قبائلنا وقبيلة أميركا
حازم صاغيّة
عند كلّ محطّة عراقيّة كبرى، يُستعاد تاريخ منطقتنا وثقافتها ولغتها السياسيّة وطرقها في النقد والنقد الذاتيّ.
والآن، مع الانسحاب الأميركيّ، ما الذي يزخر به العراق، ومن ورائه المنطقة؟
العنوان الأبرز الذي يسجّله بعض العرب، بمن فيهم عراقيّون، بحماسة ونشوة، هو: تجدّد نشاط «القاعدة» وتوسّعه. ومثل هذا الاحتمال، وهو للأسف كبير الحظّ، يعني مزيداً من القتل الطائفيّ، واقتراباً أكبر من حافّة الحرب الأهليّة المفتوحة، وتوسّعاً لرقعة اللاتسامح في الحياة العراقيّة، والعربيّة، فضلاً عن توفير منصّات أعلى وأوفر عدداً للأفكار الهمجيّة المنبعثة من قبور التوابيت السحيقة. لكنّ تجدّد نشاط «القاعدة» وتوسّعه يضيفان إلى سعادة السعداء به سبباً آخر، إذ هو دليل على… فشل الأميركيين في بلاد الرافدين!
العنوان الثاني الذي لا يني يستظهر نفسه في صورة يوميّة، هو: تفاهة السياسيّين العراقيّين العاجزين عن تشكيل حكومة تسدّ بعض الفراغ السياسيّ الذي يرعى فيه الإرهاب. لقد حلّت التفاهة والصَغار، بعد 2003، محلّ القسوة الاستثنائيّة التي رمز إليها صدّام حسين وحكمه وبعثه، كما لو أنّ الخصوبة العراقيّة، والعربيّة إلى حدّ بعيد، تقتصر على توليد التفاهة والقسوة.
مع هذا، ثمّة سعداء لا يكتمون سعادتهم، إذ الوضع الجديد من صنع الأميركيين، وانقشاعُ عجزه وتفاهته ما هما إلاّ الدليل على فشلهم.
وبالفعل بات الرضيع يعرف أنّ الأميركيين ارتكبوا أفدح أخطائهم، بعد حرب 2003، حين حلّوا الجيش العراقيّ، وقضوا على الأداة الوحيدة القادرة على إدامة وحدة عراقيّة ما، ولو شكليّة. لكنّنا حين نتّفق على هذه الحقيقة نكون نعلن أنّ العراقيّين في حاجة إلى طرف قسريّ وقمعيّ من أجل الإبقاء على وحدتهم وردعهم عن التقاتل. وحتّى لو افترضنا أنّ مخطّطاً أميركيّاً شيطانيّاً هو الذي حمل واشنطن على حلّ الجيش، بقي أنّ العراقيّين هم الذين استجابوا لهذا المخطّط ونفّذوه بأيديهم حين اشتهى بعضُهم الموت للبعض الآخر وحين مارسه بعضهم بحقّ البعض الآخر.
بلغة أخرى، تكمن المسألة هنا: لماذا لا نملك، حين تسقط دولنا، بدائل أرقى منها ومن سلطاتها؟ لماذا لا نملك في جعبتنا، من بين الفاعلين السياسيّين الكبار، إلاّ وحشيّة صدّام ووحشيّة «القاعدة» وتفاهة السياسيّين البدلاء؟
لا شكّ في أن طرح المسألة على هذا النحو يخرجنا من التسطيح السياسويّ الضيّق والشائع بحجّة مكافحة «الجوهرانيّة»، فنعود هكذا إلى حقائق تاريخنا المتعثّر بذاته بدل التيه الذي نسبح فيه تحت مسمّيات «وطنيّ» و «تقدميّ» و «رجعيّ» وسوى ذلك. ونقطة البداية، حين نوقف الأمور على رأسها، أنّنا، منذ احتكاكنا بالعالم المعاصر، آثرنا رفض الوطنيّة والدولة كما حملهما لنا الاستعمار (ولم يحملهما غيره)، وتمسّكنا بموروثنا العصبيّ وانقساماته الأهليّة حتّى حين كنّا نخوض صراعات «قوميّة» و «تحرّريّة». أليس في رأس قيم البداوة، مهما حُدّثت وأُدلجت، أن يفرح بعضنا لعنف «القاعدة» تمارسه ضدّ «القبيلة» الأخرى، أو أن يتبرّع بعضنا لإيران بما أعطي له من قوّة وتأثير، إذ هي من يضمن الحدّ من قوّة «القبيلة» الأخرى؟ أوليس في رأس قيم البداوة، مهما حُدّثت وأُدلجت، رفع المسؤوليّة عن النفس وإحالتها إلى طرف ثالث، فعليّ أحياناً وغيبيّ وهميّ غالباً؟ وهذا الطرف اسمه اليوم «قبيلة» أميركا!
الحياة