي تعرف بالاستجابات الشرطية و الأفعال المنعكسة (كما تسمى في علم النفس الفيزيولوجي)، أو بالأدق يتطبّع عقل المرء ليصبح خاضعاً لقوة تشريط اجتماعي نفسي تفرضها الثقافة المهيمنة). وقد أنيط الدور الرئيسي في زرع وإرساء وتجسيد هذه الثقافة لأجهزة الدولة الأيديولوجية، التربوية وغيرها: مدارس، محاكم، مؤسسات دينية إلخ…(لويس ألثيسير (2))، فتغرس هذه الثقافة في الأجساد الغضة للبشر (docile bodies) ـ كما سماها فوكو وشبهها بمشاهدات مألوفة من مختلف مظاهر الحياة حيث يطبق شكل ما من أشكال القوة لتحديد المسار المراد لتشكيل الفرد السوي (انظر الشكل المقابل (3) ) ـ وذلك بدءاً من مراحل حياته الأولى مروراً بكل ما يخضع له من تعليم وتدريب، فتتبدى أشكال خضوعه ليس فقط في عموم المفاهيم التي وردت أعلاه بل وأكثر تعقيداً في أن يتقولب بالشكل الذي يغدو فيه محتسِباً لكل شيء بدءاً مما يتفوه به من كلام ومروراً بحركاته أثناء الأكل والشرب والمشي وطريقة الجلوس إلخ … ووصل الإخضاع بالمرء درجة عالية في التعقيد حتى بات يخاف من أن كل ما يفعله، أياً كان مكانه أو زمانه، لا يفر من المراقبة من إحدى القوتين المتكاملتين والمتناغمتين في هذا الاتجاه، فإن لم يكن مراقباً من البشر (حيث يسود العرف والقانون الاجتماعي) فهو مراقب من الرب (أو القانون الإلهي) … هذه “القوة” أصبحت تتحكم في المرء حتى في وحدته…لقد تقاطعت، وأحياناً توحدت، معظم العوامل الفاعلة والمؤثرة في تركيب وتشكيل السيكولوجية الفردية والجمعية عبر التاريخ لتحجيم إرادة الإنسان وتخديره للقبول خوفاً، أو “اقتناعاً” بما هو قائم، فالأسطورة والحكاية الشعبية واللوحة الفنية والعرف والدين (مع التذكير بالتأثير الكبير لهذه العوامل على الإنسان، دون الإطناب بالكلام عنها هنا) جميعها كانت تخدم، بشكل أو بآخر، الثقافة السائدة التي تحذّر من مغبة الخروج عن السائد عرفياً اجتماعياً أو دينياً.. إلخ أو محاولة زعزعته تحت طائلة الاقتصاص المريع. نعرج هنا على بعض من الأمثلة العالمية في سياق الحديث عن الدور الثقافي في تشكيل سيكولوجية الفرد الخانع. على سبيل المثال، في لوحة “درس التشريح” (1632) لرامبراندت يتجلى التداخل بين الفن وبين الهدف الاجتماعي السياسي ويتضح كيف يخدم الأول الثاني في غرض نتائجه مرتبطة وثيقاً بإحلال مراد لثقافة الخضوع التي تطرقنا إليها لتوّنا، فنجد في لوحة رمبراندت درساً تأديبياً تعليمياً للناظر أكثر منه رصداً لدرس التشريح. في اللوحة “الفنية” يظهر الدكتور نيكولاس تولب في تشريح يتكشف عن تلقين في الخضوع والخنوع آثاره (وآثار الدروس المشابهة له) تبقى ماثلة
في أيامنا هذه لما بها من تحذير. وإن كانت اللوحة تظهر الدكتور تولب وقد شرّح يد (آريس كندت) ـ الذي أعدم في وقت مبكر من يوم 12 كانون الثاني من عام 1632 ـ إلا أنّ المهمة المنشودة من درس التشريح ترسو على بُعد تعليمي اجتماعي محض يغطي على ما سمي بالتشريح. يُستدل على ذلك بأكثر من قرينة، فخلو المسرح، على سبيل المثال، من أدوات التشريح، وكذلك فإن يد الدكتور تولب اليسرى ترتفع بشكل يوحي بخطاب شفوي يمتد ليعبر إلى الجسد السياسي الحاضر (أي الجمهور الذي يشاهد عملية التشريح في ذلك اليوم) وليس لاستكشاف الجسد البيولوجي الهامد الممدد على مسرح التشريح للدلالة على أن الدكتور تولب يبقى الأداة السياسية أكثر منه المشرّح. كما أن أعين الجراحين “المصغين” للدكتور تولب والذين يظهرون في اللوحة لا تركز بمعظمها على التشريح بل تنظر لأماكن مختلفة و بعض منها ينظر إلى من يراقب “الدرس” في ذلك الوقت كما من ناظري لوحة رمبراندت على مر الأزمان. وفي حين أعطيت اللوحة أعظم عبارات التمجيد لجمالية “واقعيتها” ودقتها فإن في ذلك ابتعاد عما يُرى بوضوح فيها، فاليد التي وقعت عليها عملية التشريح تبدو أطول من، وغير متناسبة مع، رفيقتها الأخرى بالرغم من أن اليد اليمنى (والغير مشرحة) هي الأقرب لنا، أي أن تصوير رامبراندت لطول اليدين بهذا الشكل لايتوافق مع القوانين الطبيعية والفيزيائية حيث الجزء من الجسم المنظور الأقرب لعين الناظر يفترض أن يبدو هو الأكبر، وليس العكس! والجانب الأهم وما فوق القيمة الفنية للوحة هو أنها كانت نقطة تحول في حياة صاحبها رمبراندت حيث مهدت لدخوله للأجواء البرجوازية كفنان كبير في ذلك الحين. (كما لاحظ فرانسيس باركر (4)، أستاذ سوسيولوجيا الأدب في جامعة إسكس).
وكما الفن، كانت الأسطورة، على العموم، سباقة ورائدة بدورها في تشكيل الثقافة المنشودة لتحجيم أبعاد وآفاق التفكير الإنساني في حرية الحركة وحق الرفض لواقع ما. لعل في ما أرادته الميثولوجيا اليونانية البيّنة الناصعة على الجانب التعليمي والدروس الصارمة التي تقضي بألا تدغدغ عقل المرء فكرة عصيان إرادة الأقوياء والآلهة وحكمها، بل عليه الاستكانة للقدر مهما كان والقناعة بمحدوديته في حرية الحركة وعدم التفكير بخيارات أخرى.. وخلاف ذلك يعني العقوبة الأبدية والدمار للعاصي. سيزيفوس (Sisyphus) يعاقبه كبير الآلهة زيوس لعصيانه ويحكم عليه بعقوبة أبدية تقضي بدحرجة حجر هائل الكبر من الأسفل إلى قمة جبل شاهق في آلية تعذيبية حيث يبقى ناتج عمله عقيماً ولا يلوح ما يومي بأنه سيُنجز يوماً ـ وفقاً لما أملاه الحكم ـ إذ يدحرج الحجر إلى الأعلى بعناء وجهد كبيرين وقبل بلوغه قمة الجبل بقليل يسقط الحجر متدحرجاً إلى الأسف ليعيد سيزيفوس الكرّة محاولاً من جديد ـ إلى ما لانهاية ـ ويبقى كذلك إلى أبد “الآبدين” فاشلاً في وصول الحجر إلى القمة؛ وبدرس مماثل يُظهر المصير المريع الذي انتهى إليه أوديب، والدمار الذي عمّ في مملكته على الجميع، عبرة تقضي بأن تجاهل مشيئة القدر والاستخفاف بإرادة الآلهة سيؤدي لا محالة إلى دمار يحيق بمن يجرؤ على ذلك وكل من حوله، ومن غير الجائز الاستهانة بالإرادة الكبرى لأن في ذلك خطيئة عقوبتها تنذر بالويلات والكوارث الناتجة بسبب هذا التحدي، كما في خطيئة أوديب (ووالده الذي لم يضمن تنفيذ مشيئة الآلهة المنقولة إليه عبر العرّاف تيريسياس ـ حتى ولو اقتضى ذلك قتل ابنه). وكما لمشيئة الآلهة قدسية خاصة فإن للعرف الاجتماعي أيضاً مكانة كبرى لا يجوز المساس بها، ففي المثال الذي توقف عنده برتولد بريخت من الحكايا اليابانية ما يجعل المرء مستسلماً للعرف مهما كان في ذلك تضاداً مع الأهداف الإنسانية. تروي الحكاية الشعبية أنّ معلماً يخطط ومجموعة من تلامذته الكبار للذهاب في رحلة حج شاقة وخطرة عبر الجبال، فيعتزم تلميذ فتي (صبي) أن ينضم إليهم بغية إحضار الدواء لأمه التي تعاني من المرض، ويلح الصبي على السير مع المجموعة بالرغم من محاولات المعلم لإقناعه بالعدول عن فكرة مرافقة المجموعة نظراً لأن الرحلة ليست من دون التزامات تفوق غضاضة في تفاصيلها ما قد يأتي الصبي على التفكير به، ويتعهد بالالتزام بما تمليه جميع العادات المتبعة في مثل هذه الرحلة، ومن بين الأعراف ما يقضي بأن من تخور قواه أو يمرض أثناء الرحلة فسيكون جوابه معروفاً مسبقاً على سؤال المجموعة له حين تضعه الأخيرة أمام خيارين عما يتوجب فعله في هذه الحالة: الأول يؤدي بالمجموعة لأن تعود أدراجها قبل بلوغ نهاية رحلة الحج، مجازفة بأن عودتها ستجلب ما فيه مغبة وصمها بالعار، والثاني أن تتابع رحلتها حتى لو تطلّب ذلك رمي المريض الخائر إلى أسفل الوادي، وهو ما يتكفل بأن يختاره الصبي لنفسه إن طرأ على شروطه الصحية ما يمنعه من متابعة الرحلة. وهذا ما يحصل حين يمرض الصبي ويتعين عليه الجواب عن السؤال (المعضلة) عما سيقرر في خياره بين ما فيه تمسكاً بمنفعته ـ وبه الخروج عن التقليد والعادة ـ و بين ما فيه إيثاراً للصالح العام وهذا يعني بالضرورة تناسيه لنفسه وحقوقه، أي أن يجيب بـ”نعم” موافقاً على أن ترميه المجموعة إلى أسفل الوادي و تتابع رحلتها (5).
ثمة سؤال يطرح نفسه عما إذا كان ما يدفع بالفرد (أو الجمع) إلى دائرة تصديق ما يتعارض وفهمه، بل وذكائه، كإنسان ويجعله يقبل بما ليس له مصلحة فيه ينحصر كلياً بما يُلقَّن به ويتعلمه من الثقافة المهيمنة أم أن هنالك، إضافةً، عوامل ذاتية بحتة تلعب كذلك دوراً فاعلاً في تيسير هذه العملية! ربما يكون الجواب عن ذلك أكبر مما يستطيع واحدنا أن يحيط به، إلا أنه من المؤكد أن لمحدودية الإمكانيات البشرية وعدم توفر الأجوبة عن الكثير من التساؤلات ومما تبدو أسراراً غامضة، والعجز عن التخطي فوق الطبيعة البشرية، دوراً فاعلاً في هذا “الضعف” للقبول حتى بما فيه تنكر لمصالح البشر. ولعل ذلك يتكرر بأشكال وأنماط وأمكنة وأزمنة مختلفة وفقاً لما يتناسب وكل حالة، في المثال التالي نستشهد من التاريخ بحكاية تظهر وجهاً أيدولوجياً بارع الإتقان في استهداف سيكولوجية الضعفاء بما يخدم دعم آلية الاستغلال. عندما وصل الإنكليز في القرن السادس عشر إلى أمريكا وبدؤوا بإقامة المستعمرات، أرسل مبعوث الملكة إليزابيث الأولى إلى “العالم الجديد” سير وولتر رالي مبعوثاً (توماس هاريوت) ليشرف على المستعمرة المنشأة في نورث كارولاينا بمهمة عرَّفَها المستعمر في حينها بـ “تحضير” (civilizing) السكان المحليين أو من سُميوا وقتها بـ”الهنود الحمر” والتي لم تكن، في الواقع وبالمقاييس البديهية لعالم ما بعد الاستعمارية، إلا محض عملية إخضاع وهيمنة. يكتشف هاريوت ما يريحه في مهمته حيث أن “ثقافة” (culture) السكان المحليين تتكشف عن شيء من التدين، أو أنهم يتدينون بديانة ما أخذ يقارنها بالمسيحية، ولفرحته أكثر بدأ يلاحظ أنه بمرور الوقت وبفعل “عوامل دنيوية” صرفة تتعمق المشاعر الدينية لدى الهنود، أو بدقة أكثر، مع كل يوم يمر يتعزز في نفوسهم الشعور بقوة وقدسية دين الغزاة (المستعمرين، بكسر الميم)، ما حذا به إلى توظيف ذلك في استغلالهم، ويشرح موضحاً أن انبهار “الهنود” بما امتلكه الغزاة من أدوات (كالبوصلة البحرية وأدوات حسابية أو غيرها..) جعل من الممكن تشربهم لمفاهيم قاعدتها أنهم أدنى سوية من الغزاة، وقد أثمر ذلك في أوقات لاحقة، فعندما ندرت محاصيل “الهنود” بسبب عوامل طبيعية أشار هاريوت بثقة إلى أن “الرب المسيحي” سيتولى الأمر ويبدل من نتيجة شح المحاصيل هذه فيما لو كان لهاريوت وجماعته حصة منها، وهذا ما حصل وفقاً لتقرير الأخير لسيده (والتر رالي). بكلام آخر، إن وجود نواة لفكر ديني عند السكان المحليين جعل المستعمر يدرك توفر الأرضية التي يمكن الوقوف عليها واستخدامها بشكل حاذق في الإعداد المناسب لتجريع شرعنة الاستغلال، إنها الأرضية الدينية التي استثمرها ليصوب عليهم ما أسماه بنفسه: “رصاصات غير مرئية” (6) أطلقت على عقولهم وأصابت مرماها. وبشكل عام، فإن لشعور الإنسان بالقصور والغموض تجاه مسائل وجودية، كونية، بيئية، مناخية، صحية إلخ.. دور في تقبل الفكر الغيبي لدى الكثيرين، والفكر الغيبي بدوره يتمحور حول شرعنة وقوننة مسألة الاستغلال والصمت على الضيم وقبول المرء لموقعه أياً كان وعدم الخروج عنه أو تحديه، كما ورد أعلاه.
من الجدير بالملاحظة أن إحدى الركائز الأيديولوجية لمالكي القوة تعتمد أسلوب تصغير وتحقير الفرد بآلية توصله إلى الحد الذي يفكر فيه أنه لا قيمة له وهو لاشيء في هذا العالم أمام الكبار. فهناك نوع من الاستلاب لكرامة وعزة نفس الفرد وعملية تفريغ له من إحساسه وشعوره بقيمته الإنسانية (dehumanization)، الأمر الذي يزيل من عقله أية أفكار بالمقارعة والمقاومة والقتال ضد مستلبيه لأنه أصبح مجوفاً من محتواه الإنساني وهو لا أحد ولاشيء فيسير منقاداً منصاعاً إلى ما تجره إليه أدوات وقوى الاستغلال والتسلط. تتكرر آلية استلاب الفرد بشكل يومي في النظم التي تقدس الحاكم (والذي تصوره المكنة الأيديولوجية بامتلاك مواصفات استثنائية توصله حد التقديس فهو العارف الأول، والحكيم والفيلسوف والمهندس والمعلم والطبيب والقادر وخارق الذكاء والسياسي المحنك والملهم الكبير والمثقف النادر والقائد الفذ و..و..) وأما سواه من الرعية فهم ليسوا إلا مخلوقات تنتمي لقطيع أو لكتلة غبية ولا يستطيع البقاء لولا مقدرات وعطاءات الحاكم الخارقة.
يلعب تكرار هذه المفاهيم بشكل يومي، وجعلها المنهل الفكري الوحيد للجميع ضمن مجتمع ما، دوراً بارعاً في تحجيم وتشكيل الوعي الفردي والجمعي في المجتمعات وبشكل خاص منها تلك التي يعزلها حكامها عن رؤية ما يحصل خارج قوقعة الاستغلال والاستبداد، فتشكل النفسية (psyche) وتطبع الفرد والمجتمع ليبقى ضمن إطار القيد الذي سيتسم بمعرفة هذا المناخ المحصور وليس أكثر. وهنا يصبح التفكير بخيارات أخرى غير وارد أو مطروق، فكيف لمن يولد في السجن وينشأ ويترعرع ويكبر فيه أن يفكر بالحرية وهو لا يعرفها ومقيد ضمن جدران لا سبيل إلى معرفة ما بخارجها؟ كيف سيعرف هذا الإنسان قيمة أو معنى الحرية وهو معزول عمن يحدثه عنها أو يوصله إليها!؟ وكيف لهذا الذي ولد في السجن وكبر فيه إلا أن يخاف من أن يخنقه المجهول “الحرية” حين لم يعرفها أو يتذوقها بل كانت معلوماته عنها مملية من السجان الجلاد الذي حدثه عنها بالشكل الذي أراده !؟ أليس ذلك هو حال الفرد العربي (يمتد ذلك في كثير من الحالات ليشمل المثقف) الذي يكتب ضد، ويقاوم، فكرة الحرية والديمقراطية بحجة أنها غربية ويعتبرها غريبة ولا تتناسب وقيمنا العربية الإسلامية !؟ أوليس ذلك هو الحال عندما نقرأ أو نسمع حوار هذا المثقف العربي أو ذاك، وهو يحاكي دفاع الحاكم العربي المستميت عن الواقع الراهن وتعداد منجزاته ومقاومته للأسس التي تنسف أسس تسلطه، بالقول، وببساطة، إن الديمقراطية هي بدعة غربية تناسب الغرب ولا تناسبنا كعرب وكمسلمين؟ وبنفس الوقت، نحتاج في البلدان العربية لمن يفضح، وبشكل علمي واضح ودقيق، هذه المزاعم ويدحضها موضحاً أن الاستماتة لوضع العروبة والإسلام خارج النظم البشرية والأسس التي تعطي الإنسان حقه وحريته وكرامته قد توجّبت هنا بالمطلق لدعم الاستغلال وشرعنته، وأن الجدل بأن الأعراف والعادات والتقاليد والهوية والشخصية العربية والإسلامية أصبحت “مهددة بالخطر” في حال التغيير يخدم فقط في تقوية مواقع الحكام العرب أعداء الشعوب التي يحكمونها، وأما الفرد العربي فلن يخسر في حالة الخروج من هذا الثبات إلا أغلاله وعبوديته!؟
الماركسية والخروج عن العرف والتقليد والعادة
تميزت الماركسية في قراءتها لواقع المجتمعات البشرية بالعلمية حين عرّت المفاهيم والأسس (والأوهام) التي ترى أنّ في توضّع المجتمع طبقياً تكمن “حكمة” ما، ويعود للماركسية الفضل، كذلك، في الحض على عدم الإقرار بـ”قَدَر” واقع الاستغلال أو القبول بسكونيته مع توضيح الفارق بين رؤية الواقع والعمل على تغييره، ما شكل الحجر الأساس في صرخة ماركس وإنجلز لمضطهَدي العالم لتحقيق ما من شأنه تقويتهم في المجتمعات البشرية التي لم يتّسم تاريخها ـ حتى يومهم ـ إلا بـ “تناحر” طبقي. إلا أنه يؤخذ على الماركسية، وبرغم ما لها من أهمية تاريخية، أنها، بتركيزها على دراسة الواقع الاقتصادي الاجتماعي لمجموعات متضادة بملكيتها ورؤية المجتمع ضمن منظور الطبقات وتناحرها، قد أسقطت، أو أغفلت، المقومات التي تؤثر إلى حد كبير في تشكيل وقولبة سيكولوجية الفرد الخاضع (والسيكولوجية الجمعية للشعوب)، ففيما تولي الماركسية العناية لدراسة أوضاع “الطبقة” المستغلة (بفتح الغين) وتبيان حقوقها إلا أن ذلك جاء على حساب الاهتمام الأوسع بالنواة المشكلة لهذا الفصيل الاجتماعي (أي الفرد). وبانتباه، لا يتناقض والقراءة الماركسية، وإنما يتوسع بشكل ملحوظ بما يبدو تغطية أو امتداداً لمفاهيمها وإضاءتها بتفاصيل أخرى، انصبت جهود الكثير من المعنيين (ماركسيين وغيرهم) في القرن العشرين على دراسة، بحث، تبيان وإبراز أن الفرد الخانع إنما هو حصيلة تركيب اجتماعي تضافرت عوامل تاريخية، سياسية، اجتماعية لإنتاجه (كما ورد أعلاه)، من هنا جاءت محاولات بعضهم الفنية، الفكرية، الاجتماعية والسياسية لنسف الأسس الثقافية التي تسهل تشرب الفرد لما يجعله يقبل خانعاً بمصير يضر بمصالحه ويشرعن لعملية استغلاله. انطلاقاً من هذا الهدف نجد هناك إعادة قراءة وإعادة حَبك لما شكل الوعي الفردي والجمعي في السابق كالاسطورة والحكاية والفن والأدب وغيرها، فعلى سبيل المثال، يساعد الفنان الألماني الشرقي (فولفجانغ ماتهوير) سيزيفوس (ويساعدنا أيضاً) على رؤية خيارات أخرى تقطع مع المقدسات وتحث على التمرد على مشيئة الأقدار وعلى حكم الآلهة فيعيد فنياً وفكرياً صياغة حكاية سيزيفوس حيث يصوره تاركاً الحجر (7) ليمضي بعيداً عنه ناشداً انعتاقه من عبودية الحكم وسائراً في درب حريته وتحرره. وكذلك حفّز المخرج الماركسي الايطالي بيار باولو بازوليني بفيلمه أوديب (1967) النقاش حول مأساة أوديب بتناول المسألة من وجهة نظر مختلفة محورياً عن تلك التي أرادتها وجهات النظر المثالية، فبدلاً من ترقب سلبية أوديب في الخطوات التي لا سيطرة له عليها ـ كونها مرسومة مسبقاً ـ يحيد بازوليني النظر إلى جانب آخر يتعلق بطبيعة الآلهة التي اختارت أوديب لتعذبه.. فتصبح المسألة اعتباطية الآلهة التي تعذب أوديب لا لذنب اقترفه بل اختارت أن تعذبه لتبيّن جبروتها وقوتها. وهنا تكمن أهمية فكر وفن بازوليني حين نسحب كيفية تناوله لمأساة أوديب على التعاطي مع التعاليم الدينية والاجتماعية التي يرفعها المستفيد منها إلى منزلة مقدسة ليس للأفراد حقاً أو مقدرة في التجاسر عليها. وهذا ما فعله بريخت أيضاً بالحكاية اليابانية التي عرجنا عليها أعلاه أيضاً عمن يقول “نعم” مراعاة لعرف بضرورته على حساب هدف رفيع الأهمية بمضمونه الإنساني فقوَّل بريخت الصبي “لا” لتركه وحيداً أو رميه إلى الوادي حين مرض في رحلته مع المجموعة عبر الجبال (8)، و”لا” الصبي هي اللاء العامة التي أرادها بريخت على نطاق أوسع لنا لنفكر بخيار إنساني لمصلحة الشعوب وليس عرفي وضعته فئة منها لخدمة مصالحها وأنانيتها وشرعنةً لنهمها في الاستغلال.
***
بعد هذا التوقف عند بعض الأمثلة العالمية الشهيرة في تركيب الأيديولوجيا المرافقة للتسلط والاستغلال، ودورها وامتدادها السيكولوجي في تشكل الوعي الفردي والجمعي ونحت عقلية الفرد، ومن ثم التطرق لمساءلتها بهدف زعزعة وهدم قدسيتها من قبل مفكري وفناني وأدباء القرن الماضي نعود إلى عالمنا العربي لنتساءل عن دور المفاهيم والتعاليم الدينية والعرف الاجتماعي والأيديولوجيا السائدة والتي تتكرر تفاصيل تلقينها بأشكال وأنماط جميعها تدعّم سكونية واقع ملايين العرب، مع التذكير، وبالطبع، أن العامل الذاتي والتركيب النفسي للفرد، على الرغم من أهميتهما والتي أُوليت حيّزاً كبيراَ من الانتباه هنا، ليسا القوة الوحيدة التي تلعب الدور الحاسم في حالة السكون العربية (كما أشرنا أعلاه).
لا تخرج الأعراف والعادات والتقاليد والتعاليم الدينية الإسلامية المتبعة في العالم العربي عن المعروف عن إطار ما هو معروف عن نظائرها في بقية الأديان في العالم والتي تبرر لتوضع المجتمع طبقياً وهرمياً وتجتهد لتلقين الجميع أن في ذلك تكمن حكمة. وليس استطراداً هنا أن نعرج بالتذكير أن التوجه لدى عامة العرب نحو التدين أكثر فأكثر منذ سبعينات القرن الماضي في المنطقة العربية تم بتشجيع مشترك ولمنفعة متقاطعة بين الحكام العرب وبين صنّاع القرارات السياسية العالمية وفق ما اقتضته وأملته الشروط السياسية في العقود الأخيرة من الحرب الباردة، فللحكام العرب مصلحة بأن يطاعوا كـ”أولياء أمر” ويبعدوا عنهم شبح ثورة الشعوب التي يتسلطون عليها ويبددون ثروتها، وللجزء من العالم الداعم للتدين في المنطقة العربية مصلحة مزدوجة تتلخص في استخدام العرب وثروتهم في محاربة العدو الشيوعي (في الكتلة الشرقية سابقاً) المقلق سياسياً للغرب والكافر الذي على المسلم محاربته من جهة، ومن جهة ثانية عما للأيديولوجية الدينية من فعالية ناجعة في ضرب الشعور القومي للعرب ـ المتربعين على ثلثي احتياطي العالم من النفط ـ بالإسلام والذين لو فكروا بطريقة مختلفة واتجهوا نحو خيارات أخرى لكانوا قوة يحتسب لها. في كل الأحوال، لا يجادل الكثيرون على أن للتدين المتزايد في العالم العربي تأثيراً هداماً على شعوب المنطقة حيث له مفعول تسكيني تخديري لأن ما نحن فيه من كوارث، مآسي، استغلال، استبداد وقهر هو محض إرادة سماوية أو اختبار لإيمان المسلمين، بل تذهب رواقيتهم في هذه المسألة إلى حد الشكر ويفلسفون ذلك بحمد “الله” دون إرجاع ما هم به من مآسي طبيعتها دنيوية وأرضية (سببها الاستغلال والقهر والتسلط والقمع) إلى رداءة من نصّبوا أنفسهم خلفاء الله على الأرض، بل وأكثر يتعاطون مع واقعهم بعقلية المنتظر الموعود بالتغيير في العالم الآخر أي “الجنة”، فبقدر ما يثبتوا أنهم راضين مقتنعين بوضعهم الذي أراده الله لهم ويبيّنوا أنهم أوفياء لإرادته ولما أوصاهم به الرسول ليسمعوا ويطيعوا.. وينصاعوا لــ”أولي الأمر” الذين “ائتمنهم الله” على الأرض بقدر ما يثبتوا عمق إيمانهم، وفي نهاية المطاف، بقدر ما يتقبلون ما هم عليه من صعوبات وفواجع في دنيا “الفناء” فإنهم يضمنون أسمى وأرفع الأماكن والمنازل في “دار البقاء”. بعبارة أخرى، إنها لمن مفارقات وغرائب التركيب النفسي للمرء أن يتقبل ويتحمل، بل ويفرح، بما يلم به من مصائب يسببها له إنسان مثله في هذه الدنيا لأنها تذكرة ارتقائه لعالم السعادة الذي يحدثهم الدين عنه وهو في “دار القرار” و”الاستقرار!” ويجدر بالذكر أن ظهور فئة بين المتدينين ممن تخرج قليلاً عن أسوار حظيرة الحاكم العربي (كالمنظمات الضالعة في العنف) لا تمثل حالة صحية على طريق انعتاق العقل بل، على العكس، فإن عملها ينبع بالمطلق من نزوع نحو التزمت وليس لمصلحة أو خدمة عامة الناس والأمثلة هنا كثيرة ومعروفة ولا داعي للإطناب بإيرادها. خلاصة الأمر، من المفيد للمثقفين العرب الترويج للفكر العلمي الدنيوي بقوة وصرامة ووضوح (وبإدراك، وبرغم، أن ذلك الطريق لن يجنبهم الصدام مع المستفيدين من ستاتيكية الأمر الواقع إلاّ أن الأهداف المنشودة في خدمة الشعوب التي ينتمون إليها تستحق بامتياز الخوض بها مهما كان في ذلك من إشكاليات وتكلفة). يتعين التشديد على رفض الأنظمة الفاسدة التي تفقر الشعوب الواقعة تحت حكمها زاعمة أنها تنطلق من أسس دينية بل يجب على الأخيرة مقارعة من نصّبوا أنفسهم أوصياء الله على الأرض فقط ليسرقونها وصوروا الإله بأنه يحابي في اختياره مجموعة من اللصوص والمستغلين، فلا يجب الإذعان لتعاليم، مهما كانت، تساهم في استسهال مصائبنا الأرضية المنشأ على أمل المكافأة في العالم الآخر. يقول ستيفن واينبرغ، عالم الفيزياء (الحائز على جائزة نوبل للعام 1978) أن في “الدين إهانة لكرامة الإنسان،[لأنه] بوجود الدين أو من دونه، سيكون لديك بين البشر أخيار يقومون بأعمال خيّرة وأشرار يقومون بأعمال شريرة، ولكن لكي يقوم الأخيار بأعمال شريرة فإن عملهم يحتاج إلى الدين.”
في كثير من الأحوال تنشط الآلة الأيديولوجية لتوجيه دفة تفاعل الناس مع قضاياهم الأساسية بمنتهى البساطة والرواقية في رؤية واقعهم بأنه الأفضل عبر دفع تفكيرهم نحو المقارنة مع من هم في وضع أسوأ، إلا أن الواقع المذري للغالبية من الناس يجب أن يدفع نحو التفكير المعاكس تماماً أي المقارنة مع من يتمتعون بشروط اقتصادية واجتماعية وسياسية أفضل، مادامت مسببات التفاوت بشرية بحتة وليست ناتجة عن عوامل أخرى، ليس دائماً بالمقدور أمر التحكم بها، كالكوارث الطبيعية أو الأمراض التي ليس لها دواء أو الموت الطبيعي الناجم عن الشيخوخة…). إن الشعوب العربية هي المستفيدة الأكبر من خلخلة الأسس التي تشرعن للاستغلال وانتهاك حقوق الإنسان في منطقتنا.
يخطر ببالي ما قرأته في مذكرات ابنة أحد القادة الإنكليز أثناء استعمارهم الطويل للهند، حيث ذكرت أنها كانت تعيش بترف عال في قصر تتمتع فيه بحراسة الهنود الذين يخضعون لأوامرها ويعملون لديها كالعبيد بدون تذمر أو شكوى مع أن ما يحصلون عليه ليس إلا جزءاً صغيراً من خيرات هم أصحابها بالأساس، وقد أعلمها والدها أنهم أصبحوا كذلك لأنهم “أُفهموا” أنهم “أضعف” و”أقل قيمة” ممن يحكمهم… وجال في خاطر كاتبة المذكرات ما يمكن أن تؤول إليه الأمور فيما لو فكر هؤلاء الهنود بطريقة أخرى وتمتعوا بسيكولوجية مختلفة، وهم الأكثرية! وتقول في نفسها: “ماذا لو فكروا أنني غريبة عليهم؟” ماذا لو فكروا بنسف الأسس التي جعلتهم يقبلون بما هم عليه؟ وماذا لو فكروا في اقتحام القصر فهل ستحميني المفاهيم التي أُدخِلت إلى عقولهم عن أفضليتي عليهم كأوربية؟ ترى هل يفكر حكام الشعوب العربية بطريقة تلك الإنكليزية!؟ وماذا لو فكرت الملايين من الشعوب العربية بما أخاف كاتبة المذكرات مما قد يرد إلى أذهانهم من خيارات تحطم أيديولوجيا مركبة بزيف المستفيدين منها؟ والتمحيص في العلاقة ما بين سيكولوجية الفرد الخانع والعوامل التي قزمته إلى هذا الحجم النفسي يقودنا لا محالة إلى نقطة تربوية محوريةُ الدور في تسهيل تشرب الفرد للمفاهيم التي تدنّي من ثقته بنفسه وتؤطره بإحكام ضمن هذا الأسر النفسي. إن واقع كون الأفراد والشعوب العربية مستلبة الإرادة والشخصية والهوية الإنسانية يتكشف أيضاً عن مسألة اجتماعية تربوية تحقن بالأفراد منذ الصغر فكرة أنهم لاشيء، ولا أحد، ولا قيمة لهم. في الدول التي تقدر الفرد وتحرص على المواطن حرصها على الوطن ينشأ الفرد على إدراك أهميته فهو ليس هامشياً وإنما هو مركزياً أياً كان ومهما كان ويتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها غيره، ولعل التعريف بشتيمة في الثقافة الألمانية يُبيّن الفرق التربوي بين ما تزرعه آلة الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية للفرد العربي وبين ما تعلمه المؤسسات والدولة لأبنائها في البلدان التي يتمتع بها الإنسان بإنسانيته، فقد تناهي إلى سمعي شتيمة وجهتها فتاة ألمانية لشخص اغتاظت منه فقالت له: (Du bist niemand!) “أنت لا أحد” أي بمعني أنت لاشيء أو لا قيمة لك، وهذا يشكل إهانة كبرى لشخص تنشّأ على أن يعرف قيمته كفرد، كمواطن، وكإنسان… بالنظر إلى قيمة الفرد في ألمانيا لابد من سؤال، ترى هل هناك الكثيرون بين العرب ممن يدركون أن الأنظمة العربية تشتمهم وتهينهم في كل ثانية عندما يعرفون البشر أنهم لاشيء ولا أحد!؟ وأما القائد الملهم فهو كل شيء وهو الإله على الأرض. فإذا كانت الأنظمة الديكتاتورية تعتمد عبادة الفرد وتحرص على تقديس الحاكم كرمز فإن ما ينبغي التركيز عليه هو نسف هذه المقولة والخطابات المتعلقة بها وتبيان من هو هذا “الرمز” وما هي طبيعته ومعرفته وثقافته وهشاشة المزاعم التي تنصبه متميزاً عن بقية البشر.
إلى جانب ما ذكرناه سابقاً، لابد من زعزعة الثقافة الاجتماعية السائدة في العالم العربي والعرف والتقاليد وما يرسم حدود الصواب والخطأ وفقاً لمصالح الأنظمة والفئات الحاكمة، فعندما يجوع الفرد العربي أو يغبن ويضام يجب ألا يصمت على ما يضيمه أو يشعر أن عليه أن يخفي ذلك “العيب” فيفضل النوم جائعاً على أن يصرخ إنه “جائع لأن حاكمه وحواشيه يسرقون أمواله ويستثمرونها في أنحاء العالم”، وعليه أن يخطط مع غيره لما يجب عمله! فإذا صورت الثقافة السائدة الفقر عيباً يُعيَّر به من يشتكي منه فإن الأشد عيباً من ذلك هو الصمت والقبول بهذه الثقافة. وإذا اتهمت أبواق الأنظمة الحاكمة من يشتكي من سرقته أو يتكلم بالشؤون الوطنية بالخيانة أو روجت بين من يعرفونه لقول يتهمه بشكل أو بآخر فإن على الشعوب العربية أن ترد أقاويلهم عليهم وتدعّم رأيها بالأمثلة على خيانتهم وغدرهم. وعندما ينالون من أحد منا ويزجونه في سجن عارهم وغدرهم وخيانتهم فعلينا أن لا نكتفي بالتعاطف مع السجين وإنما يجب فعل أكثر من ذلك لمن يحكي باسمنا جميعاً ويتحمل ـ وأسرته ـ أعباء مواقفه الوطنية والإنسانية الصادقة.
وأخيراً، علينا أن ندرك أن أي حل لن يأتي من الحكام ( إصلاحاً كان أم غير ذلك…) وليس هناك حلاً من الخارج (ما لم يكن هناك مساومات وتنازلات…). وإنما الحل الوحيد يبدأ باستعادة الشعب لثقته بنفسه وتقوية ذاته، وكي يكون هناك تكاتفاً شعبياً شاملاً وواسعاً يجب أن تتسم خطوات من يتبوأ لهذه الأمانة بصدق التوجهات وهذا يعني السير بدون دوافع أو مؤثرات تحيد عن الأهداف المنشودة أو التفرد بالرأي والإقصاء وعدم رؤية الآخر والاستماع إلى وجهة نظره…فالتنميط لأي كان ـ نظراً لخلفية ما، قومية أو دينية… لن يخدم في تجميع الناس لمقارعة أنظمة عاتية متمرسة تحكمها منذ عشرات السنين.
حاص – صفحات سورية –